العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

الإمام الطرطوشي المالكي ناصح الأمراء

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
1-اسمه و نسبه:​

هو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي. المعروف بابن أبي رندقة. أحد كبار أئمة المالكية خلال القرن الخامس و السادس الهجريين. كان من أهل الزهد و الورع مبتعدا عن أهل الأهواء، مقاطعا للمبتدعة حاملا للواء الإصلاح بمشرق الأرض و مغربها، نزل الإسكندرية في وقت غلب فيه مذهب العبيديين و تعطلت فيه الأحكام، نقل عنه الإمام الذهبي أنه قال: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية لما كانت عليه أيام العبيدية من ترك إقامة الجمعة و من غير ذلك من المناكر.. أقول له: وجدت قوما ضلالا فكنت سبب هدايتهم[1]. و أما نسبه فعربي أصيل حيث تجمع المصادر على انتهائه إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال ابن حزم: وهم قريش لا قريش غيرهم، و لا يكون قرشي إلا منهم، و لا من ولد فهر أحد إلا قرشي[2]. ولآل فهر بالغرب الإسلامي مجد عظيم وتاريخ مجيد خاصة في تثبيت الإسلام ونشر العربية مع من جاء من العوائل العربية تحت قيادة موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية. وقد أجمع المؤرخون والمترجمون على أن جد الفهريين بالأندلس هو حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري فاتح شرق الأندلس رفقة موسى بن نصير سنة ثلاث وتسعين هجرية. وقد أشاد الطرطوشي بأسرته ودورها في توطين أركان الدين بالأندلس خاصة بسرقسطة وذكر استبسالهم في المرابطة بالثغور الشمالية وفي حمايتها من هجمات النصارى القادمة من الشمال [3].

2- كنيته:​

قال ابن بشكوال: يكنى أبا بكر ويعرف بابن أبي رندقة [4] وبذلك جزم ابن فرحون أيضا فأغلب مصادر ترجمته تكنيه بأبي بكر وقد كناه بعضهم بأبي عبد الله أو أبي الوليد، قال الونشريسي: و مما كتب به الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الوليد الطرطوشي... [5].


3- لقبه:​

يلقب الطرطوشي بابن أبي رندقة بالفتح والضم، قال ابن فرحون: رندقة براء مضمومة مهملة و سكون ساكنة ودال مهملة و قاف مفتوحتين[6]. ويوضح ابن خلكان معنى الكلمة فيقول: رندقة بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف هي لفظة إفرنجية سألت بعض الفرنج عنها فقال: معناها: رد تعالى[7]. وقد نقل هذا المعنى كل من ترجم للطرطوشي كابن بشكوال في الصلة، والذهبي في السير، والسبكي في الطبقات، والمقري في نفح الطيب، والسمعاني في الأنساب، والحموي في معجم البلدان، وغيرهم.


4- مولده:​

اتفق كل من ترجم للطرطوشي على أن مولده كان بمدينة طرطوشة بالأندلس سنة 450 هجرية أو 451 على خلاف في ذلك يسير.


5- وفاته:​

أغلب من ترجم للطرطوشي مجمعون على أن المنية وافته بمدينة الإسكندرية سنة 520 للهجرة، و أنه دفن بالقرب من مسجده الذي يعرف باسمه هناك، و قبره مشهور يزار[8].


6
- شيوخه:​

أخذ الإمام العلوم عن ثلة من علماء عصره بالمغرب و المشرق لم تذكر المصادر التاريخية عن الأندلسيين منهم شيئا كثيرا. عرف منهم أبو الوليد الباجي الذي تتلمذ عليه بعاصمة الإقليم الشرقي للأندلس: سرقسطة، و قد ذكره الطرطوشي في أغلب مؤلفاته. و منهم أبو عبد الله الحميدي صاحب كتاب جذوة المقتبس، و هذان يعدان أشهر شيوخه الأندلسيين. أما مشايخه بالمشرق فكثيرون بالحجاز و الشام والعراق... نذكر منهم: أبو بكر الشاشي، والشيرازي، والتستري، وابن الصباغ، وعبد السيد بن محمد بن عبد الواحد، وأبو سعد المتولي، وأبو نصر الزينبي محدث العراق وفقيهها، وأبو سعد الزوزني، وأبو بكر الجرجاني، وغيرهم كثير.

7- تلامذته:​

أضحت مدينة الإسكندرية في أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، مقصد كل طالب، ومتجه كل عالم، ومحطة الحجاج والمعتمرين، وكل وافد على المشرق لغرض من الأغراض. كلهم يروم زيارة عالمها المترجم له الذي اقتسم الزعامة المعرفية مع الإمام أبي حامد الغزالي في هذا القرن بالمشرق العربي. وقد تخرج على يديه بمدرسته التي أسسها بالإسكندرية جمع غفير من الطلبة يزيدون عن المائتين. جاءوا من المغرب ومصر والأندلس. ومن أشهر تلامذته وأقرب أصحابه الساهرين على خدمته: أبو العباس أحمد بن معد التوجيبي المعروف بالإقليشي، ترجم له ابن مخلوف فقال: وكان زاهدا عالما عاملا فاضلا [9]. ومن أشهرهم أيضا القاضي أبو بكر بن العربي المعافري المالكي و والده، تتلمذا على الطرطوشي ببيت المقدس ومصر، توفي الوالد هناك وصلى عليه الطرطوشي وعاد الابن بسيرة الطرطوشي وخبره إلى المغرب العربي.

ومن تلامذته أيضا: القاضي أبو علي الصدفي المعروف بابن سكرة السرقسطي، أخذ عن الطرطوشي علوم الحديث بمكة والعراق، قال: ولقيته بمكة المكرمة وأخذت عنه أكثر كتاب السنن لأبي داود عن التستري[10].

ومن تلاميذه أيضا: أبو بكر محمد بن الحسين الشهير بالميورقي [11].

