أحمد مزيد بن محمد عبد الحق
:: متخصص ::
- إنضم
- 27 مارس 2008
- المشاركات
- 14
- التخصص
- شريعة
- المدينة
- انواقشوط
- المذهب الفقهي
- مالكي
إخواني الكرام في أول مشاركة لي في هذا المنتدى المبارك أةد أن تتقبلوا مني خلص التحية وصافي الود وأرجو أن يحصل بيننا تواصل جماعي وثنائي يزيد بعضنا انتفاعا من بعض ويقوى أواصر المحبة بين المنتسبين إلى طلب العلم الشرعي في وقت تقوم فيها تجمعات وروابط ونقابات لكل من يجمعهم هم مشترك حتى ولو كان تافها
وأحيي الإخوة المشرفين على هذا المنتدى لما لمسته في مشاريعهم -قريبة المدى وبعيدته-من طموع أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحققه لنا ولهم في وقت قريب
وحتى لا أخلي هذه المشاركة عما يفيد فقد اخترت مقالالي نشرته قبل سنوات في بعض اليوميات الصادرة هنا في موريتانيا ثم أعدت نشره في ملتقى أهل الحديث ولكنني لم ألمس من أعضاء الملتقى ما كنت أتوقعه منهم من الحفاوة بمثل عذا المقال حيث إنه قد عالج قضية مهمة وهي أسباب الخلاف وضوابطه وآدابه فهو داخل في باب الأدب وعالجها مطبقة على باب واحد من أبواب العلم وفي ذلك ما فيه من تدريب طلبة العلم على تطبيق مسائل الأصول على الفروع كما يُلمِح من طرف خفي إلى أن الفقه مادة غنية يمكن من خلال باب واحد منها أن نطبق عامة ما نتعلمه نظريا من قواعد إذا أحسنا التأمل وبالغنا في التتبع
والواقع أن ضيق مجال الصحيفة التي نشر فيها المقال أول مرة حال دون الاستفاضة في أنواع أخرى من أسباب الخلاف
لعل الله ييسره مطبقا على هذا الباب أو غيره من الابواب وكان عنوان المقال "ضوابط في الفهم والاتباع من خلال حجة الوداع"إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا أما بعد:
لفت انتباهي وأنا أتصفح الأحاديث الواردة في حجة الوداع ذالك الحشد الهائل من النصوص الدالة على ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة من الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وشدة اتباعهم لما ثبت لهم من هديه وصح لهم من سنته ،لا يُحابي في ذلك متعلم عالما ولا صغير كبيرا ولا مأمور أميرا،جيل كان الحق ضالتهم والدليل نبراسهم والحجة حكمهم
ولفت انتباهي في المقابل أنهم وهم الجيل الذي تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون واسطة قد بدر منهم الخلاف ونشأ بينهم النزاع في مسائل كثيرة في هذا الباب وغيره
وبعد التأمل وجدت أن الأمر طبعيا
-فالناس متفاوتون في استعداداتهم الفكرية ومتأثرون بطبائعهم النفسية فالبعض منهم يميل إلى الشدة والعزيمة والبعض الآخر يميل الرخصة والتيسر،ويجتمع للواحد من القرائن والأدلة في باب ما لا يجتمع للآخر، وقد يلمح معنى خفيا لا يتفطن له غيره، ولكل حجته فيما انتهج وعذره فيما سلك،طالما أن أيا منهم لم يخرج عن الإطار العام لفهم النصوص ولم يأل جهدا في معرفة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
إلا أن الحد الفاصل بين الصحابة ومن سواهم في هذا الباب أن الخلاف وإن وقع منهم في الفهم إلا أنه لم يُفسد للود قضية،ولم يفت في عضد الجماعة المسلمة.
وقد بدا لي أن أشرك القراء معي فأقف بهم وقفات نتأمل فيها بعض هذه النصوص الصحيحة لنستجلي منها بعض معالم المنهج السلفي في الفهم والاتباع، نستغني به عما أفرزته مدارس الرأي والكلام مما أثار بين المسلمين كثيرا من الخلاف والخصام.
