شهاب الدين الإدريسي
:: عضو مؤسس ::
- انضم
- 20 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 324
- التخصص
- التفسير وعلوم القرآن
- المدينة
- مكناس
- المذهب الفقهي
- مالكي
1-اسمه و نسبه:
هو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي. المعروف بابن أبي رندقة. أحد كبار أئمة المالكية خلال القرن الخامس و السادس الهجريين. كان من أهل الزهد و الورع مبتعدا عن أهل الأهواء، مقاطعا للمبتدعة حاملا للواء الإصلاح بمشرق الأرض و مغربها، نزل الإسكندرية في وقت غلب فيه مذهب العبيديين و تعطلت فيه الأحكام، نقل عنه الإمام الذهبي أنه قال: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية لما كانت عليه أيام العبيدية من ترك إقامة الجمعة و من غير ذلك من المناكر.. أقول له: وجدت قوما ضلالا فكنت سبب هدايتهم[1]. و أما نسبه فعربي أصيل حيث تجمع المصادر على انتهائه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال ابن حزم: وهم قريش لا قريش غيرهم، و لا يكون قرشي إلا منهم، و لا من ولد فهر أحد إلا قرشي[2]. ولآل فهر بالغرب الإسلامي مجد عظيم وتاريخ مجيد خاصة في تثبيت الإسلام ونشر العربية مع من جاء من العوائل العربية تحت قيادة موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية. وقد أجمع المؤرخون والمترجمون على أن جد الفهريين بالأندلس هو حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري فاتح شرق الأندلس رفقة موسى بن نصير سنة ثلاث وتسعين هجرية. وقد أشاد الطرطوشي بأسرته ودورها في توطين أركان الدين بالأندلس خاصة بسرقسطة وذكر استبسالهم في المرابطة بالثغور الشمالية وفي حمايتها من هجمات النصارى القادمة من الشمال [3].
2- كنيته:
قال ابن بشكوال: يكنى أبا بكر ويعرف بابن أبي رندقة [4] وبذلك جزم ابن فرحون أيضا فأغلب مصادر ترجمته تكنيه بأبي بكر وقد كناه بعضهم بأبي عبد الله أو أبي الوليد، قال الونشريسي: و مما كتب به الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الوليد الطرطوشي... [5].
3- لقبه:
يلقب الطرطوشي بابن أبي رندقة بالفتح والضم، قال ابن فرحون: رندقة براء مضمومة مهملة و سكون ساكنة ودال مهملة و قاف مفتوحتين[6]. ويوضح ابن خلكان معنى الكلمة فيقول: رندقة بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف هي لفظة إفرنجية سألت بعض الفرنج عنها فقال: معناها: رد تعالى[7]. وقد نقل هذا المعنى كل من ترجم للطرطوشي كابن بشكوال في الصلة، والذهبي في السير، والسبكي في الطبقات، والمقري في نفح الطيب، والسمعاني في الأنساب، والحموي في معجم البلدان، وغيرهم.
4- مولده:
اتفق كل من ترجم للطرطوشي على أن مولده كان بمدينة طرطوشة بالأندلس سنة 450 هجرية أو 451 على خلاف في ذلك يسير.
5- وفاته:
أغلب من ترجم للطرطوشي مجمعون على أن المنية وافته بمدينة الإسكندرية سنة 520 للهجرة، و أنه دفن بالقرب من مسجده الذي يعرف باسمه هناك، و قبره مشهور يزار[8].
6
- شيوخه:
أخذ الإمام العلوم عن ثلة من علماء عصره بالمغرب و المشرق لم تذكر المصادر التاريخية عن الأندلسيين منهم شيئا كثيرا. عرف منهم أبو الوليد الباجي الذي تتلمذ عليه بعاصمة الإقليم الشرقي للأندلس: سرقسطة، و قد ذكره الطرطوشي في أغلب مؤلفاته. و منهم أبو عبد الله الحميدي صاحب كتاب جذوة المقتبس، و هذان يعدان أشهر شيوخه الأندلسيين. أما مشايخه بالمشرق فكثيرون بالحجاز و الشام والعراق... نذكر منهم: أبو بكر الشاشي، والشيرازي، والتستري، وابن الصباغ، وعبد السيد بن محمد بن عبد الواحد، وأبو سعد المتولي، وأبو نصر الزينبي محدث العراق وفقيهها، وأبو سعد الزوزني، وأبو بكر الجرجاني، وغيرهم كثير.
