العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

فلسفة الابتلاء بالوباء،

إنضم
5 مارس 2023
المشاركات
58
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
• فلسفة الابتلاء بالوباء: كورونا نموذجًا
أذكر عندما كنت طفلًا صغيرًا كنت أمني النفس بسرعة التقدم في العمر كي أقف امام ميكروفون المسجد، وأرفع الأذان، ولم أطق صبرًا والعمر يمضي ببطء، والأمنية لا تطرق بابي بالفعل ولا بالقول، فشرعت في التطفل على إدارة المسجد وعمري ١٣ عامًا حتى سمح لي أحدهم برفع الآذان، ومتى؟ يوم الجمعة، فهمس به أحدهم (هيرتعش) لكنه وضعني في هذا الموقف الصعب، وما أن بدأت في رفع الاذان حتى اهتزت أقدامي، وتسارعت دقات قلبي، وخِفتُ أن لا أستكمل، لكن الله تعالى وفقني، وأصبحت بعدها مؤذنًا صغيرًا يسمح له بين الفينة، والأخرى، وكم كانت سعادتي، وشوقي، وحبي لذلك، وشعوري بالتميز عن سائر أطفال القرية، ومنذ ذلك الوقت وحتى عام ٢٠٢٠م وقد بلغت الخامسة والاربعين من عمري وقد منَّ الله علي بالإمامة؛ لم أنادي على الناس: صلوا في رحالكم او بيوتكم، ولم أر المساجد تغلق تمامًا، أو يمنع فيها الصلاة، وأصبح هذا الحدث مؤلما كثيرًا لأني جديد عهد به؛ تألمت له كما تألم له الناس، وأبكاني كما أبكى آخرين، ولأن الله تعالى استعملني في خدمة بيوته منذ مقتبل الشباب كان الحرمان من هذه النعمة غصة عظيمة، ووجع كبير.
وتساءلت ما الحكمة من هذا الوباء؟! ومعظم الأوبئة لا تأتي إلا على تباعد الأعمار، والأجيال فليست بالشهرية، ولا السنوية؛ بل ربما قرنية: أي كل قرن من الزمان، وقلت في نفسي: هل هي سنة كونية أن يحلم الله تعالى على البشرية في مجموعها ولا يعمها بالبلاء إلا بعد أن يأسف الله تعالى منهم، ويعذرهم من نفسه بالحلم، والصبر، والإمهال، وخلال ذلك يرسل إليهم نُذُر العقاب فيما هو اقل من الوباء لعلهم يرجعون من قريب؟
ما السر في تباعد المسافة الزمنية بين الوباء والوباء؟ بينما نرى الابتلاء متقارب في البلدان بالأعاصير، والسيول، والبراكين، والزلازل، والفيضانات وغيرها؟
وقلت إن الوباء إذا عمَّ البشرية فغالبًا - في رأيي - أن السبب أن عموم هذه البشرية في غالبها قد آسفت ربها، وخالقها، ومعبودها؛ حتى بلغت من غضبه عليها إلى انتقامه منها انتقامًا يشمل أرجاءها، وأنحاءها بلا تمييز إلا من شاء، وكيف شاء، قال تعالى: ﴿فَلَمّا آسَفونَا انتَقَمنا مِنهُم فَأَغرَقناهُم أَجمَعينَ﴾ [الزخرف: ٥٥]، وقد سبق هذا الانتقام الإلهي حلمٌ عظيمٌ ولطفٌ واسعٌ وصبرٌ طويلٌ يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
ثم عدت القهقري وقلت في نفسي: وما أدراني أن تكون هذه حرب بيولوجية مصطنعة من البشر أنفسهم؟! لماذا كل شيء نحاول أن نتبرأ من مسؤوليته، ونلقي به على القضاء، والقدر والابتلاء، والبلاء؟ وحتى لو كان خطأً مخبريًا علميًا فهو من خطأ البشر؟ أليس هذا واردًا؟!
ثم أجبت نفسي: وهل يكون هذا رغما عن ارادة الله تعالى؟ لا يكون في الكون إلا ما أراد الله تعالى له أن يكون؛ فإن كان منه فهو قدر كوني، وإن كان من البشر فلأن الله أراد لإرادة البشر أن تكون واقعًا وفعلًا، ولم يشأ أن يمنع ذلك، وكون الله لم يشأ أن يمنع ذلك فهو يجمع بين تحميل البشر المسؤولية عن الفعل بتسببهم فيه، وبين أن لله فيه حكمة وتقدير، ومن أوجه الحكمة الربانية أن يعاقب الله البشر بالبشر كما قال تعالى: ﴿قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُم يَفقَهونَ﴾، فمن ألوان العقوبات الربانية أن يذيق الله بعضَنا بأسَ بعض بأن يعاقبنا بنا، نعم! يعاقب البشر بالبشر، وقال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ نُوَلّي بَعضَ الظّالِمينَ بَعضًا بِما كانوا يَكسِبونَ﴾ [الأنعام: ١٢٩] فيسلط الله تعالى الظالمين على الظالمين ليعاقبهم وينتقم منهم.
وأيا كان الأمر عقوبة كونية وقدرًا محضًا، أو بسبب من البشر؛ قصدًا أو خطأً؛ فلا يكون ذلك كذلك إلا بإذن من الله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله): أي وما هم بضارين به من أحد حتى وإن قصدوا الإضرار به؛ إلا بإذن الله تعالى، فيعاقب بقهره، وجبروته، وقوته، وقدرته، أو أن يترك للمفسدين في الأرض يدمرون ويخربون فيها: ﴿وَإِذا أَرَدنا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنا مُترَفيها فَفَسَقوا فيها فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرناها تَدميرًا﴾ [الإسراء: ١٦].
والخلاصة لما سبق أن العقاب العام للبشرية كلها لا يكون - غالبًا - إلا إذا تمالأت على محاداة الله تعالى، ودينه الحق، وبارزت الله بالمعاصي، والفجور، والعدوان، واستحلت ذلك جهارًا نهارًا، وقل الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وعُودِي أهل الصلاح، ونُكل بهم، ورُحب بأهل الفجور، والفساد، وأُفسح لهم كل وادٍ، وناد، بالجرس والحرس؛ حتى إذا بلغت البشرية ذروتها في العناد مع الله، وبلغ التضييق على الدين وأهله منتهاه؛ يكون الأسف، وما أدراكم أن يأسف الله تعالى من الخلق؟! وما أهون الخلق على الله تعالى إذا اجتمعوا على معاندته، ومبارزته بالمعاصي، والفساد، والإفساد، فيَدٌ قُطعت ظلمًا تكون ديتها خمسون من الإبل؛ هي نفسها التي تَرْخُص، ويُحكم عليها بالقطع إن سرقت ربع دينار فما فوق، يد كرمها الله فأغلى ثمنها، ويد أرخصها الله فأبخسها، فكرامة البشرية على الله تعالى إنما تكون بالتقوى، ويدفع عن البشرية في فساد بعضها صلاح البعض الآخر، وكثرة المصلحين فيها، ويزري بالبشرية إعراضها جميعًا أو غالبًا عن أمر الله تعالى، وهل خُلقوا للإعراض عن ربهم؟!: (وما خَلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون).
وهنا نفهم كيف أن الوباء هو من أعظم جنود الله تعالى في الإنذار، وكلما توسع الفساد في الأرض، كانت الأرض في حاجة إلى نذير بحجم مصابها الجلل الذي عمَّ، حتى يعود بها إلى جادة الصواب، ولا يصلح للجواد إلا فارسٌ بقدره، يقوده، ويروضه؛ ومن ثمَّ كانت البشرية على موعد مع وباء لا يتكرر إلا عبر عشرات السنين، أو القرون؛ لينذر – في رأيي - الناسَ بأنكم قد آسفتم ربكم، وبلغتم بفسادكم مبلغًا لا تحتمله الأرضُ التي استخلفكم الله فيها بالعمران، فاستبدلتموه بالخراب، والطغيان، فآن لذلك أن ينتهي، وآن لمجموعكم أن يستفيق، وآن للظالم أن يرتدع، وآن للمظلوم أن تُستجاب دعوته، وذلك لقلة شكركم، وطول إعراضكم، والله غني عن طاعتكم، كما كان غنيًا عن عذابكم: ﴿ما يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكانَ اللَّهُ شاكِرًا عَليمًا﴾ [النساء: ١٤٧].
إن الناس في طاعتهم لله تعالى منقسمين أطيافًا:
منهم من أطاع الله بفطرته فهو في معية الله سعيدًا بعبادته دون مشقة بل بألفة، ورحابة صدر، ورقة قلب، وهو مع الله تعالى في السراء، والضراء لا يتزحزح: (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له).
ومنهم من لا يعبد الله تعالى إلا بالألم، والوجع، لا يتعلم حتى يتألم بالبلاء والابتلاء، لا يرجع إلى الله إلا بالشدة، والتضييق: ﴿وَإِذا مَسَّ الإِنسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيبًا إِلَيهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعمَةً مِنهُ نَسِيَ ما كانَ يَدعو إِلَيهِ مِن قَبلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندادًا لِيُضِلَّ عَن سَبيلِهِ قُل تَمَتَّع بِكُفرِكَ قَليلًا إِنَّكَ مِن أَصحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨].
ومنهم من لا يتعلم ولو تألم، بل يعاند ويقسو، ولا يرجع إلى الله حتى تدركه سنة ربانية لا يجد عنها موئلًا، ولا منها فكاكًا، وهو لاقيها مهما أمهله الله تعالى جزاء نسيانه، وعناده، وطغيانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)}.
فيكون الابتلاء بالوباء رحمة على المؤمن لمضاعفة أجوره، وثوابه لرضاه عن ربه، وخالقه في كل أحواله، ونذيرًا للعصاة ليعودوا إلى خالقهم، وربهم، ويتوبوا، ويكون عذابًا على المعرضين، والمفسدين، والمعاندين، الذين طال إعراضهم، واتسع فسادهم، وانتشر ظلمهم؛ فيأخذهم دون إفلات، ويهلكهم بلا فوات، ويجعلهم في إبلاس، ويقطع شرهم عن الناس، فتكون نعمة نحمد رب العالمين عليها أن قطع دابر الظالمين، وأنصف منهم المظلومين، وأثاب الصابرين، واصطفى شهداءً مرابطين.
قارئي الكريم: ثم تجلت لي حكمة أخرى من حِكَم الابتلاء بالوباء، وهي أن الله تعالى قدر الحق، والباطل، وجعل للحق أهلًا، وللباطل اهلًا، بقانون الاختيار، والحرية المسؤولة، التي أودعها عقول، وقلوب، ونفوس، وضمائر العباد، والمعركة بين الحق والباطل محسومة للحق؛ لكن المعركة بين أهل الحق، وأهل الباطل سجال؛ ينتصر هؤلاء، وينتصر أولئك، وعندما يتخاذل أهل الحق في نصرة حقهم، ويشتد أهل الباطل في نصرة باطلهم، تكون الكرة لأهل الباطل، والنصرة لهم لأخذهم بأسباب النصر، وإذلالًا لأهل الحق المتخاذلين، فإن طال تخاذل أهل الحق، وتفريطهم، وتراجعهم، وإلافهم للذل، والاستكانة، وتركهم الجهاد، وركونهم للدنيا، وشهواتها، وفي المقابل امتلأت قلوب أهل الباطل بإذلال أهل الحق، وطال غرورهم، وظنهم بالتمكن، والتجبر، والتكبر، حتى استخفوا بالحق ذاته، وبالدين القيم، وبالصالحين المغلوبين لا حيلة لهم ولا يهتدون سبيلًا غير الدعاء المرفوع للسماء، وحوصر المصلحون، وظن الجميع أن الباطل صار حقًا، والحق أصبح باطلًا، وأن المعركة قد حسمت، والميدان قد خُلِي، والأرض بالباطل تزينت، والبحار بالباطل قد ركُبت، والآفاق بالباطل قد أغلقت، جاء القاهر سبحانه فقلب أسس المعركة، وقواعدها: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)؛ فيستبدل أهل الحق المتخاذلين عن شرف الجندية السامي بجنود لا قبل لأحد بهم، وربما كان من أضعف خلق الله تعالى؛ لكن الله منحه شرف الجندية في الدفاع عن الحق؛ فاستمد الجندي الضعيف قوته من تشريف الله له، واستعماله إياه؛ فأحدث في الكون العجائب، وأذهل العقول، وروع القلوب، وخطف الأبصار، وأدهش الأسماع، ودانت له البشرية بالذل، والاستكانة، والخضوع، والعجز، وحينها يلوم المتخاذل نفسه أن جرده الله من نصرة الحق، واستبدله بجندي آخر أقل منه شأنًا، وتكريمًا وخَلْقًا، وربما كان هذا الجندي الضعيف في قوته، المستبسل في مهمته، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والداعي إلى الحق، والرافع لكلمة الله في بقاع الأرض، ميكروب لا يرى بالعين المجردة، ولا يسمع بالأُذن المحتدة، ولا يُلمس باليد، ولا رسم له ولا حد، ولا طول له ولا عرض، ليقيم الحجة على الخائفين من الملحدين، والهاربين من الطاغين، ويعلن بأن الله تعالى هو واجد الوجود، وهو الحق، والخير، والجمال، والنور، وهو خالق كل موجود، ربما كان هذا الجندي الذي يتحرك بيننا من وراء حجب الأستار ولا تراه عين الإبصار، هو: الكورونا.
 
أعلى