العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

التأسيس المعرفي للحكم الفقهي قراءة كرونولوجية في التأسيس والمآلات، في ظل رقمنة الحياة

إنضم
25 فبراير 2023
المشاركات
35
الجنس
ذكر
التخصص
الأدب والنقد
الدولة
مصر
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الأحناف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبعد .

فإن عملية تأسيس الحكم الفقهي من القضايا الهامة والدقيقة التي تحتاج إلى مزيد عناية، ومراعاة عميقة للمناطات؛ حتى نستطيع ضبط مساحة الفضاء التشريعي- الاجتهاد- ؛ وألا نقع في عدم ضبط المسافة بين الآراء والأحكام ، ومن ثم ينشأ تكيف خاطيء للوقائع، وإصدار أحكام مجافية للواقع والعصر .

وقد راعى علماء الأمة القدمى منذ عهد الصحابة (رضي الله عنهم) هذه القضية بصورة حساسة وموضوعية منضبطة من خلال مرعاة السياقات والمآلات ، وذلك ناتج عن طريقة تعليم النبي(صلى الله عليه وسلم) لهم وتقبلهم المعرفه منه .

بداية فإن الحكم الفقهي نشأ في الأمة من خلال النبي (صلى الله عليه وسلم) بتقديم الأجوبة على تساؤلات الصحابة رضي الله عنهم، وهذا شائع وممتد في السُّنة النبوية ، من أول أحكام العبادات، ونهاية بأحكام القضاء والذبائح والنذور، وفق ترتيب المؤلفات الفقهية فيما بعد ، وقد تلقي الصحابة (رضي الله عنهم ) ذلك منه، فنشأت الأقوال والآراء تبعًا لإجابات النبي (صلى الله عليه وسلم)على الواقعة الواحدة بإجابات مختلفة، ومن ذلك المنظور جاءت فكرة الخلاف والتنوع في الأقوال، فقد يحضر بعض الصحابة الواقعة، وقد لا يحضرها الآخرون، وهكذا بدأت مدرسة التمذهب والآراء ، فنشأت مدرسة عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عمر، وابن عباس، وعائشة(رضي الله عنهم)جميعا .

إننا عندما نتناول هذه القضية من خلال منظور كورونولوجي – تسلل زمني- فإننا نستطيع الإجابة على عديد من الإشكاليات في البحث الفقهي، وكيفية تأسيس الأحكام الفقهية لدى الفقهاء والمدارس الفقهية.

إن القضية لا تتوقف عند تتبع المسار الزمني للمدارس الفقهية، ومدرسة الدليل التي هي في الأساس فرع على مدرسة التمذهب ؛ لذلك كان لا بد من التنبيه على هذه القضية .

جاءت بعد ذلك مدرسة عكرمة مولى ابن عباس، و عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وغيرهم من فقهاء التابعين، الذين يُعدون التأسيس الحقيقي لمدرسة المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، والاثنا عشر مذهبًا المعتمدة .

كانت بداية مدرسة الرأي في العراق هي التبلور الحقيقي لمنهج محدد المعالم ، والأطر الفقهية وفق أصول مرعية عند الإمام أبي حنيفة النعمان (رحمه الله ) هي البداية الحقيقة لمدرسة لها أصول وثوابت تعرف عليها فيما بعد بأصول المذهب الحنفي .

وعلى الجهة المقابلة ، جات مدرسة الأثر والتمسك بالنصوص في الحجاز على يد الإمام مالك ابن أنس (رضي الله عنه)، وكأنها ردة فعل على التوسع في استخدام الرأي لدى الأحناف، ووضعت لنفسها أصولًا وضوابطَ في بناء الحكم الفقهي وتحرير القضايا تلتقي في بعضها مع الأحناف، وتتباين معهم في البعض الأخر.

وجاء بعد ذلك السادة الشافعية الذين حاولوا التوسط بين هؤلاء وهؤلاء إلا أنهم قدموا فقها مبنيًّا على أصول علمية وقواعد تنظرية عظيمة، نشأ عنها الخلاف مع الأحناف في عديد من القضايا الأصولية التي تبني عليها القضايا الفرعية، ولذلك كان الشافعية من المدارس الأصولية المتميزة .