7- تلامذته:
أضحت مدينة الإسكندرية في أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، مقصد كل طالب، ومتجه كل عالم، ومحطة الحجاج والمعتمرين، وكل وافد على المشرق لغرض من الأغراض. كلهم يروم زيارة عالمها المترجم له الذي اقتسم الزعامة المعرفية مع الإمام أبي حامد الغزالي في هذا القرن بالمشرق العربي. وقد تخرج على يديه بمدرسته التي أسسها بالإسكندرية جمع غفير من الطلبة يزيدون عن المائتين. جاءوا من المغرب ومصر والأندلس. ومن أشهر تلامذته وأقرب أصحابه الساهرين على خدمته: أبو العباس أحمد بن معد التوجيبي المعروف بالإقليشي، ترجم له ابن مخلوف فقال: وكان زاهدا عالما عاملا فاضلا [9]. ومن أشهرهم أيضا القاضي أبو بكر بن العربي المعافري المالكي و والده، تتلمذا على الطرطوشي ببيت المقدس ومصر، توفي الوالد هناك وصلى عليه الطرطوشي وعاد الابن بسيرة الطرطوشي وخبره إلى المغرب العربي.
ومن تلامذته أيضا: القاضي أبو علي الصدفي المعروف بابن سكرة السرقسطي، أخذ عن الطرطوشي علوم الحديث بمكة والعراق، قال: ولقيته بمكة المكرمة وأخذت عنه أكثر كتاب السنن لأبي داود عن التستري[10].
ومن تلاميذه أيضا: أبو بكر محمد بن الحسين الشهير بالميورقي [11].
ومنهم أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم بن عثمان العبدري المعروف بالثغري. [12]
ومن تلامذته أيضا أبو عمران موسى بن سعادة المرسي، وأبو عبد الرحمان مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي المعروف بابن زعوقة، وأبو محمد عبد الله بن موسى بن سليمان المعروف بابن برطلة، وأبو عبد الله محمد بن مسلم القرشي المازري، والمهدي بن تومرت صاحب دعوة الموحدين...[13] ومن أكبر الأعلام الذين أخذوا عن الطرطوشي: القاضي عياض اليحصبي الذي لولاه لما ذكر المغرب،كما قيل، أجازه الطرطوشي مكاتبة.
8ـ آثاره:
تتوزع مؤلفات الطرطوشي بين الفقه، وفروعه المالكية، والأصول، والتفسير، والحديث، والسياسة الشرعية، وغيرها، منها ما طبع، ومنها ما فقد، ومنها ما لا يزال مخطوطا رهين المكتبات.
المفقود:
1ـ التعليقة الكبرى في الخلافيات:
ـ ذكره ابن فرحون ينسبه إليه في كتابه: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ج 1 ص 16.
ـ ذكره خير الدين الزركلي في (الأعلام) ج 7 ص 359.
ـ ذكره ابن خلكان في (وفيات الأعيان ) ج3 ص394.
ـ ذكره ابن مخلوف في (شجرة النور الزكية) ص125.
ـ ذكره المقري في نفح الطيب وحاجي خليفة في كشف الظنون.
2) مختصر كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصله لأبي محمد عبد الله بن جعفر بن حبان:
ـ ذكره ابن خير في الفهرست ص271، وانظر كتاب: أبو بكر الطرطوشي، العالم الزاهد الثائر للدكتور الشيال ص106.
3) جزء فيه منتخب في عيون خصائص العباد:
ـ ذكره ابن خير في الفهرست ص 299، وابن مخلوف ص 125 في شجرة النور الزكية.
4) ثلاثة أجزاء فيها الكلام عن الغنى والفقر:
ـ ذكره ابن خير ص299، وابن مخلوف في الشجرة ص125.
5) حاشية على إثبات الواجب:
ـ جعلها عبد المجيد تركي مقدمة كتاب الطرطوشي: الحوادث والبدع ص19، وكتاب الدعاء المأثور للطرطوشي بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية ص18، وتقديم جعفر البياتي لسراج الملوك ص 20.
6) رسالة في تحريم جبن الروم:
ـ ذكرها البغدادي في هدية العارفين ج2 ص85.
ـ وذكرها ابن مخلوف في الشجرة ص125.
7) كتاب الفتن:
ـ ذكره صاحب وفيات الأعيان ج3 ص394.
