أبوبكر بن سالم باجنيد
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 13 يوليو 2009
- المشاركات
- 2,540
- التخصص
- علوم
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فقد استنكر بعض الإخوة الفضلاء المنتسبين للمذهب الحنبلي قولي بأن الجوارب الرقيقة المعروفة الآن لا يجوز المسح عليها، وأنكر نسبتي اشتراط إمكان متابعة المشي -في الخف والجورب اللذين يشرع المسح عليهما- إلى مذهب الحنابلة، ولما ذكرت له بعض نصوصهم ادعى أن قلةً من كتب المذهب نصت عليه.. وسأعرض للمسألة برُمَّتِها اختصاراً إن شاء الله؛ إذ هي محل البحث..
1- مشروعية المسح على الجورب:
أما المسح على الجورب فجائز عند الحنابلة بشرطه..
فإن كانا منعَّلين بجلد أو خشب ونحوهما فجوزه كذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهو نص الإمام الشافعي -رحمه الله- في الأم (1/49).
وأشهر أدلة مشروعية المسح على الجوربين عندهم:
أولاً: ما رواه أحمد وأصحاب السنن عن المغيرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.
وهو شاذ معلول بتفرد أبي قيس وهو صدوق، حتى إن الإمام أحمد قد أعله.
واستدل بعضهم بما رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين.
قالوا: والتساخين كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما
وهذا الحديث أعله الإمام أحمد بالانقطاع، ونازع في هذا آخرون.. وعلى فرض صحته؛ فالتساخين قد يراد بها الخفاف، كما قال به كثير من أهل العلم.
فالخلاصة: أنه لا دليل من السنة المرفوعة يسلم في مشروعية المسح على الجوربين.
ثانياً: ثبت بأسانيد جياد -منها ما هو صحيح ومنها الحسن- عن عدد كبير من الصحابة جواز المسح على الجوارب، (ولتنظر هذه الآثار عند البيهقي، وفي مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة).
قال الإمام أحمد رحمه الله: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من الصحابة.
وقد جاء المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة كما قال ابن المنذر رحمه الله، وأوصلهم أبوداود رحمه الله إلى ثلاثة عشر. انظر "تهذيب السنن (1/187)" لابن القيم.
والحق: جواز المسح على الجوربين ولو لم يكونا منعَّلين، كما هو مذهب الإمام أحمد.
قال ابن القيم رحمه الله: و قد نص الإمام أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلّل رواية أبي قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة و صريح القياس، فإنه لايظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه.
2- محل النزاع:
هل الجورب الرقيق الذي يعرفه الناس الآن والمسمى "الشراب" داخلٌ في هذا فيكون المسح عليه جائزاً؟!
ويجب أن يكون أصل المسألة: هل يصح قياسه على الخفين أم لا؟ وهل يصح قياسه على الجورب الذي جاء أن الصحابة مسحوا عليه أم لا؟
والجواب عن هذا السؤال عندي: أنه لا يجوز المسح عليه فيما يظهر؛ ولا يصح قياسه على الخف والجورب اللذين مسح عليهما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعدم إمكان متابعة المشي فيها عرفاً، وقد وقت الشرع في المسح يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وما لا يمكن المشي فيه هذه المدة لا يكون محلاً للرخصة، فالفارق المؤثر بين الفرع والأصل موجود، فتكون إباحة المسح على الشراب مبنية على قياس مع الفارق.
3- بعض نصوص أهل العلم في ذلك:
أ. من كلام الحنابلة:
قال الإمام أحمد : ( إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف , يقوم مقام الخف في رِجل الرَّجُل , يذهب فيه الرجل و يجيء ).
قال صاحب الإقناع: (ويشترط أيضاً إمكان المشي فيه عرفاً ولو لم يكن معتاداً).
قال في الإنصاف: ( لكن من شرط الخرق أن لا يمنع متابعة المشي ).
وقال: (تنبيه: ذكر المصنف هنا لجواز المسح شرطين ستر محل الفرض وثبوته بنفسه، وثَمَّ شروط أخر :
منها: تقدم الطهارة كاملة على الصحيح من المذهب، كما تقدم في كلام المصنف .
