أبو حزم فيصل بن المبارك
:: عضو مؤسس ::
- إنضم
- 27 مارس 2008
- المشاركات
- 365
- التخصص
- أصول الفقه
- المدينة
- قسنطينة
- المذهب الفقهي
- حنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله جل وعلا : " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين "
تقدم الكلام فيما قبل على قوله تعالى : " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " .
وقوله جل وعلا حكاية عن إبليس : قال أنا خير منه . كان الله لما سأل إبليس وهو عالم لأنه جل وعلا أعلم بالموجب الذي بسببه امتنع إبليس من السجود قال له : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، وهو أعلم . فأجاب إبليس عليه لعائن الله بما كان يضمره من الكبر وكأنه اعترض على ربه وواجه ربه جل وعلا بأن تكليفه إياه أمر لا ينبغي ولا يصلح وخطأ ربه جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وجعل ذريعة له ومبرراً في زعمه الباطل لعد السجود قال : أنا خير منه كيف تأمرني أن أسجد لآدم وأنا أفضل من آدم والفاضل ليس من المعقول أن يؤمر بالسجود للمفضول فهذا التكليف ليس واقعاً موقعه . هذا قول اللعين لعنه الله أنا خير منه .
خير تستعمل استعمالين :
(أ) تستعمل اسماً للخير الذي هو ضد الشر وكثيراً ما تستعمل في المال كقوله : إن ترك خيراً أي مالاً.
(ب) وتستعمل صيغة تفضيل وهو المراد هنا فقوله أنا خير منه أصله أنا أخير منه أي أكثر خيراً منه لفضل عنصري على عنصره ولفظه : خير وشر جعلتهما العرب صيغتي تفضيل وحذفت همزتها لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك في الكافية ( وغالباً أغناهموا خير وشر ، عن قولهم أخير منه واشر ) .
قال إبليس اللعين أنا خير من آدم والذي هو فاضل والذي هو أكثر فضلاً وخيراً لا ينبغي أن يهضم ويؤمر بالسجود لمن هو دونه وهذا التكليف ليس واقعاً موقعه ، ولذا لا أمتثله فتكبر وتجبر وجعل تكليف ربه له واقعاً غير موقعه فباء بالخيبة والخسران نعوذ بالله جل وعلا .
قال إبليس أنا خير من آدم . ثم بين سبب الخيرية وقال : خلقتني من نار يعني أن عنصري اشرف من عنصره لن النار في زعمه أشرف من الطين لأن النار مضيئة نيرة طبيعتها الارتفاع خفيفة غير كثيفة ، وأن الطين منسفل كثيف مظلم ليس بمرتفع . هذا قوله في زعمه . وزعم أن الفرع تابع لعنصره في فقاس نفسه على عنصره الذي هو النار وقاس آدم على عنصره الذي هو الطين واستنتج من ذلك أنه خير من آدم لأن عنصره في زعمه خير من عنصره الذي هو السجود لآدم .
وأول من قاس قياساً فاسداً ورد فيه نصوص الله وأوامره ونواهيه هو إبليس اللعين فكل من رد نصوص الشرع الواضحة الصريحة الواضحة بقياسات باطلة عنادا وتكبرا فإمه إبليس لأنه أول من رد النصوص الصريحة بالمقاييس الكاذبة
وقياس إبليس هذا باطل من جهات عديدة :
الأول : منها أنه مخالف لنص أمر رب العالمين لأن الله يقول : أسجدوا لآدم ، وكل قياس خالف أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل .
وقد تقرر في علم الأصول أن كل قياس خالف نصاً من كتاب أو سنة فهو باطل ويقدح فبه بالقادح المسمى فساد الاعتبار ومخالفة القياس للنص تسمى فساد الاعتبار وتدل على بطلان القياس فهذا وجه من أوجه بطلانه لأنه مخالف للنص الصريح ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة .
الثاني : أن إبليس كاذب في أن النار خير من الطين لأن طبيعة الطين الرزانة والتؤدة والاصلاح والجمع تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيكها نخلة وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ورايت ما فيها من أنواع الثمار الجنية والروائح والأزهار والثمار عرفت قيمة الطين .
أما النار فطبيعتها الطيش والخفة يطير الشرر من هنا فيحرق ما هناك ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه والذي طبيعته الطيش والخفة والافساد والتفريق لا يكون خيراً من الذي طبيعته التؤدة والجمع والإصلاح تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيها نخلة .
فالطين خير من النار بأضعاف وذلك غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة فطاش وتمرد على ربه وخسر الخسران الأبدي وغلب على آدم عنصره الطيني لما وقع في الزلة رجع إلى السكينة والتؤدة والتواضع والاستغفار لربه حتى غفر له .
الثالث : أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين فشرف الأصل لا يدل على شرف الفرع ، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع وكم من أصل وضيع وفرعه رفيع .
وأعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس ويذمون الرأي ويقولون إن من قاس فقد اتبع إبليس لأنه أول من رد النصوص بالقياس .
وعن ابن سيرين رحمه الله : ( ما عبدت الشمس غلا بالمقاييس ) ويذكرون في كلام السلف ذم الرأي والقياس .
ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس الظاهرية وبالأخص أبو محمد ابن حزم عفا الله عنا وعنه فإنه حمل على أئمة الهدى رحمهم الله وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً وسخر بهم سخرية لا تليق به ولا بهم ، وجزم بأن كل من اجتهد في شيء لم يكن منصوصاً عن الله أو سنة نبيه فإنه ضال وأنه مشرع وحمل على الأئمة وسخر من قياساتهم وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسفهها وسخر من أهلها فتارة يسخر من أبي حنيفة رحمه الله وتارة من مالك وتارة من أحمد وتارة من الشافعي لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم .
ومن عرف الحق عرف أن الأئمة رحمهم الله أنهم أولى بالصواب من ابن حزم وأن ما شنع عليهم هم أولى بالصواب منه فيه وأنه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه وأعلم بالدين منه وأعمق فهماً لنصوص الكتاب والسنة منه وهذا باب كثير .
فابن حزم يقول لا يجوز اجتهاد كائناً ما كان ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا بنص من كتاب أو سنة أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال ، ويزعم أم ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال ويستدل بعشرات الآيات إن لم تكن مئات الآيات فلا تقل عن عشرات الآيات يقول "الله قال اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا ، ويقول " قل ان ضللت فانما أضل على نفسي وان اهتديت فيما يوحى إلى ربي فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس . ويقول "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " والمقاييس لم تكن مما أنزل الله ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون" والقياس لم يكن مما أنزل الله ويأتي بنحو هذا من الآيات في شيء كثير جداً .
ويقول ان القياس لا يفيد الا الظن والله يقول "ان الظن لا يغني من الحق شيئاً " وفي الحديث : اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث . ويقول : ان كل مالم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه .
ويقول ان الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها ، وبحديث ما سكت الله عنه فهو عفو . ويقول ان مالم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام وهو معفوا لا مؤاخذة فيه ، وهو باطل من جهات كثيرة ، منها أن ما يسكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال فنحن مثلاً وجب علينا صوم شهر واحد وهو رمضان وسكت الوحي عن وجوب شهر آخر فلم يجب علينا الا هذا ، وأن ما سكت عنه فهو عفو ووجبت علينا الصلوات وغيرها لم يجب علينا وان كان النبي في حديث ضمام بن ثعلبة قال : لا لما قال له الأعرابي ضمام هل على غيرها ، قال لا الا ان تطوع أما أنه توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد
ومن نظر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى وان الهدى مع الأئمة رحمهم الله ،
والذي يجب اعتقاده في الأئمة رحمهم الله كالامام مالك وأبي حنيفة رحمهم الله والامام أحمد والشافعي رحمة الله على الجميع أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه فلهم أجر اجتهادهم وأجر اصابتهم وأنه لا يخلو أحد من خطأ فلابد أن يكون بعضهم أخطأ في بعض ما اجتهد فيه فما أخطأوا فيه فهم مأجورون باجتهادهم معذورون في خطأهم رحمهم الله والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة رحمهم الله وسنلم بأطراف من هذا لأن هذا باب واسع لو تتبعناه لمكثنا فيه زمناً طويلاً ولكن نلم بالمامات بقدر الكفاية .
أولاً : ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً بل الوحي يسكت عن أشياء ولابد البتة من حلها ومن أمثلة ذلك مسألة العول .
فكما قال الفرضيون ان أول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فقال الزوج : يا أمير المؤمنين هذه تركة زوجتي ولم تترك ولداً والله يقول في محكم كتابه :" ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد " فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق ، فقالت الأختان : ياأمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان والله يقول : " فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق ، فقال عمر رضي الله عنه : ويلك يا عمر والله ان أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان ، وان أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف ونقول يا ابن حزم كيف تسكت عن هذا ويكون هذا عفواً والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما فهذا لا يمكن أن يكون عفواً ولابد من حل فلا نقول لهم تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر فلابد من الحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وحل مقعول بالاجتهاد فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله عن العول لمثل هذا ،
فقال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : ياأمير المؤمنين أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير ديناً وتركت ستة دنانير فقط ماذا كنت فاعلاً ؟
قال : اجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من السبعة قال كذلك فافعل ، أصل فريضتها من ستة لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة مخرج النصف ومخرج الثلث متبايناً فنضرب إثنين في ثلاثة بستة ثم نجعل نقطة زائدة وهي المسمى بالعول فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء ، وقال للزوج حفك نصف الستة وهي الثلاثة فخذ الثلاثة من سبعة ، وبقي من السبعة أربعة فقال للأختين لكما الثلثان من الستة وهما أربعة فخذاها من سبعة ، فصار النقص على كل واحد من الوارثين ولم يضيع نصاً من نصوص القرآن الكريم .
وكان ابن حزم في هذه المسألة يخطئ جميع الصحابة .
ويقول ابن العباس وعامة الصحابة على غلط وان هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز وأن الحق مع ابن عباس وحده الذي خالف عامة الصحابة في العول .
وقال الذي نعلم ان الله لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين ، فرأي ابن عباس أن ننظر في الورثة اذا كان أحدهما أقوى سبباً نقدمه ونكمل له نصيبه ونجعل النقص على الأضعف ، فابن عباس في مثل هذا يقول ابن الزوج يعطى نصفاً كاملاً لأن الزوج لا يحجبه الأبوان ولا يحجبه الأولاد بخلاف الأختين لأنهما أضعف سبباً منه لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب ونعطي للأختين نصفاً وهذا تلاعب بكتاب الله ، الله يقول :" فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان " وهو يقول فلهما النصف فهذا عمل بما يناقض القرآن مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس يقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية وانما سميت المنبرية لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفتى فيها وهو على المنبر أثناء خطبته لأنه افتتح خطبته على المنبر وقال : الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى واليه المآب والرجعي ، فسمع قائلاً يقول : ما تقولون فيمن هلك عن زوجة وأبوين وابنتين ؟ فقال علي رضي الله عنه : صار ثمنها تسعاً ، ومضى في خطبته .
وقوله : صار ثمنها تسعاً لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة ، الابنتان لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لأن السدسين بثلث وتبقى الزوجة تعول لها بالثمن والفريضة من أربعة وعشرين وثمنها ثلاثة يعال فيها بثمن الزوجة وثمن الأربعة والعشرين ثلاثة واذا ضم الثمن الذي عالت به الفريضة إلى اصل الفريضة أي اذا ضم الثمن الذي هو ثلاثة فريضة الزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة صارت سبعة وعشرين . والثلاثة من السبعة والعشرين تسعها ومن الأربعة والعشرين ثمنها ، فهذه لو قلنا لابن حزم أيهما يحجب هل الابنتان يحجبان لا والله ، هل الأبوان يحجبان لا والله هل الزوجة تحجب لا والله ليس فيهم من يحجبه أحد وكلهم أهل فروض منصوصة في كتاب الله ولا يحجب أحد منهم أبداً فبهذا يبطل قوله ان من هو أضعف سبباً فانه يحجب ويقدم عليه غيره .
ثم لتعلموا أن الحقيقة الفاصلة في هذا أنه ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم كثير من الآثار المستفيضة في ذم الرأي والقياس . وأجمع الصحابة والتابعون على العمل بالقياس واستنباطه ما سكت عنه مما نطق به الوحي ، هذا أمر لا نزاع فيه . فمن جمد على النصوص ولم يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به فقد ضل وأضل .
ومن هذا النوع ما أجمع عليه جميع المسلمين حتى سلف ابن حزم وهو داوود بن علي الظاهري كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ويقول له القياس الجلي وهو المعروف عند الفقهاء بالقياس الجلي والغاء الفارق ويسمى نفي الفارق وهو نوع من تنفيح المناط ، فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنطوق
وان قول ابن حزم : انه مسكوت عنه لم يتعرض له أنه كذب محض وافتراء على الشرع وأن الشرع لم يسكت عنه ،
وقوله تعالى :" فلا تقل لهما أف " يقول ابن حزم ان هذه الآية ، ناطقة بالنهي عن التأفيف ولكنها ساكتة عن حكم الضرب ،ونحن نقول : لا والله لما نهى عن التأفيف وهو أخف الأذى فقد دلت هذه الآية من باب أولى على أن ضرب الوالدين أشد حرمة وان الآية غير ساكتة عنها بل نبهت على الأكبر بما هو أصغر منه فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذية من الضرب لم تسكت عن الضرب وتقول : ان قوله تعالى :" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ان هذه الآية ليست ساكتة عن عمل مثقال جيل أحد فلا نقول نصت على الذرة وما فوق الذرة فهو مسكوت عنه فلا يؤخذ من الآية فهي ساكتة عنه بل نقول ان الآية غير ساكتة عنه وان ذلك المسكوت (عنه) يلحق بذلك المنطوق .
وكذلك قوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم" من جاء بأربعة عدول لا نقول أربعة عدول مسكوت عنها بل نقول ان الآية التي نصت على قبول شهادة العدلين دالة على قبول شهادة أربعة عدول ونقول : ان قوله تعالى :"ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " لا نقول كما يقول ابن حزم ساكنة عن احراق مال اليتيم واغراقه لأنها نصت على حرمة أكله فقط ، بل نقول : ان الآية التي نهت عن أكله دلت على حرمة اغراقه واحراقه بالنار لأن الجميع اتلاف .
ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل ان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البول في الماء الراكد يقول ابن حزم : لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه لأن النبي لم ينه عن هذا وانما قال : لا يبولن أحدكم في الماء الراكد في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ولم يقل لا يبولن أحدكم في اناء ثم يصبه فيه فهذا لا يعقل أيعقل أحد أن الشرع الكريم يمنع من أن يبول انسان بقطرات قليلة أقل من وزن ربع كيل ثم انه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات بولاً يعد بمئات الكيلوات ثم يصبها في الماء وان هذا جائز .
وأيضاً في الحديث : لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان فألحق به الفقهاء اذ كان في حزن شديد مفرط يذهل عقله ، أو فرح شديد مفرط يدهش عقله أو في ع طش شديد مفرط يدهش عقله أو في جوع شديد يدهش عقله ، ونحو ذلك من مشوشات الفكر التي هي أعظم من الغضب فليس في المسلمين من يعقل أن يقال للقاضي أحكم بين الناس وأنت في غاية تشويش الفكر بالجوع والعطش المفرطين أو الحزن والسرور المفرطين ، او الحقن والحقب المفرطين والحقن مدافعة البول والحقب مدافعة الغائط ، والانسان اذا كان يدافع البول أو الغائط مدافعة شديدة كان مشوش الفكر مشغول الخاطر لا يمكن أن يتعقل حجج الخصوم ، ومثل هذا ، لذا قال العلماء لا يجوز للقاضي أن يحكم وهو مشوش الفكر .
فنعلم أن قول ابن حزم : انهم جاؤوا بتشريع جديد أنه كذب وان حديث : لا يقضين حكم بين اثنين وهو عصيان يدل على أن من كان فكره مشوشاً تشويشاً أشد من الغضب أولى بالمنع من هذا الحكم ، وكذلك نهيه عن التضحية بالشاة العوراء ، لا نقول : ان العلماء لما نهوا عن التضحية بالشاة العمياء . هذا مما لا يقوله عاقل
وكذلك قال الله :" والذين يرمون المحصنات " ولم يصرح في الآية الا أن يكون القاذف ذكر والمقذوفة أنثى فلو قذفت أنثى ذكراً أو قذف لا مؤاخذة فيه لأن الله انما نص على قذف الذكور بالأناث لأنه قال :" والذين يرمون المحصنات " وما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال : المحصنات نعت للفروج ،والذين يرمون الفروج المحصنات فيشمل الذكور والأناث يرد عليه أن المحصنات في القرآن لم تأت قط للفروج وانما جاءت للنساء وكيف يأتي ذلك في قوله : ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات . هذا مما لا يعقل .
وكذلك نص الله جل وعلا على أن المبتوتة اذا نكحت زوجاً غير زوجها الأول نص على أنها ان طلقها الزوج الأخير طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه الا بعد زوج ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فانه يجوز للأول أن ينكحها لأنها حلت بنكاح الثاني ، والله انما صرح في هذه السورة بنص واحد وهو أن يكون الزوج الذي حللها انما طلقها لأنه قال في تطليق الأول ، فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره .
ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها ، فان طلقها فلا جناح عليهما أي على الزوجة التي كانت حراماً والزوج الذي كانت حراماً عليه أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود الله ، فنص على طلاق المحلل خاصة فان طلقها أرأيتم لو حللها وجامعها مائة مرة حتى حلت وكانت كماء المزن ثم مات قبل أن يطلقها أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر كالاعسار بنفقة أو غير ذلك من أسباب الفسخ أيقول مسلم هذه لا تحل للأول لأن الله ما نص الا على قوله فان طلقها فان مات لم تحل لأن الموت ليس بطلاق ، هذا مما لا يقوله عاقل . وأمثال ذلك كثيرة جداً . فنحن نقول ان هذا الذي يقول ابن حزم ان الوحي سكت عنه ، ان الوحي لم يسكت عنه وانما أشار إليه لتنبيهه ببعضه على بعضه فالغضب يدل على تشويش الفكر والمحصنات لا فرق بين المحصنات والمحصنين ، وقوله فان طلقها لا فرق بين مالو طلقها أو مات عنها فبعد أن جامعها وفارقها تحل للأول سواء كان الفراق بالطلاق المنصوص في القرآن أو بسبب آخر كالموت والفسخ
وهذا مما لا ينازع فيه عاقل وان نازع فيه ابن حزم
ثم ان ابن حزم يسخر من الامام أبي حنيفه رحمه الله لأن الامام أبا حنيفة رحمه الله يقول : ان التشهد الأخير يخرج الانسان به من الصلاة بكل مناف للصلاة .
وروي عنه : حتى أنه لو انتقض وضوءه فضرط انه خرج من الصلاة لأن الضراط مناف لها فجعل ابن حزم يسخر منه فيقول : ألا ترون قياس الضراط على السلام عليكم قياساً فاسداً فليس في الدنيا قياس فاسد ويسخر من الامام مالك في مسائل كثيرة ويقول انه يقيس قياسات الألغاز لأن مالكاً رحمه الله جعل أقل الصداق ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة قياساً على السرقة بجامع أن في كل واحد منهما استباحة عضو في الجملة لأن النكاح فيه استباحة الفرج بالوطئ والقطع فيه استباحة اليد بالقطع
فابن حزم يسخر من مالك ويقول هذه ألغاز ومحاجاة بعيدة من الشرع وتشريعات باطلة ، وأمثال هذا منه كثيرة ونحن نضرب مثلاً فانه من أشد ما حمل به الأئمة رحمهم الله مسألة حديث تحريم ربا الفضل لأن النبيصلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال : الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى .
فابن حزم يقول : ليس في الدنيا يحرم فيه ربا الفضل الا هذا ويقول الدليل على أنهم مشرعون وان أقوالهم كلها كاذبة ان بعضهم كالشافعي يقول علة الربا في البر الطعم ويقيس كل مطعوم على البر فيقول كل المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم وأبو حنيفة وأحمد يقولان علة الربا الكيل ويقولان كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر فيحرمان الربا في النورة والاشنان وكل مكيل فيقول فيه ابن حزم هذا يقول العلة الطعم ويلحق أشياء وهذا يقول العلة الكيل ويلحق أشياء أخرى . وكل منهم يكذب الآخر فهذه كلها قياسات متناقضة والأقوال المتكاذبة والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من عند الله وأمثال هذا كثيرة
ونحن نضرب مثلاً لهذه المسألة ونقول ان الأئمة رضي الله عنهم أبا حنيفة وأحمد والشافعي رحمهم الله الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من ابن حزم ،
ونقول لابن حزم مثلاً : أنت قلت انك مع النصوص في الظاهر وقلت :
ألم تعلموا أني ظاهري واني ***** على ما بدا حتى يقوم دليل
فهذا الامام الشافعي الذي قال ان علة الربا في البر الطعم استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم وهو حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الطعام بالطعام مثلاً بمثل . الحديث .
فالامام الشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم
وكذلك الامام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى اللذان قالا ان علة الربا في البر الكيل استدلا كذلك بالحديث الصحيح ، وكذلك الميزان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال : وكذلك الميزان .
والتحقيق أن وكذلك الموزونات مثل المكيلات ، فجعل معرفة القدر علة للربا وقوله : وكذلك الميزان ثابت في الصحيحين . وفي حديث حيان بن عبيد الله الذي أخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال انه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن أبي سعيد الخدري لما ذكر الستة التي يحرم فيها الربا قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك كل ما يكال ويوزن .