ـ وأورده البغدادي في هدية العارفين ج2 ص85.
ـ وذكره صاحب الأعلام ج7 ص359.
وتصل كتبه المفقودة إلى ما يقارب العشرين كتابا ذكرها غير واحد ممن ترجم له نذكر منها: رسالة العدة عند الكروب والشدة، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب النهاية في فروع المالكية، وكتاب نفائس الفنون، وكتاب في الرد على اليهود، والعمد في الأصول، وسراج الهدى وزاد المسافر، وكتاب أصول الفقه، وكتاب إحياء الليل، الذي رد فيه على إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.
أعماله المخطوطة:
ـ تحريم الغناء واللهو على الصوفية في رقصهم وسماعهم، ويوجد بقسم الوثائق ضمن مجموع بالخزانة العامة بالرباط رقم ق85 من الصفحة 308 إلى الصفحة 334. وذكر أن نسخة أخرى بمدريد رقمها 5341.
ـ تحريم الاستمناء: وتوجد نسخة من هذه الرسالة بخزانة برلين رقم 4981.
ـ نزهة الإخوان المتحابين في الله: خزانة كوتا بألمانيا رقم 909.
ـ الأسرار والعبر: ذكر العلامة المنوني أنه وجده بخزانة خاصة بمراكش سنة 1983. ونشر بعضه في مقال له بحوليات كلية الآداب بالرباط عدد 9 سنة 1988. وذكره الطرطوشي في (سراج الملوك) الباب 23 ص211 تحقيق البياتي.
ـ كتاب المجالس: يوجد ضمن مجموع بالخزانة العامة بالرباط رقم 1095 د، ويقع في 75 ورقة.
ـ غريب المعاني ولطائف التداني: مخطوط بخزانة سيدي يوسف بن علي بمراكش في مجموع قسم التفسير 2/352.
ـ مختصر الكشف والبيان عن تفسير القرآن: ويوجد بدار الكتب والوثائق القومية بمصر، ويقع في مأتي ورقة.
المطبوع من أعماله:
ـ سراج الملوك: طبع بدار رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى كانت سنة 1990 ميلادية بتحقيق جعفر البياتي، ويقع الكتاب في 629 صفحة.
ـ الحوادث والبدع: حققه عبد المجيد التركي وطبع ببيروت الطبعة الأولى سنة 1990 ـ 1410 بدار الغرب الإسلامي ويقع في 495 صفحة.
ـ الدعاء المأثور وآدابه، وما يجب على الداعي أتباعه واجتنابه: تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. نشرته دار الفكر المعاصر ببيروت في طبعته الأولى سنة 1988، ويقع في 368 صفحة.
ـ بر الوالدين، وما يجب على الوالد لولده، وما يجب على الولد لوالده: حققه محمد عبد الحكيم القاضي، وصدر في طبعته الثانية عن مؤسسة الكتب الثقافية سنة 1988 و يقع في 211 صفحة.
ـ رسالة إلى يوسف بن تاشفين: أنظر أعلاه.
ـ جزء عارض به الإحياء للإمام لغزالي: وذكره عبد الكريم العثماني في كتاب: سيرة الغزالي، وأقوال المتقدمين فيه. قدم له أحمد فؤاد الأهواني وطبع بسوريا بمطابع دار الفكر الدمشقية بدون تاريخ.
9ـ الرحلة في طلب العلم:
تواتر عند أهل العلم وطلابه أن العالم يعرف بشيوخه ورحلته. وأن الذي لم يرحل لطلب العلم لا حظ له في الصدارة ولا وزن له إذا عد الرجال. لذلك حرص الناس قديما على السفر طلبا للأسانيد العالية والإجازات من الراسخين في كل فن وعلم. ولا يعد الطرطوشي استثناء من هؤلاء فقد تلقى تعليمه الأولي بمسقط رأسه طرطوشة، حيث لزم مشايخها بالمسجد الكبير، ليهز الرحال بعد ذلك متجولا في البلاد باحثا عن ضالته في الطلب.
الطرطوشي في سرقسطة:
كانت سرقسطة عاصمة الإقليم الشرقي للأندلس، وقد عرفت رقيا عظيما في ظل أمرائها من بني هود خاصة في زمن المقتدر الذي كان بلاطه عامرا بأهل العلم الذين أحبهم وأكرمهم وتتلمذ لهم حيث كان شغوفا بالفلسفة والفلك وغيرها. وأشار بنفسه إلى ذلك في كتابه سراج الملوك حيث قال: (كان بسرقسطة فارس يقال له ابن فتحون، وكان يناسبني فيقع خال والدتي وكان أشجع العرب والعجم، وكان المستعين بن المقتدر يرى له ذلك ويعظمه. وكان يجري عليه في كل عطية خمسمائة دينار. وكانت النصرانية بأسرها قد عرفت مكانه وهابت لقاءه. فيحكى أن الرومي كان إذا سقى فرسه فلم يشرب، يقول له: اشرب هل ابن فتحون رأيت في الماء؟!)[14] ولأن الطرطوشي وجد الملاذ الآمن بمملكة سرقسطة فقد فرغ نفسه للطلب خاصة و أنه وجد بها أكبر أئمة المالكية يومها وهو أبو الوليد الباجي الذي أخذ عنه أصول الفقه ومسائل الخلاف والفرائض وعلوما أخرى.
- الطرطوشي في مكة:
غادر الطرطوشي الأندلس سنة 476 هـ متجها نحو الحجاز حاجا وطالبا للعلم والمجاورة ببيت الله الحرام في زمن الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله، ابن الخليفة القائم الذي دام حكمه عشرين سنة. وكان الذي يؤرق الشيخ خوفه من الحاجة زمن الغربة خاصة وأنه كان لا يحسن حرفة أو صناعة تعينه على المعاش، يقول الطرطوشي متحدثا عن حاله ويقدم قدما ويؤخر أخرى يرسم معلم رحلته الأولى خارج الأندلس: (وأما أنا، فلما هممت بالرحيل من بلدي إلى المشرق في طلب العلم كنت لا أعرف التجارة، ولا لي حرفة أرجع إليها، فجزعت من الخروج وكنت أقول إذا ذهبت نفقتي فماذا أفعل؟ وكان أقوى الآمال في نفسي أن أحفظ البساتين بالأجرة، وأن أدرس العلم بالليل، ثم استخرت الله فرحلت، وكانت معي نفقة وافرة...)[15] ولا نجد من تحدث من المترجمين للطرطوشي عن مسار رحلته حتى مكة، ولكن اليقين حاصل أنه أقام بمكة وجاور بمسجدها مدرسا لمجموعة من المعارف خاصة علم الحديث كما أثبت ذلك صاحبه في الطلب زمن الأندلس عند الباجي بسرقسطة القاضي أبو علي بن فرو الصدفي، قال: (صحبته عند الباجي، ولقيته بمكة، وأخذت عنه أكثر السنن لأبي داوود عن التستري.)[16]
- الطرطوشي في العراق:
كانت حواضر العراق مقصد الطلبة من كل صقع بمدارسها ومساجدها وبسخاء أمرائها الذين لم يبخلوا عليهم ولم يدخروا جهدا ولا مالا في بناء المدارس وإجراء النفقات عليها وترسيم الأوقاف لحاجياتها والمقيمين بها. ومن لم يسمع بمدارس الكوفة وبغداد و البصرة...وقد كان كتاب سراج الملوك للطرطوشي مفخرة لحكام العراق حيث دبجه بالثناء عليهم خاصة الوزير نظام الملك بن ألب أرسلان[17] الذي اشتهرت جهوده في رعاية العلم و العلماء.