وأخيرًا جاء السادة الحنابلة، ولعل فكرة فقه الدليل بدأت من عندهم، إلا أن السادة الحنابلة يغلب على مذبهم طابع المحدثين في تأسيس الأحكام الفقهية، كما عُرف عن الإمام البخاري، فهو محدِّث أكثر من كونه فقيهًا، كذلك فهم يحاولون الجَمع بين أقوال المذاهب من خلال اعتماد قولين في كافة المسائل، والقضية الأخيرة، فقد اعتبر المتخصصون المذهب الحنبلي فرع من المذهب الشافعي .

كانت هذه بداية تأسيسة يمكن الولوج من خلالها إلى بيت القصيد ، والقضية محل النزاع، والدراسة ، ولذلك نحن نقول الآتي:

تأسيس الحكم الفقهي له ضوابط وقواعد يسير وفقها، وليس خبط عشواء أو مجرد ذكر أدلة مرصوصة بجانب بعضها ،يعقبها التكثيف والحشد من الأقوال التي تدعم ذلك، هذه نقطة أولية .

النقطة الثانية ، هي أن الحكم الفقهي موضوعه الأساسي هو " الدليل " النص الذي ورد في القرآن الكريم أو في السنة النبوية الصحيحة .

فإذا كان النص من القرآن الكريم فإن هذا سوف يعفينا من قضية إثبات صحة النص من عدمه، وإنما ننتقل إلى المباحث الأخرى " مباحث التعامل مع النص" وهي كثيرة جدًّا .

وإذا كان النص من السنة النبوية، فإننا قبل التكلم عنه ومتعلقاته، فإننا نتحاج إلى إثبات صحة هذا النص من عدمه، فهذا أول متعلقات النص، ومظانها كلام المحدثين ، فهو يُقدم على كلام الفقهاء، وهذا مسألة منهجية .

وعندما يتم التأكيد من صحة النص النبوي – الدليل- ، وفي أي مرتبة من مراتب الصحة ، مع بيان العلل أو القضايا المتعلقة به فيما يختص بعلوم الحديث، فإننا ننتقل إلى القضية المحورية، وهي كيفية معالجة هذا النص، كيف يمكننا بناء الحكم على هذا النص؟ .

بناء الحكم على هذا النص له اعتبارات شرعية ولغوية، وسياقات متعددة، يمكن من خلالها بلورة منهج في قراءة النص كالآتي :

أولًا: الاعتبارات الشرعية كالآتي :

بيان الناسخ والمنسوخ، والمحكَم والمتشابه، المطلَق والمقيد، الخاص والعام ، ويمكننا أن نوجز ذلك فيما يُطلق عليه مباحث علوم القرآن .

أما الاعتبارات اللغوية، فهي اللغة والنحو والدلالة، ومباحث اللغة المتعدة التي تنهض من خلالها قراءة النصوص .

الاعتبارات السياقية، وهي تراعي الأبعاد التي تحيط بالنص أو الواقعة، كالوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي، وغير ذلك من السياقات .

كانت هذه بداية أولية لما أراد التعاطي مع النص الشرعي بصورة صحيحة وعلمية منضبطة بعيدة عن الأفهام المغلوطة، ثم يأتي بعد ذلك أصول المذاهب الفقهية التي رسمها أصحابها من أجل النهوض بأقوال صحيحة ودقيقة في تخريج الفروع على الأصول كالآتي :



كانت أصول الأحناف كالآتي :

قال الإمام الأعظم : "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) والآثار الصحيحة عنه التي فشت في أيدي الثقات فإذا لم أجد في كتاب الله و لا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أخذت بقول أصحابه ممن شئت وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم النخعي والشعبي وابن المسيب - وعدَّد منهم رجالا - فإني أجتهد كما اجتهدوا. " ([1])، وهكذا تتضح رؤية الإمام الأعظم في التعامل مع القضايا أو كيفية تأسيس الحكم الفقهي عنده ، فإنه يمر بمتوالية من المراحل من الأعلى إلى الأسفل أي بصورة تنازلية حتى يصل إلى مساحة الفراغ التشريعي – الاجتهاد – التي يمكنه من خلالها إبداء رأيه في المسألة ، وفي بيان نقطة الاجتهاد عن الأحناف بصورة دقيقة يوضحها ابن القيم حيث يقول :" إن المتأخرين أحدثوا حِيَلاً لم يصح القول بها عند أحد من الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم. والحِيَل عند فقهاء الحنفية تطلق على المخارج من المضايق بوجه شرعي، حيث جاء في شرح الأشباه والنظائر للحموي: الحيل: جمع حيلة، وهي وجود النظر، والمراد بها هنا ما يكون مخلِّصاً شرعياً لمن ابتلي بحادثة دينية، ولكون المخلص من ذلك لا يدرك إلا بالحذق وجودة النظر أطلق عليه الحيلة. وما دامت الوسائل مشروعة، وتؤدى إلى مقاصد مشروعة، فإن ذلك يكون جائزاً". ([2]).

إنني في هذه الورقة أريد أن أؤكد على نقطة هامة ومحورية عند التعامل مع النص الشرعي في كيفية تأسيسه ، وهذا لا يتوقف على النقاط التي ذكرناها قبل قليل في اعتماد الإمام الأعظم على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس، وإنما يمتد إلى نقطة أعمق من ذلك ، وهي ما يمكن أن نطلق عليه فلسفة العقل الحنفي أو فلسفة علماء الأحناف في تأسيس الأحكام، وهذا ينطق على المالكية والشافعية والحنابلة ،وغيرهم من المذاهب المعتبَرة .

وهنا سوف أتكلم عن هذه النقطة عند الأحناف، وأتناولها في مقالات أخرى عند المالكية والشافعية والحنابلة.

المذهب الحنفي يعتمد على الإمام و الصاحبَين: أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ، ومحمد بن الحسن الشيباني أشهر من روى مذهب الإمام ، وجلس أمامه، وكذلك جلس أمام أبي يوسف، وله رواية لموطأ الإمام مالك .

ويُعد محمد بن الحسن الشيباني مجتهدَا مطلقا إلا أنه ارتضى أصول الإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه).

تميز محمد بن الحسن الشيباني بكتابة وتدوين كل ما يسمع من شيوخه، وهذا من الإمام وغيره .

نتج عن ذلك أن كُتب محمد بن الحسن الشيباني نشرت عنه بصورة كبيرة بلغت حد التواتر ، وهذه الكتب التي نقلت عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني بصورة التواتر تسمى ظاهر الرواية، لأن هناك كتب أخرى نشرت عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني لكنها لم تكن بصورة التواتر – سندها برواية الآحاد – تسمى كتب النوادر .

اتضح من ذلك تأسيس أخر هو أن كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني التي نقلت بطريق التواتر سميت كتب الأصول أي أصول المذهب التي تفرعت عليها فروع المذهب كلها ، وهي ستة كتب كالآتي : الجامع الكبير ، الجامع الصغير ، السيَر الكبير، السيَر الصغير ، المبسوط الأصل ، الزيادات .

السؤال هنا: ما فائدة ذكر ذلك ؟ الإجابة أنه تم تأسيس أصل على ذلك منضبط ومطرد ، وهو أن المسألة إذا جاءت في هذه الكتب ، وكتب النوادر – التي جاءت برواية الآحاد- تقدم رواية كتب الأصول وتسمى ظاهر المذهب .

ثم إن هناك مسألة منهجية أخرى تتعلق بذلك، وهي أن :

كتب الطبقات في المذهب الحنفي كالآتي :

أعلاها كتب الأصول ثم النوادر وكلاهما للإمام محمد بن الحسن الشيباني .

ثم كتب الفتوى والواقعات ، وهي مسائل وجدت بعصر الأئمة الأوائل – أبي حنيفة وأصحابه- ثم لم يجد علماء المذهب عن السابقين حكما فيها – مستجدات- فاجتهدوا وفق قواعد المذهب الحنفي وأفتوا فيها

هذه المسألة تنسب إلى المذهب الحنفي أيضًا لكن في حالة التعارض يقدم ظاهر المذهب على النوادر ثم تقدم النوادر على الفتاوى والواقعات .

هذه بعض النقاط المنجهية التي نستطيع من خلالها قراءة العقل الحنفي في تأسيس الأحكام ، والنهوض المعرفي الكبير الذي كان لديهم ، وقد كانت هناك نقطة أخرى أن علماء المذهب الحنفي يقسَّمون إلى طبقات ، وهذه نقطة منهجية أخرى تتعلق بمراحل المذهب ، وضبط المسار الزمنى للمذهب في تلك الطبقات بين متقدمي المذهب ومتأخرى المذهب ، وعليها تؤسس قضايا منهجية واستدلالية .

وكانت أصول المالكية كالآتي :

ذَكر الشيخ أبو صالح محمد الهسكوري الفاسي (ت653هـ) أن الأدلة التي بنى عليها مالك مذهيه ستة عشر: نص الكتاب، وظاهر الكتاب (وهو العموم)، ودليل الكتاب (وهو مفهوم المخالفة)، ومفهوم الكتاب (وهو باب آخر)، وتنبيه الكتاب ) وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى (فإنه رجس أو فسقا)، ومن السُّنة أيضا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة. والحادي عشر الإجماع، والثاني عشر القياس، والثالث عشر عمل أهل المدينة، والرابع عشر قول الصحابي، والخامس عشر الاستحسان، والسادس عشر الحكم بسد الذرائع، واختلف قوله في السابع عشر، وهو مراعاة الخلاف، فمرة يراعيه، ومرة لا يراعيه، قال أبو الحسن: ومن ذلك الاستصحاب" ([3])



وجاءت أصول الشافعية كالآتي:

إنه ثمة نقطة مهمة وهي أن " الشافعي يختلف عن أئمة المذاهب في أنه كتب كتبه بنفسه و أملاها على تلاميذه، و كان إملاؤه في بعض الأحيان من ذاكرته، و كما يختلف عنهم أيضا في أنه نشر مذهبه بما قام به من الرحلات، و لم يعرف هذا لغيره من الأئمة، فتلاميذهم هم الذين دونوا آراءهم، ونشروا مذاهبهم"([4]).

قال الإمام الشافعي : " وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ إذَا ثَبَتَتْ }السُّنَّةُ .
وَالثَّانِيَةُ : الْإِجْمَاعُ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ .
وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا فِيهِمْ

وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ

وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ

وَلَا يُصَارُ إلَى شَيْءٍ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى "([5])

وكانت أصول الحنابلة كالآتي :

قال الإمام أحمد " إنما على الناس اتباع الآثار عن رسول الله ، ومعرفة صحيحها من سقيمها، ثم بعد ذلك قول أصحاب رسول الله ، إذا لم يكن قول بعضهم لبعض مخالفًا. فإن اختلف، نظر في الكتاب. فأي قولهم كان أشبه بالكتاب أخذ به، أو بقول رسول الله أخذ به. فإذا لم يأتِ عن النبي ، ولا عن أحد من أصحاب النبي . نظر في قول التابعين، فأي قولهم كان أشبه بالكتاب والسنة، أخذ به، وترك ما أحدث الناس بعدهم" ([6])

هذه السردية التي نقلناها عن أئمة المذاهب في أصول الاستدلال عندهم إنما كانت من حيث الترتيب في استخدام الدليل – الكتاب – السنة – الإجماع – القياس- وغيرها حسب كل مذهب فيما انفرد به عن الآخر، وإنما هناك قضية أخرى وهي كيفية تعامل أصحاب هذه المذاهب مع الدليل ومعالجته في كل مرحلة من هذه المراحل ، ومن ثم النهوض من خلاله بالأحكام الشرعية، هذه النقطة التي نحاول تسليط الضوء عليها .

وبناءً عليه ، فإن المجتهدين في قضايا الفقه ومسائله وضعوا مصادر لعملهم ورتبوها أصوليا لتكون أدواتهم في التعامل مع النصوص فاعتبروا الكتاب والسنة والقياس والإجماع مصادر أصلية للتعامل مع النصوص وتخريج مسائل الفقه ، بينما اعتبروا المصالح المرسلة والاستحسان والعُرف والعادة وشرْع من قبلنا مصادر ثانوية .

المجتهد في قضايا العمران والتحضر وتحولات السلطة والدولة والنظم السياسية وعادات البشر ونظم عمرانهم وتحضرهم ولأن مجال عمله بشكل أساسي ورئيسي، الواقع والولايات ونظم الاجتماع والسلطة والحكم وطرق المعاش ووسائل التعامل مع المشكلات المختلفة في الحياة فإن أدواته الرئيسية ليست هي أدوات الفقيه ،، تصبح أدوات الفقيه الثانوية والمكملة هي أدوات أساسية ورئيسية للمجتهد في مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران والتحضر. فالعادة والعرف والمصالح المرسلة والاستحسان وشرع من قبلنا ونظام المقاصد الشرعية من الضروري والحاجي والتحسيني هذه هي أدوات رئيسية عنده وهي أدوات ينضم إليها بالطبع معرفة مناهج التفلسف والنظر والتكلم والجدل ومعرفة النظريات الفكرية في الشرق والغرب وتعلم اللغات والاقتراب مما يجري في العالم .

عمل المجتهد في العلوم الاجتماعية والسياسية يختلف عن عمل الفقيه ورجل الدين والشريعة بمعناه المعروف المتخصص في علوم الشريعة ،، وبالطبع فإن المجتهد في العلوم الاجتماعية - يكون له حظه من المعرفة بالعلوم الشرعية لكنه لا يرقى لمستوي التخصص فيها كما في حالة المتخصصين في علوم الشريعة .

أكافح للتمييز بين مجال علوم الدين الخالصة وبين مجال علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد ومناهج العمران والتاريخ و أحوال البشر ، لأن فَهم ذلك التمييز سيخرجنا من ورطة الفهم السقيم أن عالم الدين هو الذي سيجيب لنا علي جميع الأسئلة ، وسيخرجنا من ورطة التعامل مع قضايا الواقع المتغيرة والمفتوحة علي المستقبل والتغير الدائم بمناهج علوم النصوص الشرعية ذات الطابع الفقهي ، لكل مجال مناهجه ، والمؤكد أن مجالات الواقع تتسع بدرجة هائلة تحتاج معها لاجتهاد لا يتوقف من جانب مجتهدي العلوم الاجتماعية بأكثر مما تحتاجه علوم الشريعة " . ([7])

ومع التطورات الهائلة والتكنولوجيا المتوغلة من حولنا ، ورقمنة الحياة من خلال الذكاء الاصطناعي فإننا في حاجة إلى الاجتهاد الفقهي الموسع الذي يمكن من خلاله التعامل مع تلك التحولات الكبرى في القضايا من حولنا، فالقد أصبح الذكاء الاصطناعي داخلا في تفاصيل عديدة من جوانب الحياة، منها ما يمكن أن يدخل في قاعدة المباشرة، ومنها ما يمكن أن يندرج تحت قاعدة السببية، أي المسبب والمباشر، كما يسميها الفقهاء، ومنها ما يدخل في نطاق الإنابة عن الإنسان في أمور متنوعة، فما هي الأحكام المتعلقة بذلك ؟ وما هي التكيفات الشرعية لذلك ؟ .

الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدخل بداية دائرة الحلال والحرام ، وهذا من حيث الاستخدام وذلك من قبيل الحكم وضده.

فإذا كانت الأهداف صحيحة ومفيدة للبشرية ، فيدخل في حيز الحلال والمأمور به، وإذا كانت الأهداف ضارة ومفسدة فإنه يدخل في نطاق الحرمة، وهذا له مراحل وضوابط معينة .

كذلك يمكن أن يدخل في نطاق المندوب ، والمكروه، والمباح ، وهكذا فإن قضايا الذكاء الاصطناعي يمكن لنا قراءتها بصورة فقهية وفق الضوابط الفقهية المؤسسة لديناـ ويمكن ضبطها من خلال ذلك .

قضايا الذكاء الاصطناعي سوف تزيد من حولنا وسوف تتشابك معنا في كل حين، وتحتاج منا إلى دراسة موسَّعة فيما يتعلق بها ويتماس معها من أحكام فقهية وشرعية .

وهذا سواء على المستوى الفردي أو على المستوى المجتمعي .



([1]) ابن عبدالبر : الانتقاء، 1/ 82، و الفكر السامي ج/2/132
([2]) مناع القطان: تاريخ التشريع الإسلامي ، ص 334.
([3]) القبس شرح موطأ مالك بن أنس،تح ولد كريم، دار الغرب، ط1/1992م.
([4]) نبذة مختصرة عن المذهب "المذهب الشافعي"الدرر الشامية، متاح على الرابط،

([5]) الزركشي : لبحر المحيط ،ج6/55
([6]) ابن القيم : إعلام الموقعين، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، 421هـ/2000م، 1/33-37.
([7]) كمال الدين : مقال في المنهج: (2020)
 
أعلى