العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

نظرية الدوائر (المستويات) الثلاثة في العلاقات الاجتماعية

انضم
5 مارس 2023
المشاركات
240
الإقامة
قطر الدوحة
الجنس
ذكر
الكنية
أبو عمار الرشيدي
التخصص
فقه وأصول
الدولة
قطر
المدينة
الدوحة
المذهب الفقهي
الحنبلي
١٦٢. ما هي القواعد المتحكمة في العلاقات الاجتماعية قوة وضعفا، وكيف نبني علاقات قوية دائمة؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فمثل العلاقة الطيبة مع الآخر كمثل ورقة بمبعد عن النار، وكلما اقتربت هذه العلاقة الطيبة من المشاكل والخلافات والنزاعات والإيلام والنوايا المتلون، وقسوة الحياة وروح العداء والانتقام، والحروب النفسية والعصبية، والمكر والكيد والخداع؛ كانت كاقتراب الورقة من النار حتى لا يكون ثمة مسافة فتأكل النار الورقة، وتأكل كل هذه العوامل العلاقة الطيبة مع الآخر، وكل علاقة مهما كانت قوتها وصلابتها لها نار تتربص بها عن بعد، ولا استثناء من ذلك البتة، ولو كانت علاقة بين الأم وابنتها، وبين الأب وابنه، وما دون ذلك أولى بالحذر. والواقع يشهد على تصدع أقوى العلاقات وأشدها متانة بين أقرب البشر وأقواهم صلة ورابطة، ونسباً ودماً. ومما يساعد في بناء العلاقة تصاعديا أن تنهض على التقدير ويحكمها الاحترام المتبادل وتقوم على التجرد من المصالح والاهداف المنفعية التي إن قدر لها أن تتعارض كان في تعارضها هدم العلاقة وانهيارها وحدث عن ذلك ولا حرج.
أما الهدم في العلاقات الاجتماعية والهبوط بها تنازليا فيقوي من شوكته تضارب المصالح والاشتراك في حمل المسؤولية الواحدة وعدم اتساع الأفق وغير ذلك.
وتدفعنا المصالح المتضاربة إلى الخوف على شيئين مهمين هما: المادة والبقاء.
فحين يسوء الدخل المادي بسبب الآخر تتجه العلاقة بينهما إلى الانحلال وقد تصل إلى الانهيار. وحين يهدد أحدهما في بقائه في مكانه أو مكانته أو وظيفته بسبب الآخر؛ تتجه العلاقة إلى نفس المصير السابق. ولا يُفهم من حديثنا عن المادة والبقاء عدم وجود عوامل أخرى؛ لكن هذين العاملين في رأيي – المادة والبقاء - هما أقوى عوامل انهيار العلاقات الاجتماعية، وللعلاقات الاجتماعية مستويات ثلاثة: إيماني وعقلي ونفسي.
أما المستوى الايماني فيعيد إلى عقول هؤلاء وأولئك بعضاً من النضج الفكري الذي تهاوى وتحطم داخل عقولهم، يعيد حالة من الصفاء والوئام والحب والخير والتعاون، يحرر العلاقات من قانون الغاب وشره الكراهية.
كلمة الإيمان كلمة نافذة إلى القلوب تجعلك تؤمن بأن مادياتك مكتوبة ومقدرة لك بقدر إلهي، وما أصابك إنما هو بقدر، ورزقك مكفول بقدر، وليس لك أن تعادي وتخاصم وتكره وتحقد بناء على أسباب قدرية، فقط عليك أن تأخذ بالأسباب وعينك على الأهداف، هذا بالنسبة للماديات.
وبالنسبة للبقاء فعليك أن تؤمن بأن بقاءك هو بقدر الله؛ سواء في مكانك أو وظيفتك أو مكانتك أو وجاهتك؛ طالما أنك اجتهدت في الأخذ بالأسباب المشروعة في الحفاظ عليه، ولم تركن إلى الكسل والخمول واللامبالاة.
علينا بدلا من أن نسيء للعلاقات بيننا؛ ثم تتضرر من ذلك النفوس والأمزجة والأعصاب والأخلاق ربما لدرجة الارهاق النفسي والعصبي والعقلي، بدلا من ذلك يجب علينا اللجوء الى الله تعالى لنتحلى بالأخلاق، والآداب، والأفق الواسع، والصدور الرحبة، والقلوب الكبيرة والعقول المفكرة؛ التي تتغلب على العواصف والعواطف المتخبطة. تأمل معي كلام الحق سبحانه: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا).
وتأمل معي كلمات طيبات للرسول صلى الله عليه وسلم، تساعد على تفريغ النفس من عناء التفكير في مكان وزمان وكم وكيف ولماذا ...؟!
تأمل بعينيك، وتدبر بعقلك، واستلهم بقلبك هذا العطر الفواح في هذه الكلمات النبوية:" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن تنفعك بشيء لن تنفعك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن تضرك بشيء لن تضرك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف".
والمستوى الثاني هو المستوى العقلي، نعم! إنه العقل الذي يستطيع أن يميز بين الحسن، والقبيح، والنافع والضار، والمروءة والخسة، والواجب والتقصير، فالعقل حجة على البشر وهو ما يميزهم عن غيرهم من الكائنات الأخرى، وعندما نقول بالعقل بعد الإيمان فلأن الناس لا ينطلق جميعهم من منطلقات دينية إيمانية، ولكن في مقدور الكثير منهم أن ينطلق من منطلقات عقلية واعية، وهذه هي المرحلة الثانية الواعية والمتزنة في التعامل مع علاقاتنا الاجتماعية قبل الانتقال الى مرحلة السيطرة العاطفية من خلال العوارض النفسية، والتي عندها يبدأ العد التنازلي لعلاقاتنا في كثير من عناصرها، والعقل بمقدوره أن يقدم لنا:
التضحية: وتنشأ من تعرضك لموقفين او ظرفين في حاجة منك لإنتاج أحدهما على حساب الآخر، وغالبا لا تجد بدائل أخرى أمامك، مثلا: أنت بين استكمال دراستك العليا، والتخلي عن طموح الزواج، والأسرة لأجل غير مسمى، أو الزواج والتخلي عن طموح الدراسات العليا، فأيهما تنتج وبأيهما تضحي؟! فالتضحية قانون عام طبيعي في حياة البشر يحكم ظروفه وإمكانياته فلماذا لا نُحِّكم هذا القانون الطبيعي في علاقاتنا الاجتماعية؟!
وهل للتضحية تعريف اجتماعي ثابت عند الجميع أم أنها تخضع للنسبية في المواقف والزمان والمكان وطبيعة أطراف العلاقة؟!
في الحقيقة وجوابًا على هذا السؤال الهام فإن الناس يختلفون في فهمهم للتضحية باختلاف العوامل الحاكمة لها، فيفهمون التضحية من القوي تجاه الضعيف على أنها إحسان وإنسانية وشفقة وعطف، بينما تفهم التضحية من الضعيف على أنها جبن وخضوع وخوف.
وربما يضحي زميل عن طريق الصمت والسكوت عن سوء أخلاق زميله لأجل تصفية أجواء العمل، فيفهم الآخر ذلك على انه انهزام نفسي، وقلة حيلة، ويشعر بمزيد من الاستقواء بدلا من الخجل، والحياء من النفس، وربما أدى ذلك الى انفجار الحليم، وغضبه؛ فيتبدد الوقار والاحترام، وتعم الفوضى، والغوغائية إذا لم يستطع أحدهما احتواء الآخر، والاحتواء هو المنتج العقلي الثاني في التعامل مع العلاقات الاجتماعية.
ومن أمثلة التضحيات الصحيحة في العلاقات الاجتماعية:
أن يختار الإنسان التواصل مع صديقه عن بعد؛ بدلاً من القرب الدائم الذي قد يؤدي الى الخصام. أو يفارق جاره مع بقاء الود؛ خير من جوار يجلب العداء والأذى. أو يضحي بدراسته او وظيفته ليلازم أمه المريضة او أباه المريض...الخ.
ومن أمثلة التضحيات الخاطئة:
كمن يقتل أولاده خشية الفقر، رافضًا العمل في حرفة لا تناسب وجاهته الاجتماعية. أو كمن يختار طلاق زوجته وتفكيك أسرته؛ بدلًا من الابتعاد عنها ولو قليلًا. وكمن يقتل - حسدًا وحقدًا - بدلا من السعي في تطوير ذاته، وتطوير اهدافه.
