تابع الدليل الخامس مع مناقشة قول المخالفين
تابع الدليل الخامس مع مناقشة قول المخالفين
و ( قولهم ) : إذا سكت المجتهد بعد انتشار القول مدة من الزمن يستطيع فيها التذكر في المسألة ، ولا يوجد مانع من إبداء قوله فإن سكوته يدل على رضاه بهذا القول المعلن فيكون هذا السكوتإجماعاً و حجة و دلالة سكوته على الموافقة أقوى من دلالته على باقي الاحتمالات ، و ( يرد عليهم ) هل تجزمون أن المجتهد عرف هذا القول المنتشر أصلا ؟ فقد يكون القول منتشرا ،ولا يعلمه المجتهد ،فهذا عمر بن الخطاب t قد خفي عليه بعض الأحاديث ،هي منتشرة كحديث الاستئذان ،وهذا أبو هريرة t قد خفي عليه غسل اليدين إلى المرفقين ،وليس إلى إبطيه ،وهذا ابن عباس قد خفي عليه حرمة نكاح المتعة ،والأمثلة كثيرة ثم هل تجزمون أنه لا أحد خالف في المسألة أصلا ،وهل معنى عدم علمكم بمن خالف ألا يوجد مخالف ؟ ثم هل شققتم قلوب المجتهدين الساكتين فوجدتم أنهم لايرون أن هذا القول خلاف سائغ لا ،وأنهم موافقون لهذا القول ؟ ثم هل استقصيتم الظروف والملابسات التي تمنع من إظهار باقي المجتهدين القول الصحيح فوجدتم عدم وجود مانع والسكوت متردد فقد يسكت منغير إضمار الرضا ؟ ( وقولهم ) : هذا خلاف الظاهر من عادة العلماء إذ من عادتهم أنهم لو سكتوافإنهم يخبرون بسبب سكوتهم غير مسلم فهل الأئمة الأربعة فضلا عن غيرهم تكلموا في جميع المسائل ؟ قد تكون هذه من المسائل التي لم يتكلموا عنها أو من المسائل التي تكلموا عنها لكن لا توجد رواية لهم ، وهناك ما يسمى بالمجتهدين في المذهب ،وهم الذين يتبعون إمام المذهب في الأصول التي اعتمد عليها في استنباط الأحكام ،وكذا في الفروع التي استباطها ،وانتهى إليها في اجتهاده ،وإنما عملهم هو استباط الأحكام للمسائل والقضايا التي لا رواية فيها عن الإمام أو المجتهدين المنتسبين إلى مذهبه[27] وعند الأحناف تجد أبي بكر الخصاف الشيباني وأبي جعفر الطحاوي والكرخي والبزدوي والسرخسي يمثلون طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب أو أحد أصحابه[28] وفي الفقه المالكي إن لم يكن لمالك قول فبقول ابن القاسم في المدونة [29] ،وهذا دليل على أن الأئمة لم تتكلم في كل المسائل أو تكلمت لكن لم تنقل رواية أقوالهم ، ( وقولهم ) عدم اجتهاد العالم في المسألة يؤدي إلى خلوالعصر من حجةٍ لله تعالى و ذلك لأننا إذا جوزنا خطأ المجتهد الذي أعلن رأيه و وعدم اجتهاد المجتهد الساكت فهنا يكون قد خلا العصر من الحجة ،وقد قال r : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله»[30]،وهذا يدل على أن قول الحق لا يخفى فقول الواحد إذا لم يكن له مخالف حجة ؛ لأن الله كتب الظهور للحق لذلك لايمكن أن يكون الحق قد خفي في عصر قول المجتهد الذي أعلن رأيه ،و( نقول لهم ) معنى الحديث مختلف فيه فالبعض قال لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن تقوم الساعة وهم العلماء[31]،وقال السرخسي : ( في قوله لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من ناوأهم فلا بد من أن تكون شريعته ظاهرة في الناس إلى قيام الساعة ،و قد انقطع الوحي بوفاته فعرفنا ضرورة أن طريق بقاء شريعته عصمة الله أمته من أن يجتمعوا على الضلالة فإن في الاجتماع على الضلالة رفع الشريعة وذلك يضاد الموعود من البقاء )[32] وقال آخرون المقصود الجهاد في سبيل الله فقد بينته الروايات الأخرى قال الشوكاني : ( قد ورد تعيين هذا الأمر الذي يتمسكون به ويظهرون على غيرهم بسببه فأخرج مسلم من حديث عقبة مرفوعا : «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك » )[33]،وغاية ما في الحديث أن النبي r أخبر عن طائفة من أمته يتمسكون بالحق ،ويظهرون على غيرهم أي هناك من تمسك بالباطل ،وهناك من تمسك بالحق فهناك رأي صحيح وهناك رأي خطأ فأين هذا من محل النزاع الذي هو حجية قول العالم إذا لم يكن له مخالف ؟ وعلى التسليم بهذا القول فمنأين نعلم أن قول العالم إذا لم يكن له مخالف قول حق ، ومخالفة هذا القول خطأ ؟ ومن الذي خذل الفقيه المجتهد حتى لا يضره من خذله ؟ والحديث يدلّ على وجود القائم بالحقّ بين الاَُمّة في كلّ الاَزمنةوالاَعصار لا الناطق بالحقّ ، وشتان ما بين القائم بالحقّ والناطق بالحقّ ، والقائمبالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً، ولكن ربما يكون ساكتا لأنه رأى القول الآخر قولا سائغا ،وإن لم يكن موافقا عليه بل يعتقده خطأ أو يسكت وهو منكر ،وينتظر فرصة الإنكار ،ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال هذا العارض أو يشتغل عنه أو لأنه يعتقد أن كل مجتهد مصيب ،وأسباب السكوت كثيرة ، أو أنه أصلا لم يعرف قول المجتهد الذي أعلن رأيه فلا يكون سكوت باقي المجتهدين دليلاً على إصابة قول المجتهد الناطق برأيه إلا إذا ظهر علامة الرضا من الآخرين والإقرار ،ومعلوم أن الأمة لا تجتمع على باطل ،فهل الأمة أجمعت أم قال شخص ،والباقي لا يعلم مخالفتهم ،وقد يكونو ،والإجماع السكوتي إجماع اعتباري غير حقيقي ؛ لأن الساكت لا جزم بأنه موافق فلا جزم بتحقق الاتفاق وانعقاد الإجماع ، ولهذا اختلف في حجيته فذهب الجمهور إلى أنه ليس حجة ، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض أفراد المجتهدين[34] ،والراجح ما راه الجمهور من أن السكوت لا يعتبر وفاقا ،ولا خلافا ،ولاينسب لساكت قول[35] ، قال الدمياطي : ( واختار البيضاوي : أنه ليس بإجماع ،ولا حجة ، واختاره القاضي ،ونقله عن الشافعي ،ونقل أنه آخر أقواله ،وأما استدلال الشافعي رضي الله عنه في مسائل بالإجماع السكوتي فأجيب عنه : بأن تلك المسائل ظهرت من الساكتين فيها قرينة الرضا فليست محل النزاع )[36] .
[27]- أصول الفقه القسم الثاني الحكم الشرعي د. محمود بلال مهران 528 دار الثقافة العربية بجامعة القاهرة 1425هـ 2004م
[28]- انظر الفتح المبين في تعريف مصطلحات الفقهاء والأصوليين للدكتور محمد حفناوي ص 16 ( دار السلام الطبعة الثانية 1428هـ - 2007م )
[29]- الفتح المبين للدكتور الحفناوي ص 90
[30]- رواه البخاري في صحيحه رقم 6/2667 رقم 6881 ،ورواه مسلم في صحيحه 3/1523 رقم 1920
[31]- أدب المفتي والمستفتي للشهروزي 1/ 184( الناشر : مكتبة العلوم والحكم , عالم الكتب – بيروت الطبعة الأولى ، 1407 هـ تحقيق : د. موفق عبد الله عبد القادر )
[32]- أصول السرخسي 1/300 دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م تحقيق أبي الوفاء الأفغاني
[33]- إرشاد الفحول للشوكاني 1/110
[34] - علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 57 ( دار الحديث 1423هـ 2003م )
[35] - أصول الفقه الشيخ محمد الخضري ص 271 دار الحديث الطبعة الأولى 1422هـ 2001م
[36] - حاشية الدمياطي على شرح المحلي على الورقات ص 106 ( دار الفضيلة تحقيق : أحمد مصطفى قاسم )