أمين بن منصور الدعيس
:: متخصص ::
- إنضم
- 24 ديسمبر 2007
- المشاركات
- 339
- الجنس
- أنثى
- التخصص
- فقه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- الدمام
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
الخلاف بين التيسير والتمييع
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن الناظر في الساحة الإسلامية في العقد الأخير يرى توجها بدأ يضرب بأطنابه في كثير من مفاصل العمل الإسلامي، سواء في ذلك دوائر الفتوى، أو مجالات الدعوة إلى الله واتجاهاتها، يتركز هذا التوجه في محاولة جعل الاختلاف في المسائل الفقهية مناطا يصار إليه في الترجيح في كثير من الأحيان، تحت دعوى التيسير ومجاراة الواقع، وفتح آفاق جديدة للعمل الإسلامي، وهذا التوجه وإن كان كثر الطرق عليه في السنوات المتأخرة، إلا أنه ليس وليد الساعة،وإنما هو نتاج نكد لبعض المتفقهة يقوى تارة ويضعف تارة على امتداد التاريخ الإسلامي، ولا أدل على ذلك من توصيف الشاطبي له في زمانه بقوله:( وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف فى المسائل معدودا فى حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فى جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر، بل فى غير ذلك، فربما وقع الإفتاء فى المسألة بالمنع فيقال: لِم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة فى الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا، وما ليس بحجة حجة)).
ونحن وإن كنا لا ننكر أن هذا الدين في أصله قائم على أساس رفع الحرج عن أمة الإسلام: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾، وعلى أساس القصد إلى تحقيق مقام اليسر والتبشير والبعد عن التشديد والتنفير: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا).
إلا أن فتح الباب على مصراعيه لمثل هذه الدعاوى دون لجمها بضوابط الشريعة ومقاصدها تأخر في الإدراك، وبعد عن روح الشريعة ومقاصدها، نعم، لا غرو أن الخلاف الذي حصل في الأمة في فروع الشريعة مما تحتمل النصوص الشرعية مثله كان سببا في فتح باب من السعة على الأمة، قال عمر بن عبد العزيز: «ما أحب أن أصحاب رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً، كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة».
وصنف رجل كتاباً في الاختلاف فقال الإمام أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة.
وهذا القدر من السعة هو الموافق لمقام التيسير الشرعي، إلا أنه ليس كلأ مباحا لكل أحد بل هو قول عن صاحب الشريعة يحتاج إلى فقه تام، ونية وقصد حسنين، ومعرفة بمقاصد الشريعة، ومآلات الأحكام، مع بعد عن هوى النفس ورغباتها، قال سفيان الثوري: ليس العلم بالتشديد وإنما العلم الرخصة تأتيك بالفقيه.
ويالله من أناس تسربلوا بلباس الفقه، واتزروا بإزارا الفتوى دون علم راسخ، ودون ورع صادق، فتكلفوا ما جهلوا، وآذوا عباد الله وما نصحوا،
قال الشافعي: «ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة، والله أعلم، وكان خطؤه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه».
وأصبح الحال كما قال ابن رشد ((الورع قل بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى))
وإن مما ينقضي منه العجب أن كثيرا ممن تقدم وسمهم لا ترى له همة إلا في الفتوى بكل شاذ من القول، مما هو داخل تحت زلات أهل العلم التي أجمع أهل العلم على إنكارها، قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
ترى الواحد منهم يرفع عقيرته في كل مجمع وناد، وفي كل قناة وإذاعة تهوينا للشريعة، وبعدا عن الأخذ بالعزيمة، وشغفا بالمتشابهات، وإنقاصا من قدر السنن المؤكدات، ، صفاقة وجه ظاهرة، « يعمل وجهه في المبرد، ولا يعمل المبرد في وجهه»، ونسي أو تناسى ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة﴾
قال ابن رجب: ((وأنكر أحمد أن يسمي شيء من أفعال الصلاة واقوالها سنة ، وجعل تقسيم الصلاة إلى سنة وفرض بدعة ، وقال : كل ما في الصلاة واجب ، وإن كانت الصلاة لا تعاد بترك بعضها .
وكذلك أنكر مالك تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة ، وقال : هو كلام الزنادقة . وقد ذكرنا كلامه في موضع آخر .
وكذلك ذكر الأبري في (( مناقب الشافعي )) بإسناده عن الواسطي ، قال : سمعت الشافعي يقول : كل أمور الصلاة عندنا فرض .
وقال –أيضاً - : قرأت عن الحسين بن علي ، قال : سُئل الشافعي عن فريضة الحج ؟ قال : الحج من أوله إلى آخره فرض ، فمنه ما إن تركه بطل حجة ، فمنه الإحرام ، ومنه الوقوف بعرفات ، ومنه الافاضة .
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : كل شيء في الصلاة مما ذكره الله فهو فرض . وهذا قيد حسن».
إن من مقاصد الدين العظام أنه جاء لإخراج المكلف من داعية هواه إلى داعية الشريعة ليكون ملجما بلجامها، دائرا في فلكها وتحت قبتها،
قال الشاطبي: « لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا، ولا أحدهما من غير اجتهاد، ولا ترجيح، وقول من قال: إذا تعارضا عليه تخير. غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفا.
والثاني: ما تقدم من الأصل الشرعي وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز، فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة، أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته، وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا، وقولا، وعملا، فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع، ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير».
عندما يحاول فئام من الجهلة أو أصحاب الهوى أو من قل إدراكه تمييع الدين تحت ضغظ رغبات الجماهير، أو نزغات النفس الناقصة فعندئذ حق على كل غيور أن يشهر قلمه مقيما الحجة ومبينا المحجة لكل مسلم، وإلا فليكسر القلم ولتطوى الصحف، وربنا المستعان على ما يصفون.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: