- انضم
- 23 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 8,687
- الجنس
- ذكر
- الكنية
- أبو أسامة
- التخصص
- فقـــه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- مكة المكرمة
- المذهب الفقهي
- الدراسة: الحنبلي، الاشتغال: الفقه المقارن
ضرورة التَّأهُّب قبل خوض تجربة تحقيق التُّراث
التَّحقيق العلمي للنُّصوص التُّراثيَّة ليس نسخاً للنُّصوص القديمة فحسب، بل هو جهدٌ علميٌّ يتطلَّب روحاً خاصَّة، وشغفاً أصيلاً بالتُّراث؛ لأنَّ المحقِّق يتعامل مع نصوص عاشت قروناً، ومرَّت عبر أيدٍ مختلفة، وأذهانٍ متباينة؛ ممَّا يستلزم فهماً عميقاً لسياقها التَّاريخي واللُّغوي والعلمي، ومن دون هذه الرَّوح المتوقِّدة، يصبح العمل قالباً جامداً، يفتقد للأصالة والدِّقَّة.
ومن نافلة القول أن يُعلم أَنَّ الشَّغف بالتُّراث ليس رفاهيَّة، بل هو شرطٌ أساسٌ للنَّجاح في التَّحقيق؛ فالقارئ العادي قد يملُّ من تعقيد النُّصوص القديمة، بينما المحقِّق الشَّغوف يجد في كلِّ كلمة باباً للبحث، ونافذةً للاكتشاف. فمن يفتقر لهذا الشَّغف قد يرى في التَّحقيق عبئاً، بينما يراه الشَّغوف مغامرةً معرفيَّةً ممتعة.
وعلى ذلك: فالمخطوطات بخطوطها المختلفة، وحواشيها الغامضة، تحتاج إلى عينٍ اعتادت النَّظر في طرائق المحقِّقين السَّابقين، وذهن تمرَّس في قراءة النُّصوص المحقَّقة، وفهم منهجيَّات العمل فيها؛ فالتَّجربة السَّابقة في قراءة مثل هذه الأعمال تمنح المحقِّق خبرةً مبدئيةً في التَّعامل مع الإشكالات، وتبني لديه حسَّاً نقديَّاً مهمَّاً.
ومن الخطأ أن يُقْبِل شخصٌ على تحقيق كتاب تراثي وهو لم يقرأ في حياته مخطوطاً، أو يجرد نسخة محقَّقة بقراءة فاحصة، أو لم يطَّلع على تعليقات المحقِّقين وحواشيهم. فهذه المرحلة أشبه بالتَّدريب الميداني قبل الالتحاق بالعمل، ومن يتجاوزها يضع نفسه أمام عقبات قد لا يحسن التَّعامل معها.
صنعة التَّحقيق ليست نقلاً حرفيَّاً، بل هي بناءٌ علميٌّ متكامل: جمع النُّسخ، وتحقيق نسبة النَّصِّ للمؤلِّف، مقابلة النُّصوص، توثيق المراجع، بيان الغريب، وغير ذلك من متطلَّبات التَّحقيق، وفي كلِّ خطوة من هذه تحتاج لمَلَكَةٍ بحثيَّة، وصبر طويل، ونظر نقدي، وهي مَلَكَات لا تُكتسب بين عشيَّةٍ وضحاها، بل تُنمَّى بالممارسة، وتثرى بالتدرُّب المتدرِّج عن حبٍّ وشغف، لا عن ملَلٍ وترف!!.
وحفاظاً على سلامة التُّراث، ينبغي أن يخضع المبتدئون في مجال التَّحقيق لمراحل تأهيليَّة، تبدأ بتكليفهم بتحقيق رسالة قصيرة، أو جزءٍ من مخطوط، تحت إشراف علميٍّ دقيق؛ لأجل أن تمنحهم هذه الخطوة خبرةً عمليَّة، وتكشف لهم حجم التَّحدِّيات قبل الانخراط في مشاريع كبرى في التَّحقيق، كإخراج مؤلَّفات كاملة، أو تحقيق موسوعات علميَّة، وهي من أدقِّ الأعمال، وأكثرها حاجةً إلى المحقِّق المتمرِّس، ودخول غير المؤهَّلين في مثل هذه المشاريع قد يضرُّ بالنَّصِّ أكثر ممَّا ينفعه.
وأُنبِّه إلى أَنَّ الإشكال لا يقتصر على ضعف الخبرة، بل يتعدَّاه إلى فقدان روح الأمانة العلميَّة؛ فالمحقِّق الذي لا يشعر بحماية النُّصوص التُّراثيَّة، ويفتقد حسَّ المسؤوليَّة تجاه أعماله تغدو تدخُّلاته كارثيَّة؛ إِذْ قد يتساهل في الحذف أو الإضافة، أو التَّصرُّفات المشينة؛ وهذا خلل كبير يمسُّ جوهر الأمانة العلميَّة التي يقوم عليها لبُّ التَّحقيق، ويطال كتب التُّراث بالتَّحريف والتَّبديل.
ومن المهمِّ أن ندرك أَنَّ التَّحقيق الجيِّد هو امتدادٌ لثقافة الباحث، وأَنَّ الثَّقافة التُّراثيَّة العميقة لا تتكوَّن إِلَّا بالقراءة المتأنِّية في كتب التُّراث، والنَّظر في مناهج العلماء. فمن كانت أرضيَّته ضعيفة في هذا المجال فمهما أتقن الجوانب الفنِّيَّة فلن يكتمل عمله، وسيظلُّ يفتقر إلى الرُّوح التي تمنح النَّصَّ حياة.
خلاصة القول: التَّحقيق ليس لكلِّ أحد، بل هو لمن جمع بين الشَّغف والمعرفة، والخبرة والأمانة. والواجب على المؤسَّسات الأكاديميَّة، والمراكز البحثيَّة أن تضع معايير واضحة للتَّأهيل، وأَلَّا تسمح بخوض هذه التَّجربة إِلَّا لمن تأكَّد لها استعداده علميَّاً وعمليَّاً، حفاظاً على التُّراث، وصيانته من العبث أو الإفساد.
وفي الأخير: فإِنَّ على طالب العلم أن يقدِّر نفسه حقَّ قدرها، فيدرك إمكانيَّاته، ويستحضر حدود قدراته، وأَلَّا يزجَّ بنفسه في مجال التَّحقيق من غير استعدادٍ ولا دُربةٍ؛ فإِنَّ في ذلك مجازفةً قد تفضي إلى تشويه نفائس التُّراث بدل خدمتها؛ لأَنَّ فالمجال ليس ميدان تجريبٍ عابر، وإِنَّما هو بناءٌ دقيقٌ يتطلَّب أدوات متكاملة، ومن لا يملكها فالأَولى به أن ينصرف إلى ما يُحسنه، حتَّى لا يسيء عن غير قصد.
وعلى هذا الأساس: فكم يعجبني كثيراً اعتذار بعض زملائي حين أقترح عليهم تحقيق رسالة تراثيَّة، فيعتذرون بأدب وتواضع: “ليس لنا في ذلك دُربة ولا طاقة”، فأُكْبِر منهم هذا الموقف النَّبيل؛ إِذْ تحاشوا الدُّخول في متاهاتٍ قد تتيه بهم في محيطاتٍ يعلوها الموج العاتي، واختاروا السَّلامة لأنفسهم وللتُّراث معاً. وهذا في نظري وعيٌ علميٌّ رصين، وصدقٌ مع النَّفس، وأمانةٌ في التَّعامل مع ميراث الأُمَّة.
 
				
 
		