ومنها: إباحته، فلو كان مغصوبا أو حريراً أو نحوه لم يجز المسح عليه على الصحيح من المذهب .
ومنها: إمكان المشي فيه مطلقاً على الصحيح من المذهب. اختاره القاضي وأبو الخطاب والمجد وجزم به الزركشي وغيره وقدمه في الفروع وابن عبيدان ومجمع البحرين؛ فدخل في ذلك الجلود واللبود والخشب والزجاج ونحوها، قاله في مجمع البحرين وغيره من الأصحاب، وقيل: يشترط مع إمكان المشي فيه كونه معتاداً واختاره الشيرازي، وقيل: يشترط مع ذلك كله كونه يمنع نفوذ الماء وأطلقهما المعتاد في الرعايتين والحاويين والهداية والزركشي.
تنبيه: قولي "إمكان المشي فيه" قال في الرعاية الكبرى: يمكن المشي فيه قدر ما يتردد إليه المسافر في حاجته في وجه، وقيل: ثلاثة أيام أو أقل ).
قال الزركشي على الخِرَقي: ( لو كان يتخرق بالمشي فيه في اليومين والثلاثة لم يجز المسح عليه ).
قال ابن قدامة في المغني: (مسألة: قال وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف: (أحدهما) أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم (والثاني) أن يمكن متابعة المشي فيه هذا ظاهر كلام الخرقي. قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس، وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب، وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء ولا يعتبر أن يكونا مجلدين. قال أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن المنذر: ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل بن سعد، وبه قال عطاء والحسن وسعيد بن المسيب والنخعي وسعيد بن جبير والأعمش والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق ويعقوب ومحمد، وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي ومجاهد وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم والشافعي: لا يجوز المسح عليهما إلا أن ينعلا؛ لأنهما لا يمكن متابعة المشي فيهما فلم يجز المسح عليهما كالرقيقين.
ولنا ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين فإنه لا يقال مسحت على الخف ونعله، ولأن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً، ولأنه ساتر لمحل الفرض يثبت في القدم فجاز المسح عليه كالنعل وقولهم لا يمكن متابعة المشي فيه قلنا لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه ويمكن متابعة المشي فيه وأما الرقيق فليس بساتر ).
ب. من كلام غير الحنابلة:
وقال الجصاص الحنفي في "أحكام القرآن": ( ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة ; إذ ليس في العادة المشي فيها ، كذلك الجوربان . وأما إذا كانا مجلَّدين فهما بمنزلة الخفين ويمشي فيهما وبمنزلة الجرموقين ، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلداً جاز المسح ؟ ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلداً أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف ).
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع": ( فكل ما كان في معنى الخف في إدمان المشي عليه ، وإمكان قطع السفر به ، يلحق به ، وما لا فلا )، وقال: ( وأما المسح على الجوربين؛ فإن كانا مجلَّدَين أو منعَّلَين: يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا. وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين؛ فإن كانا رقِيقَين يشفان الماء: لا يجوز المسح عليهما بالإجماع ).
وقال السرخسي في "المبسوط": ( وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ اللُّبُودِ التُّرْكِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوَاظَبَةَ الْمَشْيِ فِيهَا سَفَرًا مُمْكِنٌ ).
قال الشافعي في "الأم": ( فإذا كان الخفّان من لُبُود أو ثياب أو طُفي فلا يكونان في معنى الخف حتى ينعّلا جلداً أو خشباً أو ما يبقى إذا توبع المشي عليه . ويكون كل ما على مواضع الوضوء منها صفيقاً كثيفاً لا يشفّ فإذا كان هكذا مسحَ عليه ، وإذا لم يكن هكذا لم يمسح عليه وذلك أن يكون صفيقاً لا يشف وغير منعّل فهذا جورب . .. فإذا كان عليه جوربان يقومان مقام الخفين يَمْسَحُ عليهما ) فهذا مشعر بما ذكرنا كما ترى.