ومنهم أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم بن عثمان العبدري المعروف بالثغري. [12]

ومن تلامذته أيضا أبو عمران موسى بن سعادة المرسي، وأبو عبد الرحمان مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي المعروف بابن زعوقة، وأبو محمد عبد الله بن موسى بن سليمان المعروف بابن برطلة، وأبو عبد الله محمد بن مسلم القرشي المازري، والمهدي بن تومرت صاحب دعوة الموحدين...[13] ومن أكبر الأعلام الذين أخذوا عن الطرطوشي: القاضي عياض اليحصبي الذي لولاه لما ذكر المغرب،كما قيل، أجازه الطرطوشي مكاتبة.

8ـ آثاره:​

تتوزع مؤلفات الطرطوشي بين الفقه، وفروعه المالكية، والأصول، والتفسير، والحديث، والسياسة الشرعية، وغيرها، منها ما طبع، ومنها ما فقد، ومنها ما لا يزال مخطوطا رهين المكتبات.

المفقود:​

1ـ التعليقة الكبرى في الخلافيات:

ـ ذكره ابن فرحون ينسبه إليه في كتابه: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ج 1 ص 16.

ـ ذكره خير الدين الزركلي في (الأعلام) ج 7 ص 359.

ـ ذكره ابن خلكان في (وفيات الأعيان ) ج3 ص394.

ـ ذكره ابن مخلوف في (شجرة النور الزكية) ص125.

ـ ذكره المقري في نفح الطيب وحاجي خليفة في كشف الظنون.

2) مختصر كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصله لأبي محمد عبد الله بن جعفر بن حبان:

ـ ذكره ابن خير في الفهرست ص271، وانظر كتاب: أبو بكر الطرطوشي، العالم الزاهد الثائر للدكتور الشيال ص106.

3) جزء فيه منتخب في عيون خصائص العباد:

ـ ذكره ابن خير في الفهرست ص 299، وابن مخلوف ص 125 في شجرة النور الزكية.

4) ثلاثة أجزاء فيها الكلام عن الغنى والفقر:

ـ ذكره ابن خير ص299، وابن مخلوف في الشجرة ص125.

5) حاشية على إثبات الواجب:

ـ جعلها عبد المجيد تركي مقدمة كتاب الطرطوشي: الحوادث والبدع ص19، وكتاب الدعاء المأثور للطرطوشي بتحقيق الدكتور محمد رضوان الداية ص18، وتقديم جعفر البياتي لسراج الملوك ص 20.

6) رسالة في تحريم جبن الروم:

ـ ذكرها البغدادي في هدية العارفين ج2 ص85.

ـ وذكرها ابن مخلوف في الشجرة ص125.

7) كتاب الفتن:

ـ ذكره صاحب وفيات الأعيان ج3 ص394.

ـ وأورده البغدادي في هدية العارفين ج2 ص85.

ـ وذكره صاحب الأعلام ج7 ص359.

وتصل كتبه المفقودة إلى ما يقارب العشرين كتابا ذكرها غير واحد ممن ترجم له نذكر منها: رسالة العدة عند الكروب والشدة، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب النهاية في فروع المالكية، وكتاب نفائس الفنون، وكتاب في الرد على اليهود، والعمد في الأصول، وسراج الهدى وزاد المسافر، وكتاب أصول الفقه، وكتاب إحياء الليل، الذي رد فيه على إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.

أعماله المخطوطة:​

ـ تحريم الغناء واللهو على الصوفية في رقصهم وسماعهم، ويوجد بقسم الوثائق ضمن مجموع بالخزانة العامة بالرباط رقم ق85 من الصفحة 308 إلى الصفحة 334. وذكر أن نسخة أخرى بمدريد رقمها 5341.

ـ تحريم الاستمناء: وتوجد نسخة من هذه الرسالة بخزانة برلين رقم 4981.

ـ نزهة الإخوان المتحابين في الله: خزانة كوتا بألمانيا رقم 909.

ـ الأسرار والعبر: ذكر العلامة المنوني أنه وجده بخزانة خاصة بمراكش سنة 1983. ونشر بعضه في مقال له بحوليات كلية الآداب بالرباط عدد 9 سنة 1988. وذكره الطرطوشي في (سراج الملوك) الباب 23 ص211 تحقيق البياتي.

ـ كتاب المجالس: يوجد ضمن مجموع بالخزانة العامة بالرباط رقم 1095 د، ويقع في 75 ورقة.

ـ غريب المعاني ولطائف التداني: مخطوط بخزانة سيدي يوسف بن علي بمراكش في مجموع قسم التفسير 2/352.

ـ مختصر الكشف والبيان عن تفسير القرآن: ويوجد بدار الكتب والوثائق القومية بمصر، ويقع في مأتي ورقة.

المطبوع من أعماله:​

ـ سراج الملوك: طبع بدار رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى كانت سنة 1990 ميلادية بتحقيق جعفر البياتي، ويقع الكتاب في 629 صفحة.

ـ الحوادث والبدع: حققه عبد المجيد التركي وطبع ببيروت الطبعة الأولى سنة 1990 ـ 1410 بدار الغرب الإسلامي ويقع في 495 صفحة.

ـ الدعاء المأثور وآدابه، وما يجب على الداعي أتباعه واجتنابه: تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية. نشرته دار الفكر المعاصر ببيروت في طبعته الأولى سنة 1988، ويقع في 368 صفحة.

ـ بر الوالدين، وما يجب على الوالد لولده، وما يجب على الولد لوالده: حققه محمد عبد الحكيم القاضي، وصدر في طبعته الثانية عن مؤسسة الكتب الثقافية سنة 1988 و يقع في 211 صفحة.

ـ رسالة إلى يوسف بن تاشفين: أنظر أعلاه.

ـ جزء عارض به الإحياء للإمام لغزالي: وذكره عبد الكريم العثماني في كتاب: سيرة الغزالي، وأقوال المتقدمين فيه. قدم له أحمد فؤاد الأهواني وطبع بسوريا بمطابع دار الفكر الدمشقية بدون تاريخ.



9ـ الرحلة في طلب العلم:​

تواتر عند أهل العلم وطلابه أن العالم يعرف بشيوخه ورحلته. وأن الذي لم يرحل لطلب العلم لا حظ له في الصدارة ولا وزن له إذا عد الرجال. لذلك حرص الناس قديما على السفر طلبا للأسانيد العالية والإجازات من الراسخين في كل فن وعلم. ولا يعد الطرطوشي استثناء من هؤلاء فقد تلقى تعليمه الأولي بمسقط رأسه طرطوشة، حيث لزم مشايخها بالمسجد الكبير، ليهز الرحال بعد ذلك متجولا في البلاد باحثا عن ضالته في الطلب.

