رد: السلسلة الأولى (5 مجالس): تعليقات مقتضبة على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد
المجلس الثالث
ثم يقول ابن دقيق العيد :
إذا ثبت أنها للحصر فتارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ويفهم ذلك بالقرائن والسياق
إلى أن يقول:فإذا وردت لفظة إنما فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام على حصر مخصوص :فقل به وإن لم يدل على الحصر في شيء مخصوص فاحمل الحصر على الإطلاق
-------------
قسم المملي رحمه الله الحصر إلى حقيقي أو مطلق..وإلى حصر نسبي أو مخصوص
واستدل للثاني بآيتين وحديث..أما الآية فقول الله تعالى"إنما أنت منذر" قال معقبا:ولا ينحصر في ذلك بل له أوصاف كثيرة جميلة..ولكن مفهوم الكلام حصره في النذارة لمن لا يؤمن..والآية الأخرى قوله تعالى :"إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" فهو لهو بالنسبة لمن آثرها لكنها مزرعة للآخرة لمن أحسن الحراثة فيها بما يرضي الله عز وجل..
واستدل لهذا النوع بحديث "إنما أنا بشر"..وهذا الحديث أخرجه البخاري وعامة أهل السنن من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ البخاري:إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار..وهو حديث جليل القدر كما ترى وفيه فوائد عالية وموطن الشاهد فيه"إنما أنا بشر" ومعلوم أن للنبي وغير النبي صفات كثيرة غير البشرية فهذا حصر إضافي مخصوص بحسب السياق الذي قيل فيه ,والتقدير إذن :بالنظر لقدراتي ما أنا إلا بشر ,ونحو ذلك
وهذا بين
وقد أخطا الزركشي في فهم كلام ابن دقيق العيد خطأ غريبا..و نسب إليه أنه لا يقول بإفادة "إنما" الحصر..وإنما بالسياق والقرائن.., مع أن* ابن دقيق العيد صدر كلامه بقول صريح:إنما للحصر على ما تقرر في الأصول..إلخ,ومنشأ خطأ الزركشي أنه لم يراع السياق الذي قال فيه ابن دقيق العيد ما سبق..لأن كلامه هنا مصدر بقوله:إذا ثبت أنها للحصر..إلخ..فهو انتهى من تقرير أنها للحصر ثم شرع يبين نوعي الحصر:-
فبين أن الحصر تارة يكون حصرا مطلقا..وهو الأصل حتى تأتي قرينة تدل على أنه مخصوص..
ثم مثل ابن دقيق العيد للحصر المطلق بحديث الباب "إنما الأعمال بالنيات"..
وقد نازع في هذا المتأخرون على اعتبار أن المقصود بالأعمال :ما كان في العبادات..
أما العادات فأخرجوها من هذا..وعامة كلام السلف يدل على خلافه..كما قال الحافظ ابن رجب
قال حنبل بن إسحاق فيما يرويه عن الإمام أحمد:أحب لكل من عمل عملا من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة
وأما ما يقال من أن عادات أهل الإيمان عبادات وعبادات أهل الغفلة عادات..ففيه نظر
لأن العبادة هي ما أمر الشارع به..وماكان مباحا من جنس العادات لا يتحول اسمه إلى عبادة..ولكن يؤجر صاحبه على نيته الحسنة وفرق بين الأمرين..والله أعلم
قوله:فاعتبرها*..إلخ :يعني اعتد بها مقصودا بها الحصر المطلق حتى ترد قرينة تدل على إرادة الحصر المخصوص
فلو أردنا إعمال قاعدته ,خذ مثلا قوله تعالى" إنما الصدقات للفقراء والمساكين.." فهذه بادي الأمر:مما يدل على أن "إنما" تفيد الحصر لاتفاق العلماء على حصر الزكاة في هذه الأصناف الثمانية
فنعتبرها كما قال ابن دقيق العيد حاصرة حصرا مطلقا,وليس من قرينة في السياق ولا من الخارج تصرف الحصر من الإطلاق إلى التقييد (إلا بالنظر للفظ صدقة ,وأنه مطلق يشمل الزكاة الواجبة وغيرها)
ونتيجة ذلك أن يكون تقدير الكلام:ما الزكاة الواجبة مشروعة إلا لهؤلاء (الفقراء..وابن السبيل)
**
ولا يظن أن كون الحصر مخصوصا ينافي دلالة الحصر أو يعكر عليه,لأن الاستثناء بعد نفي =حصرٌ اتفاقاً ,ومع هذا دل الدليل على جواز كونه مفيدا للحصر المخصوص كما في قوله تعالى"وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وقد دل الدليل على أن الإنسان ينفعه دعاء ولده
فيقال هنا:هذه أفادت حصرا مخصوصا باعتبار تمحض الثواب القطعي له في الأمور التي سعى بها بنفسه-مخلصا- وعلى هذا لايكون دعاء الولد-مثلا- موسعا لدلالة الحصر لانفكاك جهة ما وقع عليه الحصر عن جهة نفع الولد لأبيه
بمثابة قولك:إنما أحب الله ورسوله ثم عقبت:وكذلك أحب أمي وأبي وزوجي,فدلالة الحصر واقعة على الحب العظيم الكامل من جميع الوجوه
وهذا مخدوش في حق الوالدين ونحوهما
أو يقال إن الحصر في الآية على إطلاقه على معنى ليس للعبد في خزانة ثوابه على جهة الاستحقاق إلا ما قدمه هو فلا يمنع دخول ما ملكه الله إياه من نفع غيره له
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص فإنه قال: "ليس للإنسان إِلَّا ما سعى" وهذا حق، فإنه إنما يستحق سعيه، فهو الذي يملكه ويستحقه كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو. وأما سعي غيره، فهو حق، وملك لذلك الغير، لا له، لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره، كما ينتفع الرجل بكسب غيره. انتهى
كما لو قلت:ليس لك إلا راتبك ثم أعطيته هدية,فالمعنى :ليس لك في الأصل إلا الراتب ,والهدية قبل أن أعطيك لي لا لك لأنك لم تعمل مقابلها,فملكتكها فكان استثناء لا يبطل العموم لأن مورده شيء آخر
وإنما يكون لك استحقاقاً ما يكون مقابل جهد منك لا فضلا مني
هذا إذا عددنا اللام في قوله تعالى"للإنسان" للاستحقاق,فإن كانت للملك كان الحصر مخصوصاً وقد تنازع العلماء في دلالة هذه الآية ,إذ ليس النفع الواصل للعبد مقصورا على ولد صالح يدعو له أو يتصدق عنه فيقال هذا من سعيه فيزول الإشكال بهذا,بل دلت النصوص على انتفاع العبد بامور أخرى كدعاء الملائكة وعموم المؤمنين كما في صلاة الجنازة وغير ذلك
-----
*"مع أن" ..هكذا لم أجد أحدا في عصر الاستشهاد بكلام العرب استعملها..
*الاعتبار في اللغة القياس والاتعاظ"فاعتبروا يا أولي الأبصار" ثم استعمله المتأخرون بمعنى الاعتداد
ففي جوازها في كلام العرب محل نظر وإن كان يستعملها عامة المتأخرين كلهم..نحويين وغيرهم..أكابر وأصاغر..
**يمكن تجاوز ما بعد النجمتين وهو المعلم بالأخضر المزرقّ ,وعدم قراءته دون إخلال بالمقصود من شرح عبارة ابن دقيق العيد