وقال البغوي في "التهذيب": ( ولا يجوز المسح على جورب الصوف، واللبد، إلا أن يركب طاقةً فوق طاقةٍ؛ حتى يتصفق وينعل قدمه؛ بحيث يمكن متابعة المشي عليه ).
قال النووي في "المجموع" شرح المهذب: (.. هذه المسألة مشهورة وفيها كلام مضطربٌ للأصحاب، ونصَّ الشافعي رضي الله عنه عليها في الأم كما قاله المصنف، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعّلاً، وهكذا قطع به جماعة منهم الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم ، ونقل المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين ، وقال القاضي أبو الطيب : لا يجوز المسح على الجورب إلا أن يكون ساتراً لمحل الفرض ، ويمكن متابعة المشي عليه . قال: وما نقله المزني من قوله "إلا أن يكونا مجلدي القدمين" ليس بشرطٍ وإنما ذكره الشافعي رضي الله عنه لأن الغالب أن الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه إلا إذا كان مجلد القدمين ، هذا كلام القاضي أبي الطيب وذكر جماعات من المحققين مثله ، ونقل صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما وجهاً أنه لا يجوز المسح وإن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه حتى يكون مجلد القدمين.
والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان و إلا فلا ، وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين فقال : قال أصحابنا : إن أمكن متابعة المشي على الجوربين جاز المسح وإلا فلا ، والجورب بفتح الجيم . والله أعلم .
( فرعٌ ) في مذاهب العلماء في الجورب: قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا ..... واحتج من منعه مطلقاً بأنه لا يسمى خفاً فلم يجز المسح عليه كالنعل .
واحتج أصحابنا بأنه ملبوس يمكن متابعة المشي عليه ساتر لمحل الفرض فأشبه الخف ، ولا بأس بكونه من جلد أو غيره بخلاف النعل فإنه لا يستر محل الفرض ، واحتج من أباحه وإن كان رقيقاً بحديث المغيرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم مسح على جوربيه ونعليه ) وعن أبي موسى مثله مرفوعاً . واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة .
والجواب عن حديث المغيرة من أوجه :
( أحدها ) أنه ضعيف ضعفه الحفّاظ ، وقد ضعفه البيهقي ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين ومسلم بن الحجاج وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث ، وإن كان الترمذي قال : حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة .
( الثاني ) لو صحَّ لحُمِلَ على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعاً بين الأدلَّة وليس في اللفظ عموم يتعلق به .
( الثالث ) حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة ، فكأنه قال : مسح جوربيه المنعلين ، وروى البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما يدل على ذلك*. والجواب عن حديث أبي موسى من الأوجه الثلاثة فإن في بعض رواته ضعفاً ، وفيه أيضاً إرسال ، قال أبو داود في سننه : هذا الحديث ليس بالمتصل ولا بالقوي. والله أعلم ).
وقال العمراني الشافعي: (قال أصحابنا: والجوارب على ضربين :
فالأول منه: ما يمكن متابعة المشي عليه بأن يكون ساتراً لمحل الفرض صفيقاً ويكون له نعل فيجوز المسح عليه .
قال ابن الصباغ : أما تجليد القدمين فليس بشرط إلا أن يكون الجورب رقيقا فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته ، وإنما ذكر الشافعي رضي الله عنه التجليد لأن الغالب من الجوارب الرقة.
والثاني: إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه مثل أن لا يكون منعل الأسفل أو كان منعلا لكنه من خرق رقيقة بحيث إذا مشى فيه تخرق لم يجز المسح عليه .
هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: يجوز المسح على الجورب الصفيق وإن لم يكن له نعل .
وروي ذلك عن عمر وعلي وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد وداود .
دليلنا: أنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز المسح عليه كالرقيق ).
وبهذا يتبين أن تجويز المسح على جوارب اليوم المسماة: (الشراب) مخالف للمشهور عند المذاهب الأربعة، والله تعالى أعلم.
أما بعد:
فقد استنكر بعض الإخوة الفضلاء المنتسبين للمذهب الحنبلي قولي بأن الجوارب الرقيقة المعروفة الآن لا يجوز المسح عليها، وأنكر نسبتي اشتراط إمكان متابعة المشي -في الخف والجورب اللذين يشرع المسح عليهما- إلى مذهب الحنابلة، ولما ذكرت له بعض نصوصهم ادعى أن قلةً من كتب المذهب نصت عليه.. وسأعرض للمسألة برُمَّتِها اختصاراً إن شاء الله؛ إذ هي محل البحث..
1- مشروعية المسح على الجورب:
أما المسح على الجورب فجائز عند الحنابلة بشرطه..
فإن كانا منعَّلين بجلد أو خشب ونحوهما فجوزه كذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهو نص الإمام الشافعي -رحمه الله- في الأم (1/49).
وأشهر أدلة مشروعية المسح على الجوربين عندهم:
أولاً: ما رواه أحمد وأصحاب السنن عن المغيرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.
وهو شاذ معلول بتفرد أبي قيس وهو صدوق، حتى إن الإمام أحمد قد أعله.
واستدل بعضهم بما رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين.
قالوا: والتساخين كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما
وهذا الحديث أعله الإمام أحمد بالانقطاع، ونازع في هذا آخرون.. وعلى فرض صحته؛ فالتساخين قد يراد بها الخفاف، كما قال به كثير من أهل العلم.
فالخلاصة: أنه لا دليل من السنة المرفوعة يسلم في مشروعية المسح على الجوربين.
ثانياً: ثبت بأسانيد جياد -منها ما هو صحيح ومنها الحسن- عن عدد كبير من الصحابة جواز المسح على الجوارب، (ولتنظر هذه الآثار عند البيهقي، وفي مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة).
قال الإمام أحمد رحمه الله: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من الصحابة.
وقد جاء المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة كما قال ابن المنذر رحمه الله، وأوصلهم أبوداود رحمه الله إلى ثلاثة عشر. انظر "تهذيب السنن (1/187)" لابن القيم.
والحق: جواز المسح على الجوربين ولو لم يكونا منعَّلين، كما هو مذهب الإمام أحمد.
قال ابن القيم رحمه الله: و قد نص الإمام أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلّل رواية أبي قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة و صريح القياس، فإنه لايظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه.
2- محل النزاع:
هل الجورب الرقيق الذي يعرفه الناس الآن والمسمى "الشراب" داخلٌ في هذا فيكون المسح عليه جائزاً؟!
ويجب أن يكون أصل المسألة: هل يصح قياسه على الخفين أم لا؟ وهل يصح قياسه على الجورب الذي جاء أن الصحابة مسحوا عليه أم لا؟
والجواب عن هذا السؤال عندي: أنه لا يجوز المسح عليه فيما يظهر؛ ولا يصح قياسه على الخف والجورب اللذين مسح عليهما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعدم إمكان متابعة المشي فيها عرفاً، وقد وقت الشرع في المسح يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وما لا يمكن المشي فيه هذه المدة لا يكون محلاً للرخصة، فالفارق المؤثر بين الفرع والأصل موجود، فتكون إباحة المسح على الشراب مبنية على قياس مع الفارق.
3- بعض نصوص أهل العلم في ذلك:
أ. من كلام الحنابلة:
قال الإمام أحمد : ( إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف , يقوم مقام الخف في رِجل الرَّجُل , يذهب فيه الرجل و يجيء ).
قال صاحب الإقناع: (ويشترط أيضاً إمكان المشي فيه عرفاً ولو لم يكن معتاداً).
قال في الإنصاف: ( لكن من شرط الخرق أن لا يمنع متابعة المشي ).
وقال: (تنبيه: ذكر المصنف هنا لجواز المسح شرطين ستر محل الفرض وثبوته بنفسه، وثَمَّ شروط أخر :
منها: تقدم الطهارة كاملة على الصحيح من المذهب، كما تقدم في كلام المصنف .
