الشيخ أبو عبد الله وفقه الله
عندي بعض التعليقات من باب المباحثة التي رغبتم بها ومن باب الفائدة نسأل الله أن ينفعنا بها فأقول :
أولاً :
الإستقراء هو تتبع الجزئيات للوصول إلى حكم كلي وهو نوعان استقراء تام وهو قطعي بالإجماع واستقراء ناقص وهو ظني عند الجمهور ويرى الشاطبي أنه ربما ارتقى لمرتبة القطع وهو ما يدل عليه كلام القرافي وغيره .
وينبغي أن يعلم أن قضية القطع والظن قضية نسبية إضافية بمعنى أننا نقول هو قطع وظن بالنسبة إلينا لا بالنسبة للنص نفسه لأن القطع والظن إدراك وافدراك يحصل للمكلف ولذلك عند من يرى أن خبر الآحاد يفيد الظن بالنسبة لنا يقول هو قطعي لمن سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة لكن النص يحتف بها من الطرق والقرائن ما يجعله يفيد القطع أو الظن سواء من جهة الثبوت أو الدلالة .
ما معنى هذا الكلام ؟
معناه أننا حينما نقول الاستقراء التام قطعي فهو يعني أن اجتماع هذه النصوص بلفظها او معناها على معنى ثبت عندنا على سبيل القطع ، وقد يكون كل نص منها قطعيا لوحده وقد يكون ظنيا المهم انه بالنسبة لنا أفاد القطع بالاستقراء التام .
وهذا الأمر ينسحب على كثير من المسائل والأدلة في باب القطع والظن .
ثانيا :
الشاطبي لم يقرر هذا الدليل ويعتمد عليه عبثا بل استند إلى قواعد منها :
1 – أن هذه المصالح كلية ولا يضر وجود المستثنيات فيها فالكلي لا ينخرم بالجزئي .
2 – الغالب معتبر في الشريعة اعتبار الكل في القطع .
3 – أن قواعد الشريعة تتداخل وتتكامل فما خرج عن الضروري يندرج في الحاجي والتحسيني وكل منهما يخدم الضروري ويحميه .
4 – الاستقراء تواتر معنوي وإن شئت قل عموم معنوي ويشترط لتحقق العموم المعنوي عن طريق الاستقراء أربعة أمور :
أ – التكرار في نصوص الشريعة كما نجد في تكرار رفع الحرج والتيسير ودفع الضرر والمحافظة على النفس والعقل والمال ....
ب – التأكيد وهذا يكون بأنواع من التأكيد اللفظية كثيرة .
ج – الانتشار أي أن يكون مبثوثا في أبواب كثيرة من الشريعة كما نجد في المحافظة على النفس يرد ما يدل عليها في الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجنايات ونحوها .
د – قطعية الثبوت بأن يكون في نص من القرآن أو السنة المتواترة ونحن نعلم ان المحافظة على المصالح الضرورية قد تواترت النصوص في القرآن والسنة في المحافظة عليها .
بمجموع هذه الشروط مع كون المستقريء أهلاً للاستقراء ينتج عندنا استقراء قطعي الثبوت .
ثالثاً :
الإشكال يبدو أنه حصل من جهات وهي :
الجهة الأولى :
التسمية ( ضروري / حاجي / تحسيني ) وأقول لا مشاحة في التسمية فبإمكانك أن تسميها مصالح عليا ووسطى وصغرى أو أن تتكلم عن أفرادها : المحافظة على الدين والنفس والمال والعقل والنسل والعرض .
وكل واحد من هذه الضروريات قد ثبتت المحافظة عليه بنصوص متواترة قطعية وهي مما علم من الدين بالضرورة .
ولا يلزم أن يوجد المسمى في النص الشرعي حتى نعمل به فنحن نقول شروط وأركان وأسباب وموانع ورخصة وعزيمة وواجب ومندوب وصحيح وفاسد ونحوها وهي مسميات اصطلاحية فهمت من نصوص الشريعة ولم توجد بألفاظها .
فلا يلزم أن نجد نصا يقول : حافظ على الضروري أو الحاجي أو التحسيني .
وقولكم بأنه لا يقال قال الله وقال الرسول أقول نعم لا يقال ذلك من جهة اللفظ لأن القول نسبة لفظ لكن يصح أن نقول : أمرنا الله بالمحافظة على الضروريات وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على الضروريات أو حفظ النفس أو حفظ المال ونحو ذلك كما يقول الصحابة : أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وقضى بكذا ، ويكون التصرف باللفظ من الراوي وليس ذلك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم .
وقولك إن الاستقراء من تصرف المجتهد وفهمه لا من كلام الشارع أقول الأدلة العقلية المستندة لأدلة شرعية هي أدلة شرعية كما نقول في القياس والعرف والمصلحة وسد الذرائع ونحوها .
يقول ابن تيمية رحمه الله : " الآيات التي يريها - أي الله عز وجل - الناس حتى يعلموا أن القرآن حق هي آيات عقلية يستدل بها العقل على أن القرآن حق ، وهي شرعية دل الشرع عليها وأمر بها والقرآن مملوء من ذكر الآيات العقلية التي يستدل بها العقل وهي شرعية لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها ولكن كثيرا من الناس لا يسمي دليلا شرعيا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول وهو اصطلاح قاصر ولهذا يجعلون أصول الفقه هو لبيان الأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع والكتاب يريدون به أن يعلم مراد الرسول فقط والمقصود من أصول الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية فيجعلون الأدلة الشرعية ما دلت على الأحكام العملية فقط ويخرجون ما دل بإخبار الرسول عن أن يكون شرعيا فضلا عما دل بإرشاده وتعليمه ولكن قد يسمون هذا دليلا سمعيا ولا يسمونه شرعيا وهو اصطلاح قاصر والأحكام العملية أكثر الناس يقولون إنها تعلم بالعقل أيضا وأن العقل قد يعرف الحسن والقبح فتكون الأدلة العقلية دالة على الأحكام العملية أيضا ويجوز أن تسمى شرعية لأن الشرع قررها أو وافقها أو دل عليها وأرشد إليها كما قيل مثل ذلك في المطالب الخبرية كإثبات الرب ووحدانيته وصدق رسله وقدرته على المعاد أن الشرع دل عليها وأرشد إليها " النبوات ( ص 52 )
وينظر كلام الشاطبي في الموافقات ( 1 / 35 )
وهذه المسألة نظير قول الأصوليين هل نسمي القياس دينا أو لا ؟
والاستقراء دليل عقلي شرعي وبالخصوص في أبواب المقاصد فهي تعتمد كثيرا على الاستقراء لكون المقاصد العامة يندرج تحتها جزئيات كثيرة من أبواب متعددة وغالب ما يوجد منصوصا عليه هو في المقاصد الخاصة أو الجزئية .
ويؤكد ابن القيم على أن المعنى المأخوذ من النصوص له حكم النص لا سيما في معرفة مقاصد المتكلم يقول رحمه الله : " والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ويحب هذا ويبغض هذا وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة " إعلام الموقعين ( 1 / 218 )
ويقول الشاطبي : " العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان :
أحدهما : الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول .
والثاني : استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ " الموافقات ( 4 / 57 )
وكذلك كثير من القواعد الفقهية هي قواعد مقاصدية وأكثرها أخذ من طريق الاستقراء فالمنصوص عليه منها قليل بالنسبة للمستقرأ .
الجهة الثانية :
التواتر والاستقراء :
التواتر قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا وهذا قد قرره العلماء كما لا يخفى والاستقراء هو من المتواتر المعنوي أي أن تتوارد نصوص كثيرة تؤدي معنىً واحداً فينتظم من ذلك قاعدة كلية كما نقول " المشقة تجلب التيسير " و " اليقين لا يزول بالشك " ونحو ذلك .
ويحق لنا أن نقول في ذلك هو أمر الله ورسوله وحكم الله ورسوله وهذا هو المحك في الفرق بين قول الجمهور والظاهرية الذين وقفوا على ظاهر اللفظ ، فقولكم هنا يلزم منه التزام ظواهر النصوص فقط ويفهم من كلامكم أنكم لا تقولون بالعموم المعنوي فهو فعل المجتهد فقط فيلزم على هذا :
1 - رد القياس لأن القياس عموم معنوي إذ هو تعميم العلة حتى تصبح كقاعدة كلية ثم ندرج تحتها الفروع
2 - وكذلك عموم المفهوم بنوعيه .
3 - وكالخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم أو الموجه لأحد الصحابة يعم الأمة مع أنه لفظ خاص لا عام ولو قلنا بقولكم لكان كل خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد الصحابة فظاهر اللفظ الخصوص لأن قوله تعالى : " لم تحرم ما أحل الله لك " وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها .. " أو للصحابي : " لا تغضب " ونحوها تخص النبي أو ذلك الصحابي فقط .
فهذه ألفاظ خاصة لكنها عمومات معنوية أخذت عن طريق العرف الشرعي أو استعمالات العرب أو العقل إما بدلالة التعليل أو الإطراد .
وتخصيصكم الاستقراء بما ورد من جهة المعنى دون النصوص غير صحيح فالاستقراء يشمل الأمرين فإن الاستقراء عند العلماء هو " تتبع الجزئيات ليثبت من جهتها حكم عام إما قطعي أو ظني "
وهذه الجزئيات تشمل النصوص ألفاظها ومعانيها وأحوالها والتصرفات النبوية وأقوال الأئمة والفروع الفقهية ...
رابعاً :
الاستقراء الناقص يندرج فيه :
1 - الاستقراء التغليبي .
2 - وشهادة الأصول .
3 - والاستقراء التقعيدي .
وكلها معمول بها ومعتمد عليها في أصول الشريعة وفروعها كما أن الاستقراء يعتمد أدلة عقلية محتج بها كالتعليل والطرد والسبر والتقسيم والدوران ونحوها وكثير من القواعد الأصولية ثبتت بالاستقراء كقواعد الأوامر والنواهي والعموم والخصوص وأكثر دلالات الألفاظ والحكم على تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وكذلك القياس والعرف وغيرها مما سبقت الإشارة إليه وهي أدلة محتج بها منها ما يكون قطعيا ومنها ما يكون ظنياً .
وقد صرح كثير من الأصوليين - كالأبياري والقرافي والشاطبي وغيرهم - بأن مسائل الأصول قطعية .
وكما أن أصول الفقه اعتمد الاستقراء فكذلك سائر العلوم كالفقه والتفسير والحديث واللغة وغيرها .
وكذلك العقيدة وضع العلماء فيها قواعد استقرائية استفيدت من استقراء نصوص الكتاب والسنة .