وعندما وُضع الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمام بديلين أحلاهما مر، اختار - بأمر من ربه - الأدنى مفسدة والأعلى مصلحة؛ فاختار بين الأمرين (الرجوع أو القتال)، فاختار الرجوع. وفي الوقت الذي فُهم فيه الأمر - من بعض الصحابة - أنه دنية واستسلام؛ كان أحلى المرَّين الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم، "فتحاً مبيناً" من رب العالمين، فقال عنه المولى تعالى: (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا) الفتح.
واختار أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين اختيارات صعبة في حرب الردة: بين ترك تحصيل الزكاة وهي ركن من أركان الدين، وبين قتال أهل الردة، مع خلو المدينة من عدد كبير من الصحابة الذين أُنفذوا مع جيش أسامة بن زيد لقتال الروم؛ فاختار قتال أهل الردة، وكان اختياره صائبًا، رغم مخالفة بعض الصحابة له.
وإذا كان الله تعالى قد أمر رسوله - في صلح الحديبية - بتقديم أدني المفاسد، وتأخير أعلى المصالح فيما هو ظاهر للجميع، والله تعالى هو القادر على أن يَبلُغ برسوله صلى الله عليه وسلم البلد الحرام دون أن يمَسّه ضرر؛ فحري بالناس أن يراعوا مثل هذه التوازنات، والنظرة البعيدة الثاقبة في اختياراتهم الصعبة، مع الاستخارة والاستشارة، وكم من اختيارات صعبة كانت فتوحات مبينة لأصحابها، ولا عزاء للمتهورين، والمتعجلين، وقصيري النظر؛ في التعامل مع رحلة الطريق، ثم يسكبون نزيف الدمع حزنًا أن كانوا غافلين.
كذلك يقدم لنا العقل استراتيجية الاحتواء، ومعنى الاحتواء: أن تهتز قوة الشر أمام قوة الخير والحكمة والعقل، فتتراجع عن غيها وكراهيتها وحقدها وعماء بصيرتها، بعدما ينتابها الخوف أو التوبيخ من أعماق الضمير، أو أن تهتز قوى الخير والجمال أمام قوة الشر بعد أن يفلت زمام الامور من قوى الخير، وينتابها الخوف على البقاء أو التهديد في النفس او الرزق فتلوذ بالصمت أو الجبن.
ويشمل الاحتواء القدرة على الشدة، والقدرة على اللين بما يتطلبه الموقف ليتم احتواءه بسلام، فالبعض يمكن احتواؤه باللين، والبعض لا يمكن احتواؤه إلا بالشدة، وغالباً فالإنسان الكريم يأتي باللين، والذوق، والأسلوب الراقي، وغالبا اللئيم لا يأتي إلا بالشدة، لأنه يخاف، ولا يستحيي، وعليه فليس كل الناس قادر على التضحية، ويريد أن يحصل على حقه، فيفعل ذلك بالاحتواء والترويض.
المستوى الثالث هو المستوى النفسي، ومن المحزن أن يتخلى الانسان عن الحلول الايمانية، والحلول العقلية في تعامله مع علاقاته الاجتماعية، ويستبدل ذلك بالعوارض النفسية العاطفية فيتأخر الحكم الإيماني، والحكم العقلي، ويتصدر الحكم النفسي، وهو شعور غريزي ينزل بالإنسان لمستوى الكائنات غير العاقلة في عالم الغاب، وهو المشاهد في كثير من الوقائع الاجتماعية الحياتية حيث لا مرجعية دينية إيمانية لكثير من سلوكياتنا تجاه الآخر، ولا مرجعية منطقية لغالب التصرفات الاجتماعية، ومن ثم أصبحت المنطلقات النفسية عوائق خطيرة على الصحة الاجتماعية، وتعوق تقديم الحلول المناسبة للمشكلات، والخلافات، والنزاعات، لتحكيم الأهواء، والأمزجة.
ويدخل في ذلك الحقد الاجتماعي، والحسد، والفوقية، والغرور، والرغبة في التميز، والتفرد، على حساب الاخرين، والنفاق، والوصولية الاجتماعية، التي تبني بالهدم، وأعني الهدم لحقوق الاخرين وتسلق ذلك كله للعلو المزيف، والسريع.
والعلاقات الاجتماعية تكون في أهون حالاتها داخل المستوى النفسي أو الدائرة النفسية، وترى كبار السن من الشباب أو الرجال يأتون بأفعال انتقامية لا يأتي بها الأطفال الصغار.
 
أعلى