ومنها: إباحته، فلو كان مغصوبا أو حريراً أو نحوه لم يجز المسح عليه على الصحيح من المذهب .
ومنها: إمكان المشي فيه مطلقاً على الصحيح من المذهب. اختاره القاضي وأبو الخطاب والمجد وجزم به الزركشي وغيره وقدمه في الفروع وابن عبيدان ومجمع البحرين؛ فدخل في ذلك الجلود واللبود والخشب والزجاج ونحوها، قاله في مجمع البحرين وغيره من الأصحاب، وقيل: يشترط مع إمكان المشي فيه كونه معتاداً واختاره الشيرازي، وقيل: يشترط مع ذلك كله كونه يمنع نفوذ الماء وأطلقهما المعتاد في الرعايتين والحاويين والهداية والزركشي.
تنبيه: قولي "إمكان المشي فيه" قال في الرعاية الكبرى: يمكن المشي فيه قدر ما يتردد إليه المسافر في حاجته في وجه، وقيل: ثلاثة أيام أو أقل ).
قال الزركشي على الخِرَقي: ( لو كان يتخرق بالمشي فيه في اليومين والثلاثة لم يجز المسح عليه ).
قال ابن قدامة في المغني: (مسألة: قال وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف: (أحدهما) أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم (والثاني) أن يمكن متابعة المشي فيه هذا ظاهر كلام الخرقي. قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس، وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب، وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء ولا يعتبر أن يكونا مجلدين. قال أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن المنذر: ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل بن سعد، وبه قال عطاء والحسن وسعيد بن المسيب والنخعي وسعيد بن جبير والأعمش والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق ويعقوب ومحمد، وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي ومجاهد وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم والشافعي: لا يجوز المسح عليهما إلا أن ينعلا؛ لأنهما لا يمكن متابعة المشي فيهما فلم يجز المسح عليهما كالرقيقين.
ولنا ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين فإنه لا يقال مسحت على الخف ونعله، ولأن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً، ولأنه ساتر لمحل الفرض يثبت في القدم فجاز المسح عليه كالنعل وقولهم لا يمكن متابعة المشي فيه قلنا لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه ويمكن متابعة المشي فيه وأما الرقيق فليس بساتر ).
ب. من كلام غير الحنابلة:
وقال الجصاص الحنفي في "أحكام القرآن": ( ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة ; إذ ليس في العادة المشي فيها ، كذلك الجوربان . وأما إذا كانا مجلَّدين فهما بمنزلة الخفين ويمشي فيهما وبمنزلة الجرموقين ، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلداً جاز المسح ؟ ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلداً أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف ).
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع": ( فكل ما كان في معنى الخف في إدمان المشي عليه ، وإمكان قطع السفر به ، يلحق به ، وما لا فلا )، وقال: ( وأما المسح على الجوربين؛ فإن كانا مجلَّدَين أو منعَّلَين: يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا. وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين؛ فإن كانا رقِيقَين يشفان الماء: لا يجوز المسح عليهما بالإجماع ).
وقال السرخسي في "المبسوط": ( وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخِفَافِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ اللُّبُودِ التُّرْكِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوَاظَبَةَ الْمَشْيِ فِيهَا سَفَرًا مُمْكِنٌ ).
قال الشافعي في "الأم": ( فإذا كان الخفّان من لُبُود أو ثياب أو طُفي فلا يكونان في معنى الخف حتى ينعّلا جلداً أو خشباً أو ما يبقى إذا توبع المشي عليه . ويكون كل ما على مواضع الوضوء منها صفيقاً كثيفاً لا يشفّ فإذا كان هكذا مسحَ عليه ، وإذا لم يكن هكذا لم يمسح عليه وذلك أن يكون صفيقاً لا يشف وغير منعّل فهذا جورب . .. فإذا كان عليه جوربان يقومان مقام الخفين يَمْسَحُ عليهما ) فهذا مشعر بما ذكرنا كما ترى.