الطرطوشي في سرقسطة:

كانت سرقسطة عاصمة الإقليم الشرقي للأندلس، وقد عرفت رقيا عظيما في ظل أمرائها من بني هود خاصة في زمن المقتدر الذي كان بلاطه عامرا بأهل العلم الذين أحبهم وأكرمهم وتتلمذ لهم حيث كان شغوفا بالفلسفة والفلك وغيرها. وأشار بنفسه إلى ذلك في كتابه سراج الملوك حيث قال: (كان بسرقسطة فارس يقال له ابن فتحون، وكان يناسبني فيقع خال والدتي وكان أشجع العرب والعجم، وكان المستعين بن المقتدر يرى له ذلك ويعظمه. وكان يجري عليه في كل عطية خمسمائة دينار. وكانت النصرانية بأسرها قد عرفت مكانه وهابت لقاءه. فيحكى أن الرومي كان إذا سقى فرسه فلم يشرب، يقول له: اشرب هل ابن فتحون رأيت في الماء؟!)[14] ولأن الطرطوشي وجد الملاذ الآمن بمملكة سرقسطة فقد فرغ نفسه للطلب خاصة و أنه وجد بها أكبر أئمة المالكية يومها وهو أبو الوليد الباجي الذي أخذ عنه أصول الفقه ومسائل الخلاف والفرائض وعلوما أخرى.



- الطرطوشي في مكة:

غادر الطرطوشي الأندلس سنة 476 هـ متجها نحو الحجاز حاجا وطالبا للعلم والمجاورة ببيت الله الحرام في زمن الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله، ابن الخليفة القائم الذي دام حكمه عشرين سنة. وكان الذي يؤرق الشيخ خوفه من الحاجة زمن الغربة خاصة وأنه كان لا يحسن حرفة أو صناعة تعينه على المعاش، يقول الطرطوشي متحدثا عن حاله ويقدم قدما ويؤخر أخرى يرسم معلم رحلته الأولى خارج الأندلس: (وأما أنا، فلما هممت بالرحيل من بلدي إلى المشرق في طلب العلم كنت لا أعرف التجارة، ولا لي حرفة أرجع إليها، فجزعت من الخروج وكنت أقول إذا ذهبت نفقتي فماذا أفعل؟ وكان أقوى الآمال في نفسي أن أحفظ البساتين بالأجرة، وأن أدرس العلم بالليل، ثم استخرت الله فرحلت، وكانت معي نفقة وافرة...)[15] ولا نجد من تحدث من المترجمين للطرطوشي عن مسار رحلته حتى مكة، ولكن اليقين حاصل أنه أقام بمكة وجاور بمسجدها مدرسا لمجموعة من المعارف خاصة علم الحديث كما أثبت ذلك صاحبه في الطلب زمن الأندلس عند الباجي بسرقسطة القاضي أبو علي بن فرو الصدفي، قال: (صحبته عند الباجي، ولقيته بمكة، وأخذت عنه أكثر السنن لأبي داوود عن التستري.)[16]

- الطرطوشي في العراق:

كانت حواضر العراق مقصد الطلبة من كل صقع بمدارسها ومساجدها وبسخاء أمرائها الذين لم يبخلوا عليهم ولم يدخروا جهدا ولا مالا في بناء المدارس وإجراء النفقات عليها وترسيم الأوقاف لحاجياتها والمقيمين بها. ومن لم يسمع بمدارس الكوفة وبغداد و البصرة...وقد كان كتاب سراج الملوك للطرطوشي مفخرة لحكام العراق حيث دبجه بالثناء عليهم خاصة الوزير نظام الملك بن ألب أرسلان[17] الذي اشتهرت جهوده في رعاية العلم و العلماء.

وقد أخذ الطرطوشي عن كثير من أعلام العراق نذكر منهم علي سبيل التمثيل لا الحصر: أبو نصر بن الصباغ وأبي محمد التميمي...قال ياقوت الحموي متحدثا عن لبثه في العراق: (ودخل بغداد والبصرة، فتفقه عند أبي بكر الشاشي، وأبي سعد المتولي، وأبي أحمد الجرجاني، أئمة الشافعية. ولقي القاضي أبا عبد الله الدامغاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري، وأبي عبيد الله الحميدي.)[18]

- الطرطوشي بالشام:

قضى الطرطوشي أكثر من عشر سنين بالشام مدرسا ومجادلا لطوائف ونحل وفرق كما ذكر تلميذه أبو بكر بن العربي في قانون التأويل. وأقام الشيخ ببيت المقدس وجال في أرجاء دمشق وحلب وجبل لبنان وغيرها. وتجمع مصادر ترجمته أنه قضى أغلب حياته بهذه الديار قبل المغادرة النهائية إلى مصر. وقد شهدت بلاد الشام خلال إقامته احترابا داخليا بين الحكام الحقيقيين وهم الأتراك المتحكمون في عرش الخلافة مما أضعف شوكة المسلمين وأدى لسيطرة الصليبيين على أجزاء كبيرة من الشام حتى بيت المقدس. وكان الطرطوشي يدرس التفسير ببيت المقدس مما اختصره من تفسير الثعالبي، كما في رمضان سنة 478 هـ ( في مهد عيسى بالفسيفساء من المسجد الأقصى.) [19]



- الطرطوشي بمصر:

انتهت الرحلة بالطرطوشي إلى بلاد مصر التي ساد فيها إذاك مذهب العبيديين[20] وحكمهم، وكان صاحب أمرهم يومها الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي الذي نشر مذهب العبيديين بمصر كلها خاصة بعد أفول نجم أهل السنة بالشام على يد الأتراك والإفرنج. وقد تعرض الطرطوشي لمحن عديدة على يد حكام العبيديين بسبب النقد الدائم الذي كان يوجهه لحكام زمانه المخالفين لمذهبه العقدي والفقهي، وكذا لفتاواه التي حرم فيها منتجات الإفرنج المتاخمين لمصر يومها المسيطرين على أطراف عديدة من الشام، كرسالته في تحريم جبن الروم وغيرها، إضافة إلى الصدع الصريح بالحق والنصح المباشر إلى حكام زمانه كالرسالة التي وجهها إلى الأفضل شاهنشاه والتي قال فيها: (أيها الملك! إن الله سبحانه و تعالى قد أحلك محلا عاليا شامخا، وأشركك في حكمه، ولم يرض أن يكون أمر أحد فوق أمرك. فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك. وإن الله تعالى ألزم الورى طاعتك، فلا يكونن أحد أطوع لله منك... واعلم أن الملك الذي أصبحت فيه، إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يدك مثلما صار إليك. فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل...)[21]

وقد أدت مواقفه هذه بحكام مصر إلى التضييق عليه وسجنه سنة كاملة بالفسطاط قرب القاهرة على يد بدر الجمالي، ولم يفرج عن الإمام حتى توفي الأفضل واستخلف المأمون البطائحي الذي أعاد الاعتبار للطرطوشي ولمذهب أهل السنة، وهو الذي ألف له الطرطوشي كتابه سراج الملوك في نظم الحكم والسياسة الشرعية والآداب المرعية.



10ـ الطرطوشي و شهادات أهل العلم فيه:​

- قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي: (الإمام العلامة القدوة الزاهد شيخ المالكية... عالم الإسكندرية...) [22]

- قال ابن بشكوال في الصلة: ( كان إماما عالما زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا، راضيا باليسير...) [23]

- قال المقري في أزهار الرياض في أخبار عياض: (الشيخ الأستاذ الطائر الصيت، الشهير الذكر...) [24]

- قال فيه تلميذه إبراهيم بن مهدي: (كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه). [25]

- قال الضبي في البغية: (قعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه، وانتشر علمه). [26]

- جاء في الديباج المذهب لابن فرحون: (الذي عند أبي بكر من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره، دينه). [27]



11ـ الطرطوشي و آراؤه السياسية:​

الفقهاء مجمعون على ضرورة وجود سلطة سياسية عليا في الدولة الإسلامية تسوس الناس بأحكام الدين، و تقضي بين المتنازعين، و تدافع عن مقومات الأمة و عن عوائدها المادية. و الطرطوشي في هذا لا يختلف عن أقرانه من أهل الفقه و الفتيا. غير أن ما امتاز به عن غيره من السابقين و اللاحقين تقسيم الحكم إلى عام و خاص، و محاولته وضع بعض الضوابط الدستورية لتصرفات الحاكم، الأمر الذي استفاد منه ابن خلدون بشكل كبير في وضع نظريته في علم الاجتماع السياسي المبسوطة في " المقدمة ". و رغم أن كثيرين كتبوا في الأحكام السلطانية و السياسة الشرعية غير أنهم لم يلامسوا بعض ما لامسه الطرطوشي و نص عليه. فقد صنف ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 236هـ كتابه "عيون الأخبار"، وألف الماوردي المتوفى سنة 450هـ كتابه الشهير "الأحكام السلطانية "، وكتب معاصر مترجمنا أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ كتابه الرائق "التبر المسبوك في نصيحة الملوك"، وكتب بعد الطرطوشي في الحكم وأساليبه آخرون كابن تيمية الحراني صاحب "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، وابن خلدون المتوفى سنة808هـ مقدمته كما أسلفت.

ولذلك جاء كتاب الطرطوشي "سراج الملوك" الذي اهتم به العلماء والمستشرقون والبحاثة غاية في كمال الضبط والترتيب، بين المراد من تصنيفه في المقدمة حيث قال: (أما بعد، فإني لما نظرت في سير الأمم الماضية والملوك الخالية، وما وضعوه من السياسات في تدبير الدول، والتزموه من القوانين في حفظ النحل. وجدت ذلك على نوعين: أحكاما وسياسات). [28] فالأحكام يقصد بها الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والإجارات وغيرها. والسياسات تنصب على حسن السياسة والعدل وتدبير الحروب وتأمين السبل وحفظ الأموال وصون الأعراض.....

ويمكن تلخيص أفكاره السياسية الواردة في كتابه "سراج الملوك" في العناصر التالية:

1ـ وجوب نصب الإمام:

يرى الطرطوشي انطلاقا من النصوص الشرعية أن إقامة السلطان في الأرض هو حكمة إلهية وإرادة ربانية، فهو "منة عظيمة و نعمة جزيلة" تصان بها العهود وتحفظ بها الوعود وتفض بها النزاعات. والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وزكى الطرطوشي رأيه بالأدلة الشرعية والعقلية لفهم ضرورة إقامة الحكم فقال: (الله جبل الخلق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف. ومثلهم بلا سلطان مثل الحوت في الماء، يبتلع الكبير الصغير. فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر، لم ينتظم لهم أمر، ولم يستقم لهم معاش.)[29] بل إن الطرطوشي جعل الحكام ممن اصطفاهم الله واختارهم وأقامهم علامة ظاهرة على وجوده سبحانه حيث قال: (فالسلطان من حجج الله على وجوده سبحانه، ومن علاماته على توحيده، لأنه كما لا يستقيم أمر العالم واعتداله بغير مدبر ينفرد بتدبيره، كذلك لا يتوهم وجوده وترتيبه إلا بالسلطان). [30] وألح الطرطوشي على وجوب نصب الإمام ـشأنه في ذلك شأن سائر فرق الإسلام ومتكلميهم ـ وساق على ذلك الأدلة والشواهد، ووصم بالجهل والغرور من يدعو إلى إزالة السلطان من الناس، ونص على أن صلاح البلاد والعباد بصلاحه والعكس صحيح.

2 ـ العدل أساس الملك:

يؤكد الطرطوشي على هذا المعنى في غير ما باب من أبواب كتابه، ولا يسأم من ترديد ذلك على مسامع الحكام. وقد أثبت في سراج الملوك: (أن لا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. فصار العدل أساسا لسائر الأساسات.)[31] والعدل عند الطرطوشي مدفعة لكل شر، مجلبة لكل خير. وغيابه يعني تثبيت الفساد في دنيا الناس بنص القرآن القائل: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )[32] فبالتقاضي يدفع الظلم وهضم الحقوق، وينعم الناس بالحرية والأمن. وقد قسم الطرطوشي الدولة إلى قسمين جعل قوامهما وروحهما العدل وإن تفاوت مقداره ومقياسه: دولة نبوية وأخرى صلاحية. فالدولة ذات النظام النبوي ينبغي أن تتبع سبيل العدل الإلهي، وقد عرف الناس نظيرا لها أيام الدولة النبوية في المدينة. ودولة ذات نظام صلاحي، ويشترط المؤلف فيها وفي القائمين عليها تطبيق ما يشبه العدل الذي في متناول الناس من أهل الحكم والحلم الذين يضعون الضوابط والقوانين وفق اجتهادهم، ويحرصون على تطبيقها وعدم مجاوزتها. ويثبت الطرطوشي نظرية ذكرها كثيرون قبله وبعده من أهل العلم وهي أن السلطان يدوم بالعدل لا بالإيمان، فيقول: (إن السلطان الكافر الحافظ لشرائط السياسة الإصلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه بسبب إيمانه، المضيع للسياسة النبوية العدلية). [33] ويقرر أيضا: (العدل ميزان الله في الأرض، وهو قوام الملك، ودوام الدول، وأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو صلاحية). [34]


3 ـ الطاعة و النصيحة:

إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تنقطع مطلقا في دولة الإسلام منذ إقامتها في يثرب إلى يومنا هذا رغم فساد الحكم وزوال سمت النبوة. وقد ألح الطرطوشي على الحاكم إطلاق يد الرعية في النصح له والتعبير عما يجيش في خواطرهم وما يجول في أنفسهم مقابل الطاعة له في المعروف، حتى يسكن الناس وتستقر أحوال معاشهم. وأمره بالتقرب إلى الرعية وتقبل اعتراضاتهم والسماح لهم بمراجعته في أمور الحكم والسلطنة بما يخدم مصالح الجميع حكاما ومحكومين.

ويحمل الطرطوشي على نظرة الخروج على الحكام وعلى القائلين بها، ويعتبرهم من أتباع الحرورية والخوارج وقتلة الأئمة. ويدعو إلى الطاعة وإلى الصبر على أذى الحكام وظلمهم. ويستشهد لذلك بنصوص كثيرة هي عماد بعض علماء أهل السنة القائلين بالصبر، الخائفين على بيضة الإسلام عكس القائمين من الأئمة في وجه الطغاة والظلمة .
ويسوق المؤلف الشواهد على المعارضة ـالشفويةـ ويمثل ببعض رموزها ويذكر (أن أعرابيا قام بين يدي سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! إني مكلمك بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته. قال: هات يا أعرابي. قال: إني سأطلق لساني بما خرصت به الألسن بحق الله وحق أمانتك. إنك قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فباعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم. خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك. فأعظم الناس غبنا يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره). [35]

وكتبه الدكتور رشيد بوطربوش

الهوامش--------------------------

[1] - سير أعلام النبلاء للذهبي ج 19 ص 490 491

[2] - جمهرة أنساب العرب ص 12

[3] - أنظر سراج الملوك ص 511 وتاج العروس للزبيدي ج 3 ص 473 وتاريخ بن خلدون ج 4 ص 119 وما بعدها.

[4] - الصلة لابن بشكوال ج2 ص 545، والديباج المذهب لابن فرحون ص 276.

[5] - المعيار ج 12 ص 186

[6] - الديباج المذهب لابن فرحون ص 276

[7] - وفيات الأعيان لابن خلكان ج 3 ص 393

[8] ـ يوجد اضطراب في تاريخ وفاته، قال الضبي في بغية الملتمس ص 15 أن وفاته كانت سنة 525 للهجرة، وتبعه السيوطي في حسن المحاضرة، ج 1 ص 256.

[9] - شجرة النور الزكية لابن مخلوف ص 142

[10] - شجرة النور الزكية ص 128، و نفح الطيب ج 2 ص 90، و الصلة ج 1 ص 143 و بغية الملتمس ص 253.

[11] - نفح الطيب للمقري ج 2 ص 155

[12] - سير أعلام النبلاء للذهبي ج 19 ص 491 و شجرة النور الزكية لابن مخلوف ص 155.

[13] - حسن المحاضرة في أخبار مصر و القاهرة للسيوطي ص 192

[14] ـ سراج الملوك، ص 511 ـ 512

[15] ـ سراج الملوك، ص 487ـ488

[16] ـ بغية الملتمس، ص 138ـ 139

[17] ـ سراج الملوك، ص 379

[18] ـ معجم البلدان، ج 4 ص 30

[19] ـ فهرست ابن خير، ص 59

[20] ـ يسمون أنفسهم بالفاطميين نسبة إلى فاطمة الزهراء عليها السلام، و هو ادعاء محض كما ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء، زعموا أن الوحي نص على خلافة علي لرسول الله، تبرءوا من أبي بكر و عمر و سائر الصحابة، للتوسع في أخبارهم انظر كتاب البداية و النهاية لابن كثير: ج 11 ص 369

[21] ـ سراج الملوك، ص 123 ـ 124

[22] ـ سير أعلام النبلاء للذهبي، ج 19 ص 490 ـ 491

[23] ـ الصلة لابن بشكوال، ج 2 ص 445

[24] ـ ج 3 ص 260

[25] ـ سير أعلام النبلاء، ج 19 ص 492

[26] ـ بغية الملتمس للضبي، ص 138ـ 139

[27] ـ الديباج المذهب في علماء المذهب لابن فرحون، ص 276

[28] ـ سراج الملوك للطرطوشي، ص 50

[29] ـ نفسه، ص 156

[30] ـ سراج الملوك، ص 156، 157

[31] ـ نفسه، ص 170

[32] ـ سورة البقرة، الآية 249

[33] ـ سراج الملوك، ص 174

[34] ـ نفسه، ص 169

[35] ـ سراج الملوك، ص 121
 

شهاب الدين الإدريسي

:: عضو مؤسس ::
إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
التخصص
التفسير وعلوم القرآن
المدينة
مكناس
المذهب الفقهي
مالكي
أبو بكر الطرطوشي.. سراج الملوك

(في ذكرى وفاته: 26 من جمادى الأولى 520هـ)​

أحمد تمام

كان المسلمون الأوائل يعتقدون أن الإقامة في الرباطات والحياة في الثغور نوع من الجهاد، لأنهم يحرسون الحدود ويكونون طلائع الجيوش الإسلامية التي تصد هجمات الأعداء، وكانت الإسكندرية واحدة من تلك الثغور التي احتشدت بالمجاهدين والمرابطين منذ فتحها عمرو بن العاص وأشرق عليها نور الإسلام، وجذبت إليها عددًا كبيرًا من المسلمين وبخاصة من المغرب والأندلس.
وكان المسلمون في هذه البلاد النائية يمرون بالإسكندرية وهم في رحلتهم الشاقة إلى الحجاز للقيام بمناسك الحج، أو في طريقهم إلى حواضر العلم في المشرق الإسلامي لتلقي العلم ومشافهة العلماء والأخذ منهم، فإذا ما ألقوا رحالهم وطلبوا الراحة من وعثاء السفر، عاودوا رحلتهم إلى حيث يريدون.

وكان كثير من هؤلاء المارين تجذبهم الحياة في الإسكندرية فيقيمون بها ويتخذونها موطنًا لهم، فينالون شرف المرابطة في الثغور، أو المساهمة في إثراء حلقات العلم التي كانت تمتلئ بها مساجد الإسكندرية، وذلك إن كانوا من حملة العلم والفقه.

وازداد توثق الإسكندرية بالمغرب قوة وترابطًا بعد قيام الدولة الفاطمية ، وهي التي قامت في بلاد المغرب ثم انتقلت إلى مصر وأنشأت القاهرة واتخذتها عاصمة لها، وأصبح المغرب منذ ذلك الحين ولاية تابعة لمصر، وكان من شأن هذا أن كثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر وإلى ثغرها البديع، ومن بين من جذبتهم الإسكندرية للحياة فيها العالم الزاهد والفقيه الكبير: أبو بكر الطرطوشي.

المولد والنشأة

في مدينة طرطوشة الأندلسية ولد أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف المعروف بأبي بكر الطرطوشي نسبة إلى بلده، وهي مدينة كبيرة تقوم على سفح جبل إلى الشرق من مدينتي بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلا، ومحاطة بسور منيع له أربعة أبواب، وبها دار لصناعة السفن، وتزدهر بها التجارة، وتعمر أسواقها بالبضائع وكان مولده في (26 من جمادى الأولى 451 هـ = 10 من يوليو 1059م).

وكانت طرطوشة يومئذ ثغر مملكة سرقطسة التي تتمتع في ظل أمرائها من بني هود بالرخاء وسعة العيش، وفي الوقت نفسه كانت من حواضر العلم في الأندلس، وتموج بالعلماء وحلقاتهم التي تمتلئ بطلبة العلم، وكان أبو الوليد الباجي أحد علمائها الكبار الذين تُشدّ إليهم الرحال، وعُدّ إمام عصره في الفقه وفي مسائل الخلاف.

حفظ الطرطوشي في بلده القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتاب، ودرس شيئا من الفقه قبل أن ينتقل إلى مدينة سرقسطة ويتصل بكبير علمائها أبي الوليد الباجي، ويتتلمذ عليه وهو في العشرين من عمره أو نحوها، أي حوالي سنة (470 هـ = 1077م)، وظل ملازمًا له ينهل من علمه الواسع ويتأثر بمنهجه في التفكير.

الرحلة إلى المشرق

غادر الطرطوشي وطنه سنة (476 هـ = 1083م) وهو فتى غض الإهاب في السادسة والعشرين إلى المشرق العربي، فنزل مكة، وأدى مناسك الحج وألقى بعض الدروس، ثم قصد بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وملتقى أئمة العلم، ومحط طلاب المعرفة من أرجاء الدنيا، وكان الوزير نظام الملك قد أنشأ المدارس التي سميت باسمه "المدارس النظامية" وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للعلم، يتفرغ فيها المعلمون للتدريس والتلاميذ للتعلم، وأوقف عليها أموالا طائلة حتى تنهض برسالتها السامية، وقد شهد الطرطوشي نظامية بغداد وهي في أوج تألقها وازدهارها، وتتلمذ بها.

وفي بغداد تفقه الطرطوشي على عدد من أعلام بغداد، فتتلمذ على كبير الفقهاء الشافعية في بغداد أبي بكر الشاشي، وكان يتولى التدريس بالمدرسة النظامية، ولزم أبا أحمد الجرجاني، وأبا سعد بن المتولي، وهم يومئذ أئمة الفقه الشافعي، ثم رحل إلى البصرة وتتلمذ فيها على أبي علي التستري المتوفى سنة (479 هـ = 1086م) وسمع منه سنن أبي داود.

ثم رحل إلى الشام، وطوّف في مدنه، فزار حلب وإنطاكية ونزل بمدينة بيت المقدس –رد الله غربتها، وأعادها إلى أحضان المسلمين، وخلصها من رجس اليهود-، وتجمع المصادر التي ترجمت له على أنه قضى الفترة التي عاشها في الشام معلمًا متمكنًا تهفو إلى علمه النفوس وتقبل عليه القلوب، وكان لزهده وورعه أثر في ذلك فاجتمع عليه الناس أينما حل.

في الإسكندرية

اتجه الطرطوشي بعد إقامته في الشام فترة من عمره إلى الإسكندرية تسبقه سمعته الطيبة وتهيئ له مكانًا في القلوب، فاشتاقت إلى رؤيته، ونزل الثغر في سنة (488 هـ = 1095م) وكانت مصر في تلك الفترة قد أمسك بزمامها الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، الذي استبد بالحكم دون الخلفاء الفاطميين، فلم يعد لهم حول ولا قوة، وأصبح تصريف الأمور كلها في يد الوزير القوي.

استقر الطرطوشي في الإسكندرية وأقبل عليه طلاب العلم، وامتلأت حلقاته الدراسية بالراغبين في تعلم الفقه والحديث ومسائل الخلاف، ولم يمض وقت على مجيئه حتى تزوج بسيدة موسرة من نساء الإسكندرية، فتحسنت أحواله ولانت له الحياة، ووهبته دارًا من أملاكها، فاتخذ من دورها العلوي سكنا له معها، وجعل طابقها السفلي مدرسة يلقي فيها دروسه.

الدين النصيحة

وبعد أن استقرت به الحياة خرج الطرطوشي إلى القاهرة عاصمة البلاد وحاضرة الخلافة الفاطمية، وفي أثناء إقامته هناك زار الوزير الكبير الأفضل بن بدر الجمالي، لا ليمدحه أو يقدم له آيات الشكر، وإنما لينصحه ويعظه دون نظر إلى مكانته وهيبته، فقد امتلأ قلب الطرطوشي بخشية الله والخوف منه، فانتزع منه كل خوف لما سواه، واستوى عنده كل شيء، وهذا ما عبر عنه أحد الصالحين حين شاهد الطرطوشي وحضر دروسه في الشام فقال: "الذي عند أبي بكر الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره.. دينه".

ومما قاله الطرطوشي لهذا الوزير: "... واعلم أن هذا الملك الذي أصبحت فيه إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يديك مثل ما صار إليك؛ فاتق الله فيما حولك من هذه الأمة، فإن الله سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، قال الله تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون".

العلم في الهواء الطلق

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية ليستأنف نشاطه وسيرته الأولى مع تلاميذه الذين التفوا حوله، وكانت له طريقة محببة جعلت قلوب تلامذته تتعلق به وتأنس معه، فلم يكتف بما يعقده لهم من حلقات دراسية في بيته أو في المسجد، بل كان يصطحبهم في رحلات إلى البساتين والأماكن الجميلة، وهناك في الهواء الطلق يلقي دروسه أو يذكرهم بما حفظوه ودروسه.

وأترك أحد تلامذته يصف لنا ما يحدث في تلك الرحلات حيث يقول: "كان صاحب نزهة مع طلبته في أكثر الأوقات، يخرج معهم إلى البستان، فيقيمون الأيام المتوالية في فرحة ومذاكرة ومداعبة مما لا يقدح في حق الطلبة، بل يدل على فضلهم وسلامة صدرهم، وخرجنا معه في بعض النزهة فكنا ثلاثمائة وستين رجلا لكثرة الآخذين عنه المحبين في صحبته وخدمته".

غير أن هذا الإقبال جلب له خصومة قاضي المدينة "مكين الدولة بن حديد"، وزادها اشتعالا ما كان يثيره الطرطوشي من نقد حول تصرفات القاضي المالية حول المكوس والمغارم الظالمة، وكذلك أطلق الطرطوشي لسانه في نقد كثير من العادات التي تنافي الشرع الحكيم، وقد جمعها في كتاب أطلق عليه "بدع الأمور ومحدثاتها"، وأصدر فتاوى أثارت الرأي العام مثل فتواه بحرمة تناول الجبن الذي يأتي به الروم إلى المدينة.

وقد ضاق قاضي المدينة وأعوانه بمسلك الطرطوشي، وبعثوا على الوزير الأفضل بشكاواهم، وصدّر الوزير الأمر على أنه بداية للخروج على النظام وإثارة للشغب، ولا بد من التصرف بشدة مع الطرطوشي الذي اجتمع عليه الناس لعلمه وورعه وزهده، وما كان من الوزير إلا أن بعث في طلب الطرطوشي، فلما قدم عليه قابله مقابلة طيبة، وأمره بالإقامة في مسجد الرصد بالفسطاط، ومنع الناس من الاتصال به، وقرر له راتبًا شهريًا، وسمح لخادمه بالإقامة معه. وظل الطرطوشي محدد الإقامة منذ أواخر سنة (514 هـ = 1120م) حتى (شوال سنة 515 هـ = 1121م)، ثم انكشفت الغمة بمقتل الأفضل وتولي مأمون البطائحي أمور الوزارة، فأفرج عن الشيخ وأحسن وفادته.

سراج الملوك

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية واستأنف حياته السابقة: حياة الدرس والإقراء، وبدأ يؤلف كتابًا في فن السياسة والحكم، وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتم هذا الكتاب في سنة واحدة وسماه "سراج الملوك" وتوجه به إلى القاهرة (516 هـ = 1122م) ليقدمه إلى الوزير الجديد "مأمون البطائحي"، فاستقبله أحسن استقبال وجلس بين يديه؛ إمعانًا في التقدير والإجلال، وأغدق عليه عطفه ورعايته.

ولم يكن الطرطوشي ليكتفي بالاستقبال الطيب دون أن يعرض عليه ما يراه منافيًا للشرع، وبخاصة فيما يتعلق بالنظم المتبعة للمواريث، حيث كان القضاة الشيعة يفتون بأن ترث البنت كل تركة أبيها إذا كانت وحيدة لا أخ لها ولا أخت، وكان هذا مخالفًا للشرع؛ حيث تحرم العصبة من المشاركة في الميراث، فلما عرض الطرطوشي الأمر على الوزير وذكّره بأن هذا مخالف للمذاهب السُّنّية التي تقضي بألا ترث البنت في هذه الحالة أكثر من نصف التركة، وبعد مناقشة طويلة اعتذر الوزير بأنه لا يملك تغيير ما يقضي به المذهب الشيعي، لكنه وافق على حل وسط يرضي المذهب الشيعي ويرضي ما يقوله الطرطوشي، وأصدر أمرًا للقضاة بأن يُتّبع في الميراث مذهب الميت، فإن كان سنيًا اتُّبع المذهب السني، وإن كان شيعيًا اتبع المذهب الشيعي.

موضوع الكتاب

وكتاب "سراج الملوك" يتألف من أربعة وستين فصلا تتناول سياسة الملك وفن الحكم وتدبير أمور الرعية، وقد تناول في كتابه الخصال التي يقوم عليها الملك، والخصال المحمودة في السلطان والتي تمكّن له ملكه، وتسبغ الكمال عليه، والصفات التي توجب ذم السلطان، وعرّج على ما يجب على الرعية فعله إذا جنح السلطان إلى الجور، وتناول صحبة السلطان وسيرته مع الجند، وفي اقتضاء الجباية وإنفاق الأموال.

وتحدث الطرطوشي في كتابه عن الوزراء وصفاتهم وآدابهم، وتكلم عن المشاورة والنصيحة باعتبارهما من أسس الملك، وعرض لتصرفات السلطان تجاه الأموال والجباية، ولسياسته نحو عماله على المدن، وتناول سياسة الدولة نحو أهل الذمة، وما يتصل بذلك من أحكام، وتحدث عن شئون الحرب وما تتطلبه من سياسة وتدبير.

وللطرطوشي إلى جانب هذا الكتاب القيم عدد آخر من الكتب منها: مختصر تفسير الثعالبي، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، في الفقه المالكي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب الفتن، وكتاب الحوادث والبدع، أو بدع الأمور محدثاتها.

وكان الطرطوشي إلى جانب تضلعه في أمور الشريعة ومسائل الخلاف أديبًا بارعًا، ويظهر ذلك في أسلوبه الرشيق الجميل في كتابه سراح الملوك، وكان شاعرًا محسنًا، وقد احتفظ كتابه هذا بنماذج طيبة من شعره، ظلت أبيات منها سائرة على الألسنة حتى يومنا هذا، مثل قوله:


إن لله عبادًا فطنا طلّقوا** الدنيا وخافوا الفتنا

فكروا فيها، فلما علموا** أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجّة واتخذوا ** صالح الأعمال فيها سُفنا


وفاة الشيخ

بلغ أبو بكر الطرطوشي مكانة عالية، وصار من أقطاب الفقه المالكي في عصره، وأصبح ملجأ الناس في الفتوى يلوذون به حتى تضل بهم السبل، ثقة منهم في علمه ودينه وأمانته، وتطلع إليه الحكام التماسًا للرأي والمشورة وطلبا للفتيا فيما يقدمون عليه من أعمال، فطلب منه عاهل دولة المرابطين "يوسف بن تاشفين" فتواه في إقدامه على خلع ملوك الطوائف في الأندلس لانغماسهم في اللهو وانصرافهم عن الرعية، فأفتاه بذلك، متفقًا مع ما أفتى به فقهاء المغرب والأندلس من جواز ذلك.

نجح الشيخ أثناء إقامته بالإسكندرية، من إحداث نشاط علمي وافر، وتتلمذ عليه عدد كبير من الفقهاء، حمل بعضهم الراية من بعده، مثل: سند بن عنان الذي خلف الطرطوشي في مدرسته، وأبي طاهر بن عوف، وكانت له مدرسة مستقلة.

ظل الطرطوشي يواصل عمله في مدرسته حتى توفي في (26 من جمادى الأولى 520 هـ = 20 من يونيو 1127م) وهو في التاسعة والستين من عمره.

هوامش ومصادر:


ابن خلكان: وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس – دار صادر بيروت.
الذهبي: سير أعلام النبلاء – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1412 هـ = 1992م.
جمال الدين الشيال: أبو بكر الطرطوشي – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – القاهرة – 1968م.
محمد عبد الله عنان: تراجم شرقية وأندلسية – مكتبة الخانجي – القاهرة – 1390 هـ= 1970م.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
جزاك الله خيرا
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.


8ـ آثاره:

تتوزع مؤلفات الطرطوشي بين الفقه، وفروعه المالكية، والأصول، والتفسير، والحديث، والسياسة الشرعية، وغيرها، منها ما طبع، ومنها ما فقد، ومنها ما لا يزال مخطوطا رهين المكتبات.

المفقود:

1ـ التعليقة الكبرى في الخلافيات:

ـ ذكره ابن فرحون ينسبه إليه في كتابه: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ج 1 ص 16.

ـ ذكره خير الدين الزركلي في (الأعلام) ج 7 ص 359.

ـ ذكره ابن خلكان في (وفيات الأعيان ) ج3 ص394.

ـ ذكره ابن مخلوف في (شجرة النور الزكية) ص125.

ـ ذكره المقري في نفح الطيب وحاجي خليفة في كشف الظنون.

نقل أبو شامة المقدسي نقلاً من هذا الكتاب ووصفه بأنه كتاب جليل، انظر: البسملة لأبي شامة المقدسي ص26

 
إنضم
23 أبريل 2010
المشاركات
7
التخصص
طالب علم
المدينة
الرياض
المذهب الفقهي
التحقيق
كتابه الحوادث والبدع من أنفس ماكتب

عليه رحمةُ الله تعالى !
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ومن أين لي أن أقتل على سنة؟

قال ابن العربي في أحكام القرآن:
كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع ، وعند رفع الرأس منه ، وهذا مذهب مالك والشافعي،وتفعله الشيعة ، فحضر عندي يوما بمحرس ابن الشواء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعد على طاقات البحر ، أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعه في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده ، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلع على مراكب تحت الميناء ، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر ، فلا يراكم أحد فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله، هذا الطرطوشي فقيه الوقت .
فقالوا لي : ولم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه .
وجعلت أسكنهم وأسكتهم ، حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغير وجهي ، فأنكره ، وسألني فأعلمته فضحك ، وقال : ومن أين لي أن أقتل على سنة ، فقلت له : ولا يحل لك هذا فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك .
فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره.
 
إنضم
21 مارس 2010
المشاركات
15
الإقامة
المغرب
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عبد الرحمان
التخصص
المذهب المالكي والتشريع المعاصر
الدولة
المغرب
المدينة
الرباط
المذهب الفقهي
المذهب المالكي
جزاكم الله خيرا وأجزل لكم المثوبة في الدنيا والآخرة
ووفقنا الله لتلمس سير هؤلاء العماء الذين جدد الله بهم الإسلام وأقام بهم شريعته بين الأنام، وجعلهم خير خلف لخير سلف ما تعاقب الملوان واستمرت الأزمان. ووصل العهد بنا إلى القطيعة والنكران، وتلبس خطى الشيطان. فلله در القائل:
نهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولونطق الزمان لنا هجانا
فعلى كل سالك طريق النور التزود من معينهم وخلالهم والعظ عليها بالنواجد فعسى أن نشر معهم. والمرء مع من أحب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
أعلى