وقد أخذ الطرطوشي عن كثير من أعلام العراق نذكر منهم علي سبيل التمثيل لا الحصر: أبو نصر بن الصباغ وأبي محمد التميمي...قال ياقوت الحموي متحدثا عن لبثه في العراق: (ودخل بغداد والبصرة، فتفقه عند أبي بكر الشاشي، وأبي سعد المتولي، وأبي أحمد الجرجاني، أئمة الشافعية. ولقي القاضي أبا عبد الله الدامغاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري، وأبي عبيد الله الحميدي.)[18]
- الطرطوشي بالشام:
قضى الطرطوشي أكثر من عشر سنين بالشام مدرسا ومجادلا لطوائف ونحل وفرق كما ذكر تلميذه أبو بكر بن العربي في قانون التأويل. وأقام الشيخ ببيت المقدس وجال في أرجاء دمشق وحلب وجبل لبنان وغيرها. وتجمع مصادر ترجمته أنه قضى أغلب حياته بهذه الديار قبل المغادرة النهائية إلى مصر. وقد شهدت بلاد الشام خلال إقامته احترابا داخليا بين الحكام الحقيقيين وهم الأتراك المتحكمون في عرش الخلافة مما أضعف شوكة المسلمين وأدى لسيطرة الصليبيين على أجزاء كبيرة من الشام حتى بيت المقدس. وكان الطرطوشي يدرس التفسير ببيت المقدس مما اختصره من تفسير الثعالبي، كما في رمضان سنة 478 هـ ( في مهد عيسى بالفسيفساء من المسجد الأقصى.) [19]
- الطرطوشي بمصر:
انتهت الرحلة بالطرطوشي إلى بلاد مصر التي ساد فيها إذاك مذهب العبيديين[20] وحكمهم، وكان صاحب أمرهم يومها الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي الذي نشر مذهب العبيديين بمصر كلها خاصة بعد أفول نجم أهل السنة بالشام على يد الأتراك والإفرنج. وقد تعرض الطرطوشي لمحن عديدة على يد حكام العبيديين بسبب النقد الدائم الذي كان يوجهه لحكام زمانه المخالفين لمذهبه العقدي والفقهي، وكذا لفتاواه التي حرم فيها منتجات الإفرنج المتاخمين لمصر يومها المسيطرين على أطراف عديدة من الشام، كرسالته في تحريم جبن الروم وغيرها، إضافة إلى الصدع الصريح بالحق والنصح المباشر إلى حكام زمانه كالرسالة التي وجهها إلى الأفضل شاهنشاه والتي قال فيها: (أيها الملك! إن الله سبحانه و تعالى قد أحلك محلا عاليا شامخا، وأشركك في حكمه، ولم يرض أن يكون أمر أحد فوق أمرك. فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك. وإن الله تعالى ألزم الورى طاعتك، فلا يكونن أحد أطوع لله منك... واعلم أن الملك الذي أصبحت فيه، إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يدك مثلما صار إليك. فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل...)[21]
وقد أدت مواقفه هذه بحكام مصر إلى التضييق عليه وسجنه سنة كاملة بالفسطاط قرب القاهرة على يد بدر الجمالي، ولم يفرج عن الإمام حتى توفي الأفضل واستخلف المأمون البطائحي الذي أعاد الاعتبار للطرطوشي ولمذهب أهل السنة، وهو الذي ألف له الطرطوشي كتابه سراج الملوك في نظم الحكم والسياسة الشرعية والآداب المرعية.
10ـ الطرطوشي و شهادات أهل العلم فيه:
- قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي: (الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية... عالم الإسكندرية...) [22]
- قال ابن بشكوال في الصلة: ( كان إماما عالما زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا، راضيا باليسير...) [23]
- قال المقري في أزهار الرياض في أخبار عياض: (الشيخ الأستاذ الطائر الصيت، الشهير الذكر...) [24]
- قال فيه تلميذه إبراهيم بن مهدي: (كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه). [25]
- قال الضبي في البغية: (قعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه، وانتشر علمه). [26]
- جاء في الديباج المذهب لابن فرحون: (الذي عند أبي بكر من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره، دينه). [27]
11ـ الطرطوشي و آراؤه السياسية:
الفقهاء مجمعون على ضرورة وجود سلطة سياسية عليا في الدولة الإسلامية تسوس الناس بأحكام الدين، و تقضي بين المتنازعين، و تدافع عن مقومات الأمة و عن عوائدها المادية. و الطرطوشي في هذا لا يختلف عن أقرانه من أهل الفقه و الفتيا. غير أن ما امتاز به عن غيره من السابقين و اللاحقين تقسيم الحكم إلى عام و خاص، و محاولته وضع بعض الضوابط الدستورية لتصرفات الحاكم، الأمر الذي استفاد منه ابن خلدون بشكل كبير في وضع نظريته في علم الاجتماع السياسي المبسوطة في " المقدمة ". و رغم أن كثيرين كتبوا في الأحكام السلطانية و السياسة الشرعية غير أنهم لم يلامسوا بعض ما لامسه الطرطوشي و نص عليه. فقد صنف ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 236هـ كتابه "عيون الأخبار"، وألف الماوردي المتوفى سنة 450هـ كتابه الشهير "الأحكام السلطانية "، وكتب معاصر مترجمنا أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ كتابه الرائق "التبر المسبوك في نصيحة الملوك"، وكتب بعد الطرطوشي في الحكم وأساليبه آخرون كابن تيمية الحراني صاحب "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، وابن خلدون المتوفى سنة808هـ مقدمته كما أسلفت.
ولذلك جاء كتاب الطرطوشي "سراج الملوك" الذي اهتم به العلماء والمستشرقون والبحاثة غاية في كمال الضبط والترتيب، بين المراد من تصنيفه في المقدمة حيث قال: (أما بعد، فإني لما نظرت في سير الأمم الماضية والملوك الخالية، وما وضعوه من السياسات في تدبير الدول، والتزموه من القوانين في حفظ النحل. وجدت ذلك على نوعين: أحكاما وسياسات). [28] فالأحكام يقصد بها الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والإجارات وغيرها. والسياسات تنصب على حسن السياسة والعدل وتدبير الحروب وتأمين السبل وحفظ الأموال وصون الأعراض.....
ويمكن تلخيص أفكاره السياسية الواردة في كتابه "سراج الملوك" في العناصر التالية:
1ـ وجوب نصب الإمام:
يرى الطرطوشي انطلاقا من النصوص الشرعية أن إقامة السلطان في الأرض هو حكمة إلهية وإرادة ربانية، فهو "منة عظيمة و نعمة جزيلة" تصان بها العهود وتحفظ بها الوعود وتفض بها النزاعات. والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وزكى الطرطوشي رأيه بالأدلة الشرعية والعقلية لفهم ضرورة إقامة الحكم فقال: (الله جبل الخلق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف. ومثلهم بلا سلطان مثل الحوت في الماء، يبتلع الكبير الصغير. فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر، لم ينتظم لهم أمر، ولم يستقم لهم معاش.)[29] بل إن الطرطوشي جعل الحكام ممن اصطفاهم الله واختارهم وأقامهم علامة ظاهرة على وجوده سبحانه حيث قال: (فالسلطان من حجج الله على وجوده سبحانه، ومن علاماته على توحيده، لأنه كما لا يستقيم أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وترتيبه إلا بالسلطان). [30] وألح الطرطوشي على وجوب نصب الإمام ـشأنه في ذلك شأن سائر فرق الإسلام ومتكلميهم ـ وساق على ذلك الأدلة والشواهد، ووصم بالجهل والغرور من يدعو إلى إزالة السلطان من الناس، ونص على أن صلاح البلاد والعباد بصلاحه والعكس صحيح.
2 ـ العدل أساس الملك:
يؤكد الطرطوشي على هذا المعنى في غير ما باب من أبواب كتابه، ولا يسأم من ترديد ذلك على مسامع الحكام. وقد أثبت في سراج الملوك: (أن لا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. فصار العدل أساسا لسائر الأساسات.)[31] والعدل عند الطرطوشي مدفعة لكل شر، مجلبة لكل خير. وغيابه يعني تثبيت الفساد في دنيا الناس بنص القرآن القائل: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )[32] فبالتقاضي يدفع الظلم وهضم الحقوق، وينعم الناس بالحرية والأمن. وقد قسم الطرطوشي الدولة إلى قسمين جعل قوامهما وروحهما العدل وإن تفاوت مقداره ومقياسه: دولة نبوية وأخرى صلاحية. فالدولة ذات النظام النبوي ينبغي أن تتبع سبيل العدل الإلهي، وقد عرف الناس نظيرا لها أيام الدولة النبوية في المدينة. ودولة ذات نظام صلاحي، ويشترط المؤلف فيها وفي القائمين عليها تطبيق ما يشبه العدل الذي في متناول الناس من أهل الحكم والحلم الذين يضعون الضوابط والقوانين وفق اجتهادهم، ويحرصون على تطبيقها وعدم مجاوزتها. ويثبت الطرطوشي نظرية ذكرها كثيرون قبله وبعده من أهل العلم وهي أن السلطان يدوم بالعدل لا بالإيمان، فيقول: (إن السلطان الكافر الحافظ لشرائط السياسة الإصلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه بسبب إيمانه، المضيع للسياسة النبوية العدلية). [33] ويقرر أيضا: (العدل ميزان الله في الأرض، وهو قوام الملك، ودوام الدول، وأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو صلاحية). [34]
3 ـ الطاعة و النصيحة:
إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تنقطع مطلقا في دولة الإسلام منذ إقامتها في يثرب إلى يومنا هذا رغم فساد الحكم وزوال سمت النبوة. وقد ألح الطرطوشي على الحاكم إطلاق يد الرعية في النصح له والتعبير عما يجيش في خواطرهم وما يجول في أنفسهم مقابل الطاعة له في المعروف، حتى يسكن الناس وتستقر أحوال معاشهم. وأمره بالتقرب إلى الرعية وتقبل اعتراضاتهم والسماح لهم بمراجعته في أمور الحكم والسلطنة بما يخدم مصالح الجميع حكاما ومحكومين.