وقال البغوي في "التهذيب": ( ولا يجوز المسح على جورب الصوف، واللبد، إلا أن يركب طاقةً فوق طاقةٍ؛ حتى يتصفق وينعل قدمه؛ بحيث يمكن متابعة المشي عليه ).
قال النووي في "المجموع" شرح المهذب: (.. هذه المسألة مشهورة وفيها كلام مضطربٌ للأصحاب، ونصَّ الشافعي رضي الله عنه عليها في الأم كما قاله المصنف، وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقاً منعّلاً، وهكذا قطع به جماعة منهم الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم ، ونقل المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين ، وقال القاضي أبو الطيب : لا يجوز المسح على الجورب إلا أن يكون ساتراً لمحل الفرض ، ويمكن متابعة المشي عليه . قال: وما نقله المزني من قوله "إلا أن يكونا مجلدي القدمين" ليس بشرطٍ وإنما ذكره الشافعي رضي الله عنه لأن الغالب أن الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه إلا إذا كان مجلد القدمين ، هذا كلام القاضي أبي الطيب وذكر جماعات من المحققين مثله ، ونقل صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما وجهاً أنه لا يجوز المسح وإن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه حتى يكون مجلد القدمين.
والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان و إلا فلا ، وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين فقال : قال أصحابنا : إن أمكن متابعة المشي على الجوربين جاز المسح وإلا فلا ، والجورب بفتح الجيم . والله أعلم .
( فرعٌ ) في مذاهب العلماء في الجورب: قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقاً يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا ..... واحتج من منعه مطلقاً بأنه لا يسمى خفاً فلم يجز المسح عليه كالنعل .
واحتج أصحابنا بأنه ملبوس يمكن متابعة المشي عليه ساتر لمحل الفرض فأشبه الخف ، ولا بأس بكونه من جلد أو غيره بخلاف النعل فإنه لا يستر محل الفرض ، واحتج من أباحه وإن كان رقيقاً بحديث المغيرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلّم مسح على جوربيه ونعليه ) وعن أبي موسى مثله مرفوعاً . واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة .
والجواب عن حديث المغيرة من أوجه :
( أحدها ) أنه ضعيف ضعفه الحفّاظ ، وقد ضعفه البيهقي ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين ومسلم بن الحجاج وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث ، وإن كان الترمذي قال : حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه بل كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة .
( الثاني ) لو صحَّ لحُمِلَ على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعاً بين الأدلَّة وليس في اللفظ عموم يتعلق به .
( الثالث ) حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين، لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة ، فكأنه قال : مسح جوربيه المنعلين ، وروى البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما يدل على ذلك*. والجواب عن حديث أبي موسى من الأوجه الثلاثة فإن في بعض رواته ضعفاً ، وفيه أيضاً إرسال ، قال أبو داود في سننه : هذا الحديث ليس بالمتصل ولا بالقوي. والله أعلم ).
وقال العمراني الشافعي: (قال أصحابنا: والجوارب على ضربين :
فالأول منه: ما يمكن متابعة المشي عليه بأن يكون ساتراً لمحل الفرض صفيقاً ويكون له نعل فيجوز المسح عليه .
قال ابن الصباغ : أما تجليد القدمين فليس بشرط إلا أن يكون الجورب رقيقا فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته ، وإنما ذكر الشافعي رضي الله عنه التجليد لأن الغالب من الجوارب الرقة.
والثاني: إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه مثل أن لا يكون منعل الأسفل أو كان منعلا لكنه من خرق رقيقة بحيث إذا مشى فيه تخرق لم يجز المسح عليه .
هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: يجوز المسح على الجورب الصفيق وإن لم يكن له نعل .
وروي ذلك عن عمر وعلي وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد وداود .
دليلنا: أنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز المسح عليه كالرقيق ).
وبهذا يتبين أن تجويز المسح على جوارب اليوم المسماة: (الشراب) مخالف للمشهور عند المذاهب الأربعة، والله تعالى أعلم.
التعديل الأخير: