قلتم بارك الله فيكم :
يمكن حمل هذا على الإجماع القطعي كما صوره أيضا معظم الأصوليين، وهو ما كان مستندا إلى ما علم من الدين ضرورة أو ما استند إلى نص متواتر أو مشهور ظاهر الدلالة في المسألة محل الإجماع. أما حمل ذلك على الإجماع الظني والسكوتي وغير ذلك فدونه عقبات وعليه اعتراضات أوضحتها في مشاركاتي السابقة.
قلتُ :
هل الإجماع القطعي اكتسب قطعيته من هذه الأدلة أو الأدلة دلت عليه ؟ وعليه ينبني الجواب على قولكم بالتخصيص .
قلتم :
كثرة الاعتراضات، وتشكك الكثيرين في الدليل، دليل على ضعفه أو على الأقل ظنيته، وقد سلم بهذا إمام الحرمين والرازي والآمدي وغيرهم. وعلى ما ذهبنا إليه من إسناد إجماع الضرورة إلى هذه الأدلة نكون قد أعملنا السمع والعقل معا في تثبيت الإجماع ولكن كل منهما في الدلالة على نوع مختلف من أنواعه.
قلتُ :
كثرة الاعتراضات لا تؤثر إلا إن كانت قوية والدليل أن كثيرا من الأصوليين أوردوها واجابوا عنها وحكموا عليها بالفساد والضعف ومنهم الجويني نفسه .
ثم افهم من كلامكم أنكم تجعلون الإجماع نوعين :
1 - إجماعاً قطعياً دلت عليه النصوص .
2 - وإجماعاً ظنياً دلت عليه العادة وهذا غريب لم يسبق إليه أحد فيما أعلم
قلتم :
هذا التفسير يستلزم تأويل لفظ "المؤمنين" و"الأمة" و"الجماعة" الواردة في أدلة الحجية، وهو تخصيص قوي يقصر العام على أقل أفراده ولا دليل عليه إلا الرأي. وإذا كان ثمة تفسير للنص لا يتعارض مع ظاهره، كما قلناه في حمل ذلك على إجماع الضرورة، فهو أولى والله أعلم.
قلتُ :
هذا من باب العام المخصوص الذي دل على كونه مخصوصا النص والإجماع والعقل كما سبق وكون المراد هو الأقل جائز وواقع في نصوص الشريعة لا يخفى فضيلتكم .
قلتم :
القطعي فقط هو ما استند إلى قاطع أو على الأقل مشهور يفيد علم الطمأنينة كما ذكر الحنفية، أما غير ذلك فلا تتوفر له أدلة القطع من القطع بنفي المخالف، وتواتر النقل عن المجمعين، وهما شرطا الإجماع القطعي الذي ذكره الأصوليون. وعند تطبيق هذين الشرطين على الواقع، لا يتخلَّص لدينا إجماع قطعي إلا ما استند إلى قطعي كالمعلوم من الدين ضرورة.
قلتُ :
هذا كلام صحيح في الجملة على الأعم الأغلب وإلا فثمة إجماعات قطعية ليست مما علم من الدين بالضرورة والخلاف يتعلق بالحكم على مستند الإجماع هل هو قطعي أو ظني كما في خبر الآحاد مثلاً أو بعض أنواع القياس .
قلتم :
الإجماع القطعي يرفع الخلاف أما الظني فهو حجة إضافية تضاف إلى النص عند تعارضه مع غيره، فيتقوى الظن بهما ويرجح مدلولهما. ولا نقصد بقولنا الحجة في النص لا الإجماع أن يكون الإجماع مهملا بل هو كما ذكرت نور على نور، فاللازم المذكور على هذا غير لازم ولا مقصود.
قلتُ :
إذاً ما فائدة الإجماع الظني إن لم يرفع الخلاف فالإجماع والخلاف نقيضان إن وجد أحدهما ارتفع الآخر فإما أن تسميه إجماعا فترفع به الخلاف أو أنه ليس إجماعا حقيقة فيكون كالمعدوم .
قلتم :
الإجماع المنقول عن الصحابة في مسألة من المسائل هو غالبا يكون بغير ذكر المستند ونقله عن المجمعين، وإنما يخمِّنه الأصوليون والفقهاء بعد ذلك، كقولهم أنهم أجمعوا على قياس شحم الخنزير على لحمه، فالمحرم لشحم الخنزير من الصحابة لم يقل أو يظهر مع قوله بالتحريم أنه قاسه على اللحم، ولربما تكون له حجة أخرى كنص أو فعل نبوي أو إقرار لم يبلغنا. وهذا يمكن تقديره في كل مسألة ادعي أن مستند الإجماع فيها هو الاجتهاد والقياس، مع أن القياس الجلي هو نوع من دلالة النص اللغوية كما لا يخفى، فيُستثنى من الاجتهاد. ومع هذا فإذا أجمعوا على مسألة اجتهادية وأجمعوا كذلك على الاستدلال لها بقياس ما (وهذا لا أظنه يتوفر لنا في أي مسألة ما نُقلت عنهم) فإن قولهم حجة لا لأنه إجماع بل لأن اجتهادات الصحابة أرجح من اجتهادات من بعدهم لسلامة اللغة، ومعاصرة الوحي، والعلم بمقاصد الشارع وعاداته.
والحاصل هنا أني أتفق معك على حجية الإجماع القياسي ولكن مأخذ الحجية مختلف، فليس هو الاتفاق نفسه وإنما إما نص مقدر لم يبلغنا وإما رجحان اجتهاد الصحابة على من بعدهم لما ذكرته من أسباب.
قلتُ :
أتفق معكم على أنه لا بد من وجود مستند من نص او اجتهاد سواء سميت القياس الجلي اجتهادا أو نصاً .
وأنتم هنا تجعلون اجتهاد الصحابة حجة لكن يبقى النزاع في معارضة هذا الاجتهاد بالأدلة الأخرى - كنص لأو قياس - هو الفيصل فإن قلنا هو إجماع فلا تجوز المخالفة وإن قلنا هو حجة فالحجج تتعارض .
قلتم :
التواتر المعنوي في نصوص السنة المفيدة للإجماع زعمه الغزالي ولم يزعمه أحد قبله ممن استدل على الإجماع، وهو لا يسلم من الاعتراض لسببين:
أحدهما: الأحاديث التي ذكرها محصورة معدودة لا أظنها تزيد على عشرة وهو أقل ما قبله علماء المصطلح في حد التواتر اللفظي فما بالك بالمعنوي الذي يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير.
قلتُ :
سبق الجواب عن هذا في المشاركة السابقة
قلتم :
أما القول بأن هذه الأحاديث تلقيت بالقبول في الاستدلال، فـ"التلقي بالقبول" على فرض التسليم به، هو نفسه الإجماع، ولا يجوز الاستدلال بالإجماع على الإجماع كما لا يخفاكم.
قلتُ :
التلقي بالقبول هذا عمل نقلي من أهل الفن والاختصاص وهم أهل الحديث فحيث تلقي بالقبول دل على إثبات متنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق قول كثير من العلماء أن ما تلقي بالقبول صحيح او حجة وأن ذلك يغني عن إسناده فهو بمثابة الحكم على الحديث بالصحة ابتداء .
قلتم :
اشتراط انقراض العصر إنما لزم لوجود مشكلة في تصوُّر الإجماع الذي صوره الأصوليون، لأنه عمليا من المستحيل إثبات تزامن أقوال المجتهدين. فالنقول عن الصحابة في أكثر مسائل الإجماع غير محددة التاريخ، ولذلك اشترط بعض الأصوليين انقراض العصر حتى يستقر الإجماع ويمكن التأكد عمليا من التوافق. وهذا لا يلزم على الوجه والمأخذ الذي بينته في حجية الإجماع.
قلتُ :
إذاً السؤال هو : هل تشترطون انقراض العصر في الإجماع ؟ وإن كان الجواب بنعم فهل الدليل النص أو العادة ؟ ثم ما هو الضابط في تحديد وقت الانقراض ؟ وكيف يمكن التعامل مع من بلغ رتبة الاجتهاد قبل انقراض العصر ثم قبل موته خرج مجتهدون آخرون وهكذا يتسلسل خروج المجتهدين الذين يعتد بقولهم في الإجماع فمتى إذا ينقرض العصر ؟.
قلتم :
كثير من مسائل الإجماع لم يرد فيها نص. خذ مثلا التكبير بعد الصلوات أيام العيد، المضاربة والاستصناع، وبعض المسائل نقل الإجماع والنص فيها ضعيف من حيث الإسناد كبيع الكالئ بالكالئ ولا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث وغيرها.
قلتُ :
أما التكبير في العيد فقد دل عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم . وعملهم تفسير لقوله تعالى : " واذكروا الله في أيام معدودات " فقد ورد عن علي وابن عباس وابن الزبير وأبي موسى رضي الله عنهم تفسيرها بأيام التشريق .
واستدل له ايضا بما رواه الحاكم وصححه عن علي وعمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يقنت في صلاة الفجر ، وكان يكبر يوم عرفة من صلاة الصبح ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق " لكن إسناده ضعيف وروى نحوه الدارقطني عن جابر بسند ضعيف جداً .
واما المضاربة فنعم نقل الإجماع على مشروعيتها ابن عبد البر وابن حزم وابن المنذر وابن قدامة وغيرهم ويدل عليها ما يلي :
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أنْ لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل فهو ضامن. فرفع شرطه إلى رسول الله فأجازه " أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والدارقطني .
2 - واستدل الماوردي لمشروعية المضاربة بحديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " رواه مسلم
3 - واستدل الماوردي وغيره بأنه r ضارب لخديجة رضي الله تعالى عنها بمالها إلى الشام، وأنفذت معه عبدها ميسرة قبل أن يتزوجها بنحو شهرين وسنة إذ ذاك نحو خمس وعشرين سنة "
4 - واستدل بعضهم بما روى ابن ماجه بسند ضعيف عن صُهَيْبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه r : "ثلاث فيهن البركة : البيع إلى أجل أجل والمقارضة وأخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع "
قال ابن حزم : " كل أبواب الفقه ليس منها باب الا وله أصل في القرآن والسنة نعلمه ولله الحمد حاشا القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة ولكنه اجماع صحيح مجرد والذي نقطع عليه أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه فأقره " مراتب الإجماع ( ص 91 )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وقد كانَ بعض الناس يذكرُ مسائل فيها إجماعٌ بلا نص كالمضاربة، وليس كذلك، بل المضاربةُ كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإنَّ الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله قد سافر بمالِ غيره قبل النبوة، كما سافر بمالِ خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كانَ أكثرها مضاربةً مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلامُ أقرها رسول الله وكان أصحابه يُسافرون بمال غيرهم مضاربةً ولم ينهَ عن ذلك، والسنةُ قوله وفعله وإقراره فلما أقرها كانت ثابتةً بالسنة " مجموع الفتاوى ( 19 / 195 )
وأما الاستصناع فإن العلماء منهم من أدرجه ضمن البيع ومنهم من ادرجه ضمن الإجارة ومنهم من جعله من قبيل السلم فاشترط فيه شروطه وهذه كلها لها ادلتها في المشروعية .
وعموما فقد استدل بعض الفقهاء لذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب ثم القاه وكذا استصنع منبرا كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه
قلتم :
هذا استطراد في الموضوع يحمد لكم التنبيه عليه فقد أتحفتمونا بفوائد من النقول عن أهل العلم. والسبب في كونه استطرادا أنه يناقش في مثال، والأمثلة لا تحتمل التنقير. على أن تأصيلكم لهذه المسألة بالذات فيه نظر ولا أحسبها تخفى عليكم مسألة إجماع العلماء على وفق حديث هل يقتضي صحته أم لا، المبحوثة في الأصول. وقول الجمهور كما ذكره الزركشي هو أنه لا يقتضي الصحة. والأصح، والله أعلم، التفصيل فإن نُقل إجماعهم على الحكم فقط فهذا لا يقتضي صحة الحديث، وإن نقل إجماعهم على الحكم مستدلين عليه بالحديث فهذا يقتضي صحة الحديث، وهذا ما لا أظنه يتوفر في حديث بيع الكالئ بالكالئ لا سيما أنه تفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وقد قال فيه أحمد: ((لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره)) . وقال: ((ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين)). فها أنت ذا ترى كيف نفى، رحمه الله، عن الحديث الصحة واستدل على الحكم بالإجماع.
قلتُ :
أما الاستطراد في الكلام على المثال فلما يلي :
1 - أن المراد تأصيل قاعدة تلقي الأحاديث بالقبول لا المثال ذاته لأن هذا ينسحب على كثير من المسائل الواردة في الباب كحديث " لا وصية لوارث " وحديث " لا يرث القاتل شيئاً " ونحوها .
2 - أن المقصود من البحث هو الواقع العملي في الشرع وعمل العلماء وهذا إنما يتحقق بالأمثلة والتطبيق فحيث صحت صحت الدعوى وإلا فهي مردودة وأما التنظير الذي لا تسنده الأمثلة والواقع فلا حاجة إليه .
وأما مسألة تلقي العلماء بالقبول فقد سبق أن منهم من جعل الحديث بعد ذلك صحيحا ومنهم من جعله في حيز المتواتر ومنهم من لم يطلق عليه ذلك لكنه رأى الاحتجاج به .
قلتم :
لا أسلم بأن تتابع الكثيرين من أتباع المذاهب دليل الصحة، وقد عرفت إدمانهم على مجرد النقل عن المتقدمين وتهيب مخالفتهم، ولا سيما أيضا أن أكثرهم صوَّر الإجماع القطعي بصورة خيالية، حين شرطوا فيه الصراحة، واستغراق جميع المجتهدين، وثبوت تواتر النقل عنهم، ويكفي اعتراض الرازي والآمدي الذي تفضلت بالتنبيه عليه مُشَوِّشا على هذا التتابع، وقبلهم إمام الحرمين الذي وإن قال بقطعية الإجماع إن ثبت بشروطه، فقد رده إلى جري العوائد لا إلى دليل السمع والتواتر المعنوي الذي تتابع عليه الأصوليون بعد الغزالي.
قلتُ :
أفهم من هذا أنكم لا ترون قطعية الإجماع ؟
تارة تذكرون أنه نوعان قطعي وظني وهنا لا تسلمون بصحة ذلك .
وأما اعتراض الرازي والآمدي فلا يخفاكم أنه مخالف لمن سبق ومن لحق كما قال الشاطبي وتعلمون ان منهج الرازي منهج تشكيك في جل أدلة الشريعة فهو لا يرى القطع في نصوص الكتاب والسنة ولا الإجماع بل إنه شكك في العقل نفسه ومعلوم ان هذا مصدره علم الكلام لا الوحي المنزل ولا عمل السلف وقد وصل الحال بالرازي إلى ما تعلمه من الحيرة والاضطراب والشك لعدم ثقته بقطعية الأدلة .
وأما الآمدي فعنده الإجماع نوعان قطعي وظني فما انفرد به المجتهدون دون سائر الأمة فهو ظني وما شاركهم فيهم العوام فهو قطعي فلم ينف القطعية مطلقاً ولو سلم بذلك فهو مخالف لقول عامة أهل العلم ممن سبقه .