ويحمل الطرطوشي على نظرة الخروج على الحكام وعلى القائلين بها، ويعتبرهم من أتباع الحرورية والخوارج وقتلة الأئمة. ويدعو إلى الطاعة وإلى الصبر على أذى الحكام وظلمهم. ويستشهد لذلك بنصوص كثيرة هي عماد بعض علماء أهل السنة القائلين بالصبر، الخائفين على بيضة الإسلام عكس القائمين من الأئمة في وجه الطغاة والظلمة .
ويسوق المؤلف الشواهد على المعارضة ـالشفويةـ ويمثل ببعض رموزها ويذكر (أن أعرابيا قام بين يدي سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته. قال: هات يا أعرابي. قال: إني سأطلق لساني بما خرصت به الألسن بحق الله وحق أمانتك. إنك قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فباعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم. خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك. فأعظم الناس غبنا يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره). [35]
وكتبه الدكتور رشيد بوطربوش
الهوامش--------------------------
[1] - سير أعلام النبلاء للذهبي ج 19 ص 490 491
[2] - جمهرة أنساب العرب ص 12
[3] - أنظر سراج الملوك ص 511 وتاج العروس للزبيدي ج 3 ص 473 وتاريخ بن خلدون ج 4 ص 119 وما بعدها.
[4] - الصلة لابن بشكوال ج2 ص 545، والديباج المذهب لابن فرحون ص 276.
[5] - المعيار ج 12 ص 186
[6] - الديباج المذهب لابن فرحون ص 276
[7] - وفيات الأعيان لابن خلكان ج 3 ص 393
[8] ـ يوجد اضطراب في تاريخ وفاته، قال الضبي في بغية الملتمس ص 15 أن وفاته كانت سنة 525 للهجرة، وتبعه السيوطي في حسن المحاضرة، ج 1 ص 256.
[9] - شجرة النور الزكية لابن مخلوف ص 142
[10] - شجرة النور الزكية ص 128، و نفح الطيب ج 2 ص 90، و الصلة ج 1 ص 143 و بغية الملتمس ص 253.
[11] - نفح الطيب للمقري ج 2 ص 155
[12] - سير أعلام النبلاء للذهبي ج 19 ص 491 و شجرة النور الزكية لابن مخلوف ص 155.
[13] - حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة للسيوطي ص 192
[14] ـ سراج الملوك، ص 511 ـ 512
[15] ـ سراج الملوك، ص 487ـ488
[16] ـ بغية الملتمس، ص 138ـ 139
[17] ـ سراج الملوك، ص 379
[18] ـ معجم البلدان، ج 4 ص 30
[19] ـ فهرست ابن خير، ص 59
[20] ـ يسمون أنفسهم بالفاطميين نسبة إلى فاطمة الزهراء عليها السلام، و هو ادعاء محض كما ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء، زعموا أن الوحي نص على خلافة علي لرسول الله، تبرءوا من أبي بكر و عمر و سائر الصحابة، للتوسع في أخبارهم انظر كتاب البداية و النهاية لابن كثير: ج 11 ص 369
[21] ـ سراج الملوك، ص 123 ـ 124
[22] ـ سير أعلام النبلاء للذهبي، ج 19 ص 490 ـ 491
[23] ـ الصلة لابن بشكوال، ج 2 ص 445
[24] ـ ج 3 ص 260
[25] ـ سير أعلام النبلاء، ج 19 ص 492
[26] ـ بغية الملتمس للضبي، ص 138ـ 139
[27] ـ الديباج المذهب في علماء المذهب لابن فرحون، ص 276
[28] ـ سراج الملوك للطرطوشي، ص 50
[29] ـ نفسه، ص 156
[30] ـ سراج الملوك، ص 156، 157
[31] ـ نفسه، ص 170
[32] ـ سورة البقرة، الآية 249
[33] ـ سراج الملوك، ص 174
[34] ـ نفسه، ص 169
[35] ـ سراج الملوك، ص 121