الوقفة الأولى:لا حجة في أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم
روى عبد الرزاق حدثنا معمر حدثنا أيوب قال قال عروة لابن عباس:ألا تتقي الله؟ ترخص في المتعة
فقال ابن عباس: سل أمك يا عُرية
فقال عروة :أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا
فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يُعذبكم الله،أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر
انظر التمهيد (8/203)
-وروى الترمذي( ح824 ) وغيره عن ابن عمر أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال:هي حلال،فقال رجل : إن أباك كان ينهى عنها
فقال ابن عمر:
أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله ،أأمر أبي يُتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
فعند تأمل هذين الأثرين،ونظائرهما كثيرة لا يتسع لها المقام،نلاحظ تمسك ابن عمر وابن عباس بما ثبت لهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من كونه تمتع ولم يمنعهما مخالفة أبي بكر وعمر،وهما أعلم الناس بمكان أبي بكر وعمر من الفهم عن الله ورسوله،وما تميزا به من السابقة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يحتج أبو بكر ولا عمر بسابقتهما ومكانتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه في خلافاتهما مع الصحابة في المسائل الكثيرة،مما يعني أن هذه المكانة وتلك السابقة ليست أي منهما قسيما للأدلة الشرعية حتى تعارض بها.
وقد خالف عمر في هذه المسألة جماعة من الصحابة منهم عمران ابن حصين
روى مسلم في صحيحه( ح 1226 )عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال
: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء
،(يعني عمر)
كما خالف علي ابن أبي طالب عثمان ابن عفان في هذه المسألة كما في صحيح صحيح مسلم (ح 1223) عن سعيد بن المسيب قال
: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي ماتريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعا
فهذا على ابن أبي طالب وعمران ابن حصين يخالفان عمر وعثمان مع علمها بمنزلتهما ومكانتهما ولكن المنزلة شئ والحجة شئ آخر،وإذا ثبتت السنة رُدت إليها الجهالات كما قال عمر رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة رواه البيهقي( ح 15322 )
وعملا بهذا المعنى فقد رجع جماعة من الصحابة عن مذاهب أفتوا بها وناظروا عليها لروايات رواها لهم من هو دونهم في في العلم والمنزلة.
فمن ذلك رجوع عبد الله ابن عمرعن فتواه بقطع الخفين للمحرمة كما تُقطعان للمحرم لما روته له زوجته صفية بنت أبي عُبيد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص للمحرمة في لبس الخف
والقصة بذلك في سنن أبي داود( ح1831)
كما رجع زيد ابن ثابت عن مذهبه في أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض إلى ما روته أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض بالنفر بعد الإفاضة دون أن تطوف طواف الوداع والحديث بذالك في صحيح البخاري( ح1671 )وسنن البيهقي(ح9540)
الوقفة الثانية:مخا لفة المجتهد لدليل أرجح عنده غير قادح
في الاتباع
اشتهر خلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة الأنساك الثلاثة(التمتع-القران-الإفراد)وأيها أفضل
ولا أريد الحسم في هذه القضية الآن ،بل حسبي أن أشير إلى بعض المعاني والدلالات التي تضمنها ذلك الخلاف
-فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه كان يُلزم الناس في خلافته بالإفراد ويُنكر عليهم التمتع والقران مع أنه رضي الله عنه ممن روى القران عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري (ح1461 ) أن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول :أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال :صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة
وفي المسند( 1 / 14) وسنن أبي داود(ح1768) و النسائي( ح2719)) أن الصبي _بصيغة التصغير_ابن معبد أهل بعمرة وحجة فأنكر عليه زيد ابن صوحان وسلمان ابن ربيعة فقال له عمر هُديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا عمر يصف القران بأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه صريحا
عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يُلزم الناس بما يُخالف ذلك،وماذلك إلا لأنه رأى لأدلة أخرى أرجحية الإفراد على القران وقد ذكر أهل العلم كثيرا من هذه المرجحات [تراجع في أضواء البيان وغيره]،وبغض النظر عن أرجحية قول عمرفإن له رأيه وتأويله واجتهاده،فليس الفاصل في هذه المسألة أن نعرف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه أو علمه لجماعة من أصحابه فحسب،بل لا بد أن يسلم ذلك من عوارض النسخ والاختصاص وما إلى ذلك لأن الدليل لا يقوى بصحته فحسب بل لا بد أن يسلم من وجود المعارض الراجح حتى يتم الاستدلال
ولا بد هنا من تنبيه مهم إلى أنه كما لا يسع مخالفي عمر رضي الله عنه من الصحابة وغيرهم أن يتهموه بتقديم الرأي على الأثر أوتقديم العقل على النقل،فإنه لا يسع عمر ومن معه كذلك أن يتهموا مخالفيهم بالجمود على النص والحرفية والظاهرية وما إلى ذلك،بل كل من الفريقين مطالب بإعمال الدليل والعمل بالراجح بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد في فهم النصوص دلالات ومقاصد،ويقال في مخالفة علي لعثمان ما قيل في مخافة عمران ابن حصين لعمر رضي الله عنهما
الوقفة الثالثة:طبيعة النصوص دلالة وسلامة من المعارض سبب طبعي للخلاف
اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كثير من تفاصيل أحكام الحج وأسباب الخلاف في ذلك كثيرة لكن من أبرزها الاختلاف في الدلالة، وقد تسلم الدلالة لكن يمنع من العمل بمقتضاها عدم سلامة النص من معارض أرجح أو ادعاء شئ من الخصوصية فيه بأناس معينين أوبحالات خاصة أو بعلة زالت أو ما شاكل ذلك ولا يتسع المقام بالإسهاب في التفاصيل ولكن نكتفي بثلاثة أمثلة:
-المثال الأول :روى جماعة من الصحابة(14 نفسا) عن النبي صلى الله عليه وسلم فسخ الحج إلى العمرة وقد ذهب أبو ذر وبلال ابن الحارث وعثمان ابن عفان وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهم إلى خصوصية هذا الفسخ وخالفهم جماعة أخرى من الصحابة منهم عمران ابن حصين وابن عباس وابن عمر وسعد ابن أبي وقاص وعلي ابن أبي طالب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم فقالوابعموم ذلك ولكل دليله فيما ذهب إليه غير أن السبب الرئيس في هذا الخلاف تعارض ظواهر الأحاديث لا من حيث الدلالة فحسب بل من حيث العموم والخصوص فإن القائلين من الصحابة بكراهة فسخ الحج إلى العمرة لا يُنكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم امر أصحابه بذلك بل يدعون الخصوصية والقائلون بالتعميم يستصحبون الأصل ويطالبون الآخرين بدليل ناقل عن الأصل
-المثال الثاني:نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجته وهومودع مكة بعد حجته في البطحاء(المحصب) وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في نزوله هذا هل هو على جهة التشريع فيستحب النزول به -وهذا مذهب أبي بكر و عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهم-
أم جبلي محض فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أسمح لخروجه من مكة كما ذهبت إليه عائشة وابن عباس رضي الله عنهم(راجع صحيح البخارح(1715-1716)
وهذا الخلاف في دلالة الفعل على التشريع أو الجبلة ترتب عليه الخلاف في كثير من التفاصيل في الحج وغيره ومن ذلك:
-خلافهم في دخول مكة من الثنية العليا وخروجه من السفلى
-وخلافهم في ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف وفي الوقوف بعرفة وغيرهما من أعمال الحج
ونظائر ذلك كثيرة.
-المثال الثالث:
أخرج البخاري(ح1520 ) ومسلم (ح 1270) عن عمر رضي الله عنه أنه وقف عند الحجر الأسود وقال إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبلتك
وفي البخاري( ح1528) أنه قال أيضا :مالنا وللرمل وإن كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نحب أن نتركه
ففي هذا الحديث نرى أن عمر رضي الله عنه ذهب إلى مشروعية الرمل بالرغم من زوال العلة التي شرع من أجلها وهي مغايظة المشركين ومراغمتهم وإظهار الجلد لهم في عمرة القضاء،في حين ذهب ابن عباس إلى عدم مشروعية الرمل لزوال العلة،ولا شك أن مذهب عمر رضي الله عنه أرجح لكون النبي صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة الجعرانة وحجة الوداع بعد زوال العلة،ولكن محل الاستشهاد من الحديث أن الخلاف في بقاء الحكم بعد زوال علته أوزواله بزوالها سبب من أسباب الخلاف تتأرجح فيه ظنون المجتهدين بين الإعمال والإهمال فيحتاج إلى أدلة خارجية تُرجح أحد الجانبين والمرجحات كثيرة والناس متفاوتون في الاطلاع.
وقبل أن نغادر هذا المثال لا بد أن نقف وقفة إجلال وإكبار لما كان عليه عمر رضي الله عنه من الوقوف عند السنة والعمل بها بغض النظرعن فهم العلة من العمل،ذلك أن الشارع لا يُحيط البشر بكنه علله ،ولا يمكن أن يطلعوا على جميع حكمه ولكن عمر هنا قبل الحجر مع أنه لا يعلم لذلك علة إلا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ورمل مع أنه يعرف العلة التي من أجلها شرع الرمل ويعرف زوالها لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله-والظاهر أنه يعني فعله له في حجته بعد زوال العلة-فتمسك بالنص مع الجهل بالعلة واحتفظ به مع العلم بها وبزوالها.
ونظير فعل عمر رضي الله عنه في ذلك إنكار ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه استلام جميع أركان البيت بالطواف فقال معاوية :ليس شئ من البيت مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنهما :لكن لم أر الرسول صلى الله عليه وسلم استلم إلا الركنين اليمانيين ثم تلا قوله تعالى(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فتراجع معاوية رضي الله عنه تحت سلطان الحجة وفي ذلك درس آخر أن الحق أحق أن يتبع وأن الدليل هو ميزان الحق.
الوقفة الرابعة:الاجتهاد الفردي لا ينبغي أن يكون على حساب وحدة الجماعة
أخرج البخاري(ح1574) ومسلم (695) عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في شأن صلاته بمنى أنه قال:صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فيا ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
ففي هذا الحديث نرى أن ابن مسعود رضي الله عنه خالف عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى وكان لعثمان اجتهاده في ذلك واحتج ابن مسعود رضي الله عنه بما عهده من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه
على ما أنكر من مذهب أميره عثمان رضي الله عنه ،وأشهر ذلك بين الناس لكنه لم تدفعه سورة المخالفة إلى حدود المقاطعة والمنازعة بل صلى مع عثمان أربعا لا يرى سنيتها فحصل بذل شرفيين شرف الأمر بالمعروف بإفشائه السنة وشرف لزوم الجماعة ونبذ الفرقة بصلاته مع عثمان رضي الله عنه،وقد استشكل بعض طلاب ابن مسعود هذا الازدواج بين ما يُفتي به وبين ما يفعله كما في سنن أبي داود( ح1960) والبيهقي (5219) فقال له ابن مسعود رضي الله عنه : الخلاف شر.
الوقفة الخامسة:طبيعة المجتهد لها أثر في الاجتهاد
المجتهدون بشر فيهم نوازع البشر وميوله،وتتأثر تصوراتهم ومواقفهم العلمية والعملية بنفسياتهم وما جبلوا عليه طبيعة،ولذلك عرف بعض المجتهدين من الصحابة ومن بعدهم بالميل إلى الترخيص والتيسير كما عرف البعض الآخر بالميل إلى العزيمة والتشمير،ولأن ترخص الأول بالشرع لا بالهوى فلا يكون ملوما ،فكذلك تحجير الثاني وحزمه بالشرع فلا يكون مذموما،والنماذج كثير في ذلك لكننا نكتفي هنا بشخصيتين من الصحابة اشتهرت إحداهما بالترخيص والتيسير واشتهرت الأخرى بالعزيمة والتشمير
الأولى:شخصية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما
والأخرى شخصية عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما
وحتى لا نخرج عن نطاق الحج فقد كان عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يميل إلى كف المحرم عن كثير من الإرفاه حتى إنه يرى رجلا يستظل بممحمل فقال له:أضح لمن أحرمت له، وكان لا يغتسل وهو محرم إلا من الجنابة ويتحرج وهو محرم من تقريد بعيره [انظر الموطأ (706)
والبيهقي (8974)] [وانظر الموطأ رواية محمد ابن الحسن (ح432)]
في حين كان ابن عباس يدخل الحمام (أي الحمام البخاري) وهو محرم ويقول :أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأوساخكم شيئا كما في المصنف لابن أبي شيبة(ح14791) والبيهقي (8907)
والمجتهدون في كل زمان ومكان تنتظمهم هذه الثنائية وهي من لطف الله بعباده حتى تبقى سعة في الدين وفسحة في العمل.
وأحيي الإخوة المشرفين على هذا المنتدى لما لمسته في مشاريعهم -قريبة المدى وبعيدته-من طموع أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحققه لنا ولهم في وقت قريب
وحتى لا أخلي هذه المشاركة عما يفيد فقد اخترت مقالالي نشرته قبل سنوات في بعض اليوميات الصادرة هنا في موريتانيا ثم أعدت نشره في ملتقى أهل الحديث ولكنني لم ألمس من أعضاء الملتقى ما كنت أتوقعه منهم من الحفاوة بمثل عذا المقال حيث إنه قد عالج قضية مهمة وهي أسباب الخلاف وضوابطه وآدابه فهو داخل في باب الأدب وعالجها مطبقة على باب واحد من أبواب العلم وفي ذلك ما فيه من تدريب طلبة العلم على تطبيق مسائل الأصول على الفروع كما يُلمِح من طرف خفي إلى أن الفقه مادة غنية يمكن من خلال باب واحد منها أن نطبق عامة ما نتعلمه نظريا من قواعد إذا أحسنا التأمل وبالغنا في التتبع
والواقع أن ضيق مجال الصحيفة التي نشر فيها المقال أول مرة حال دون الاستفاضة في أنواع أخرى من أسباب الخلاف
لعل الله ييسره مطبقا على هذا الباب أو غيره من الابواب وكان عنوان المقال "ضوابط في الفهم والاتباع من خلال حجة الوداع"إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا أما بعد:
لفت انتباهي وأنا أتصفح الأحاديث الواردة في حجة الوداع ذالك الحشد الهائل من النصوص الدالة على ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة من الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وشدة اتباعهم لما ثبت لهم من هديه وصح لهم من سنته ،لا يُحابي في ذلك متعلم عالما ولا صغير كبيرا ولا مأمور أميرا،جيل كان الحق ضالتهم والدليل نبراسهم والحجة حكمهم
ولفت انتباهي في المقابل أنهم وهم الجيل الذي تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون واسطة قد بدر منهم الخلاف ونشأ بينهم النزاع في مسائل كثيرة في هذا الباب وغيره
وبعد التأمل وجدت أن الأمر طبعيا
-فالناس متفاوتون في استعداداتهم الفكرية ومتأثرون بطبائعهم النفسية فالبعض منهم يميل إلى الشدة والعزيمة والبعض الآخر يميل الرخصة والتيسر،ويجتمع للواحد من القرائن والأدلة في باب ما لا يجتمع للآخر، وقد يلمح معنى خفيا لا يتفطن له غيره، ولكل حجته فيما انتهج وعذره فيما سلك،طالما أن أيا منهم لم يخرج عن الإطار العام لفهم النصوص ولم يأل جهدا في معرفة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
إلا أن الحد الفاصل بين الصحابة ومن سواهم في هذا الباب أن الخلاف وإن وقع منهم في الفهم إلا أنه لم يُفسد للود قضية،ولم يفت في عضد الجماعة المسلمة.
وقد بدا لي أن أشرك القراء معي فأقف بهم وقفات نتأمل فيها بعض هذه النصوص الصحيحة لنستجلي منها بعض معالم المنهج السلفي في الفهم والاتباع، نستغني به عما أفرزته مدارس الرأي والكلام مما أثار بين المسلمين كثيرا من الخلاف والخصام.
الوقفة الأولى:لا حجة في أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم
روى عبد الرزاق حدثنا معمر حدثنا أيوب قال قال عروة لابن عباس:ألا تتقي الله؟ ترخص في المتعة
فقال ابن عباس: سل أمك يا عُرية
فقال عروة :أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا
فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يُعذبكم الله،أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر
انظر التمهيد (8/203)
-وروى الترمذي( ح824 ) وغيره عن ابن عمر أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال:هي حلال،فقال رجل : إن أباك كان ينهى عنها
فقال ابن عمر:
أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله ،أأمر أبي يُتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
فعند تأمل هذين الأثرين،ونظائرهما كثيرة لا يتسع لها المقام،نلاحظ تمسك ابن عمر وابن عباس بما ثبت لهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من كونه تمتع ولم يمنعهما مخالفة أبي بكر وعمر،وهما أعلم الناس بمكان أبي بكر وعمر من الفهم عن الله ورسوله،وما تميزا به من السابقة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يحتج أبو بكر ولا عمر بسابقتهما ومكانتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه في خلافاتهما مع الصحابة في المسائل الكثيرة،مما يعني أن هذه المكانة وتلك السابقة ليست أي منهما قسيما للأدلة الشرعية حتى تعارض بها.
وقد خالف عمر في هذه المسألة جماعة من الصحابة منهم عمران ابن حصين
روى مسلم في صحيحه( ح 1226 )عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال
: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء
،(يعني عمر)
كما خالف علي ابن أبي طالب عثمان ابن عفان في هذه المسألة كما في صحيح صحيح مسلم (ح 1223) عن سعيد بن المسيب قال
: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي ماتريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعا
فهذا على ابن أبي طالب وعمران ابن حصين يخالفان عمر وعثمان مع علمها بمنزلتهما ومكانتهما ولكن المنزلة شئ والحجة شئ آخر،وإذا ثبتت السنة رُدت إليها الجهالات كما قال عمر رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة رواه البيهقي( ح 15322 )
وعملا بهذا المعنى فقد رجع جماعة من الصحابة عن مذاهب أفتوا بها وناظروا عليها لروايات رواها لهم من هو دونهم في في العلم والمنزلة.
فمن ذلك رجوع عبد الله ابن عمرعن فتواه بقطع الخفين للمحرمة كما تُقطعان للمحرم لما روته له زوجته صفية بنت أبي عُبيد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص للمحرمة في لبس الخف
والقصة بذلك في سنن أبي داود( ح1831)
كما رجع زيد ابن ثابت عن مذهبه في أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض إلى ما روته أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض بالنفر بعد الإفاضة دون أن تطوف طواف الوداع والحديث بذالك في صحيح البخاري( ح1671 )وسنن البيهقي(ح9540)
الوقفة الثانية:مخا لفة المجتهد لدليل أرجح عنده غير قادح
في الاتباع
اشتهر خلاف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة الأنساك الثلاثة(التمتع-القران-الإفراد)وأيها أفضل
ولا أريد الحسم في هذه القضية الآن ،بل حسبي أن أشير إلى بعض المعاني والدلالات التي تضمنها ذلك الخلاف
-فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه كان يُلزم الناس في خلافته بالإفراد ويُنكر عليهم التمتع والقران مع أنه رضي الله عنه ممن روى القران عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري (ح1461 ) أن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول :أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال :صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة
وفي المسند( 1 / 14) وسنن أبي داود(ح1768) و النسائي( ح2719)) أن الصبي _بصيغة التصغير_ابن معبد أهل بعمرة وحجة فأنكر عليه زيد ابن صوحان وسلمان ابن ربيعة فقال له عمر هُديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا عمر يصف القران بأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه صريحا
عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يُلزم الناس بما يُخالف ذلك،وماذلك إلا لأنه رأى لأدلة أخرى أرجحية الإفراد على القران وقد ذكر أهل العلم كثيرا من هذه المرجحات [تراجع في أضواء البيان وغيره]،وبغض النظر عن أرجحية قول عمرفإن له رأيه وتأويله واجتهاده،فليس الفاصل في هذه المسألة أن نعرف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه أو علمه لجماعة من أصحابه فحسب،بل لا بد أن يسلم ذلك من عوارض النسخ والاختصاص وما إلى ذلك لأن الدليل لا يقوى بصحته فحسب بل لا بد أن يسلم من وجود المعارض الراجح حتى يتم الاستدلال
ولا بد هنا من تنبيه مهم إلى أنه كما لا يسع مخالفي عمر رضي الله عنه من الصحابة وغيرهم أن يتهموه بتقديم الرأي على الأثر أوتقديم العقل على النقل،فإنه لا يسع عمر ومن معه كذلك أن يتهموا مخالفيهم بالجمود على النص والحرفية والظاهرية وما إلى ذلك،بل كل من الفريقين مطالب بإعمال الدليل والعمل بالراجح بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد في فهم النصوص دلالات ومقاصد،ويقال في مخالفة علي لعثمان ما قيل في مخافة عمران ابن حصين لعمر رضي الله عنهما
الوقفة الثالثة:طبيعة النصوص دلالة وسلامة من المعارض سبب طبعي للخلاف
اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كثير من تفاصيل أحكام الحج وأسباب الخلاف في ذلك كثيرة لكن من أبرزها الاختلاف في الدلالة، وقد تسلم الدلالة لكن يمنع من العمل بمقتضاها عدم سلامة النص من معارض أرجح أو ادعاء شئ من الخصوصية فيه بأناس معينين أوبحالات خاصة أو بعلة زالت أو ما شاكل ذلك ولا يتسع المقام بالإسهاب في التفاصيل ولكن نكتفي بثلاثة أمثلة:
-المثال الأول :روى جماعة من الصحابة(14 نفسا) عن النبي صلى الله عليه وسلم فسخ الحج إلى العمرة وقد ذهب أبو ذر وبلال ابن الحارث وعثمان ابن عفان وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهم إلى خصوصية هذا الفسخ وخالفهم جماعة أخرى من الصحابة منهم عمران ابن حصين وابن عباس وابن عمر وسعد ابن أبي وقاص وعلي ابن أبي طالب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم فقالوابعموم ذلك ولكل دليله فيما ذهب إليه غير أن السبب الرئيس في هذا الخلاف تعارض ظواهر الأحاديث لا من حيث الدلالة فحسب بل من حيث العموم والخصوص فإن القائلين من الصحابة بكراهة فسخ الحج إلى العمرة لا يُنكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم امر أصحابه بذلك بل يدعون الخصوصية والقائلون بالتعميم يستصحبون الأصل ويطالبون الآخرين بدليل ناقل عن الأصل
-المثال الثاني:نزل النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجته وهومودع مكة بعد حجته في البطحاء(المحصب) وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في نزوله هذا هل هو على جهة التشريع فيستحب النزول به -وهذا مذهب أبي بكر و عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهم-
أم جبلي محض فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أسمح لخروجه من مكة كما ذهبت إليه عائشة وابن عباس رضي الله عنهم(راجع صحيح البخارح(1715-1716)
وهذا الخلاف في دلالة الفعل على التشريع أو الجبلة ترتب عليه الخلاف في كثير من التفاصيل في الحج وغيره ومن ذلك:
-خلافهم في دخول مكة من الثنية العليا وخروجه من السفلى
-وخلافهم في ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف وفي الوقوف بعرفة وغيرهما من أعمال الحج
ونظائر ذلك كثيرة.
-المثال الثالث:
أخرج البخاري(ح1520 ) ومسلم (ح 1270) عن عمر رضي الله عنه أنه وقف عند الحجر الأسود وقال إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبلتك
وفي البخاري( ح1528) أنه قال أيضا :مالنا وللرمل وإن كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نحب أن نتركه
ففي هذا الحديث نرى أن عمر رضي الله عنه ذهب إلى مشروعية الرمل بالرغم من زوال العلة التي شرع من أجلها وهي مغايظة المشركين ومراغمتهم وإظهار الجلد لهم في عمرة القضاء،في حين ذهب ابن عباس إلى عدم مشروعية الرمل لزوال العلة،ولا شك أن مذهب عمر رضي الله عنه أرجح لكون النبي صلى الله عليه وسلم رمل في عمرة الجعرانة وحجة الوداع بعد زوال العلة،ولكن محل الاستشهاد من الحديث أن الخلاف في بقاء الحكم بعد زوال علته أوزواله بزوالها سبب من أسباب الخلاف تتأرجح فيه ظنون المجتهدين بين الإعمال والإهمال فيحتاج إلى أدلة خارجية تُرجح أحد الجانبين والمرجحات كثيرة والناس متفاوتون في الاطلاع.
وقبل أن نغادر هذا المثال لا بد أن نقف وقفة إجلال وإكبار لما كان عليه عمر رضي الله عنه من الوقوف عند السنة والعمل بها بغض النظرعن فهم العلة من العمل،ذلك أن الشارع لا يُحيط البشر بكنه علله ،ولا يمكن أن يطلعوا على جميع حكمه ولكن عمر هنا قبل الحجر مع أنه لا يعلم لذلك علة إلا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ورمل مع أنه يعرف العلة التي من أجلها شرع الرمل ويعرف زوالها لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله-والظاهر أنه يعني فعله له في حجته بعد زوال العلة-فتمسك بالنص مع الجهل بالعلة واحتفظ به مع العلم بها وبزوالها.
ونظير فعل عمر رضي الله عنه في ذلك إنكار ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه استلام جميع أركان البيت بالطواف فقال معاوية :ليس شئ من البيت مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنهما :لكن لم أر الرسول صلى الله عليه وسلم استلم إلا الركنين اليمانيين ثم تلا قوله تعالى(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فتراجع معاوية رضي الله عنه تحت سلطان الحجة وفي ذلك درس آخر أن الحق أحق أن يتبع وأن الدليل هو ميزان الحق.
الوقفة الرابعة:الاجتهاد الفردي لا ينبغي أن يكون على حساب وحدة الجماعة
أخرج البخاري(ح1574) ومسلم (695) عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في شأن صلاته بمنى أنه قال:صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فيا ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
ففي هذا الحديث نرى أن ابن مسعود رضي الله عنه خالف عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى وكان لعثمان اجتهاده في ذلك واحتج ابن مسعود رضي الله عنه بما عهده من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه
على ما أنكر من مذهب أميره عثمان رضي الله عنه ،وأشهر ذلك بين الناس لكنه لم تدفعه سورة المخالفة إلى حدود المقاطعة والمنازعة بل صلى مع عثمان أربعا لا يرى سنيتها فحصل بذل شرفيين شرف الأمر بالمعروف بإفشائه السنة وشرف لزوم الجماعة ونبذ الفرقة بصلاته مع عثمان رضي الله عنه،وقد استشكل بعض طلاب ابن مسعود هذا الازدواج بين ما يُفتي به وبين ما يفعله كما في سنن أبي داود( ح1960) والبيهقي (5219) فقال له ابن مسعود رضي الله عنه : الخلاف شر.
الوقفة الخامسة:طبيعة المجتهد لها أثر في الاجتهاد
المجتهدون بشر فيهم نوازع البشر وميوله،وتتأثر تصوراتهم ومواقفهم العلمية والعملية بنفسياتهم وما جبلوا عليه طبيعة،ولذلك عرف بعض المجتهدين من الصحابة ومن بعدهم بالميل إلى الترخيص والتيسير كما عرف البعض الآخر بالميل إلى العزيمة والتشمير،ولأن ترخص الأول بالشرع لا بالهوى فلا يكون ملوما ،فكذلك تحجير الثاني وحزمه بالشرع فلا يكون مذموما،والنماذج كثير في ذلك لكننا نكتفي هنا بشخصيتين من الصحابة اشتهرت إحداهما بالترخيص والتيسير واشتهرت الأخرى بالعزيمة والتشمير
الأولى:شخصية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما
والأخرى شخصية عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما
وحتى لا نخرج عن نطاق الحج فقد كان عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يميل إلى كف المحرم عن كثير من الإرفاه حتى إنه يرى رجلا يستظل بممحمل فقال له:أضح لمن أحرمت له، وكان لا يغتسل وهو محرم إلا من الجنابة ويتحرج وهو محرم من تقريد بعيره [انظر الموطأ (706)
والبيهقي (8974)] [وانظر الموطأ رواية محمد ابن الحسن (ح432)]
في حين كان ابن عباس يدخل الحمام (أي الحمام البخاري) وهو محرم ويقول :أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأوساخكم شيئا كما في المصنف لابن أبي شيبة(ح14791) والبيهقي (8907)
والمجتهدون في كل زمان ومكان تنتظمهم هذه الثنائية وهي من لطف الله بعباده حتى تبقى سعة في الدين وفسحة في العمل.