وهذا الحديث حاول ابن حزم تضعيفه من ثلاث جهات وهذا الحديث ناقشناه في الكتاب الذي كتبنا على القرآن مناقشة وافية ، والتحقيق أن حيان بن عبيد الله ليس بمجروح وان زعم هو أن أبامجلز الذي روى عنه الحديث لم يلق ابن عباس أنه كذب وأنه أدرك ابن عباس وأبا سعيد الخدري رحمهما الله .
وان الحديث لا يقل عن درجة القبول بوجه من الوجوه عند المناقشة الصحيحة كما بيناه في الكتاب الذي كتبناه في القرآن وهذا الحديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل ما يكال أو يوزن وهذا أقرب لظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم من ابن حزم الذي يسخر من الامام أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله ،
وليس قصدنا في هذا الكلام أن نتكلم عن ابن حزم لأنه رجل من علماء المسلمين وفحل من فحول العلماء الا أن له زلات ولا يخلو أحد من خطأ
ومقصودنا أن نبين لمن نظر في كتب ابن حزم فقط أن حملاته على الأئمة أن الغلط معه فيها لا معهم وأنهم أولى بالصواب مته وأعلم منه وأكثر علماً وورعاً منه فهم لا يحملون على أحد ولا يعيبون أحداً .
والحاصل أن الحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه وأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل . والله جل وعلا قد بين نظائر في القرآن يعلم بها الحاق النظير والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة .
فمن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال له : أرأيت لو تمضمضت فهذا اشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قياس (القبلة على المضمضة) بجامع أن القبلة مقدمة الجماع والمضمضة مقدمة للشرب فكل منهما مقدمة الافطار وليس بافطار ومحل كون القبلة كالمضمضة اذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء أما اذا كانت القبلة تخرج منه شيئاً فهو كالذي اذا تمضمض ابتلغ شيئاً من الماء فحكمه حكمه .
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ثابتة متعددة في الصحيحين أنه سأله رجل مرة وامرأة مرة أنهما سألاه عن دين يقضيانه عن ميت لهما ، مرة تقول مات أبي ومرة تقول أمي وكذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى فهو تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على قياس دين الله على دين الآدمي بجامع أن الكل حق مطالب به الانسان وأنه يقضي عنه بدفعه لمستحقه . وأمثال ذلك كثيرة .
ومن أصرحها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل ، كان الرجل أبيض وامرأة بيضاء فولدت له غلاماً أسود فأصاب الرجل فزعاً من سواد الغلام وظن أنها زنت برجل أسود وجاءت بهذا الغلام فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم منزعجاً وأخبره بأنها جاءت بولد أسود وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللعان زعماً أن هذا الولد من زان أسود وأنه ليس ولده لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من ابل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال حمر . قال هل فيها من أورق والأورق المتصف بلون الورقة والورقة يكون لوناً كحمام الحرم يعني سواد مع بياض يكون في الابل . قال الرجل ان فيها لورق . قال ومن أين جاءتها تلك الورقة ؟ آباؤها حمر وأمهاتها حمر فمن أين جاءتها تلك الورقة ؟ قال : لعل عرقاً نزعها . قال له وهذا الولد لعل عرقاً نزعه . فاقتنع الأعرابي وهذا الحاق نظير بنظير .
وفي الجملة فنظير الحق حق ونظير الباطل باطل ،وهذا مما لا شك فيه ، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأقيسة التي ذكرنا ومنه قياس فاسد ، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة وبعض الأقيسة الصحيحة .
ومن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى :" ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقال له : كن فيكون . لما قال اليهود ان عيسى لا يمكن أن تلده مريم الا من رجل زنا بها فقالوا لها يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً وهذا الولد لابد أن يكون له والد وهذا الوالد رجل فجرتي معه وزنيت به " الله جل وعلا قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وجد ولم يكن له أم ولا أب خلق ولم يكن له أم ولا أب ، فالذي خلق آدم ولم يكن أب ولا أم فهو قادر على أن يخلق عيسى من أم ولم يكن له أب ، كما خلق حواء من ضلع رجل ، فالله جل وعلا جعل خلق الانسان قسمة رباعية .
بعض خلقه لا من ذكر ولا أنثى وهو آدم ، وبعض خلقه من أنثى دون ذكر وهو عيسى بن مريم وبعض خلقه من ذكر دون أنثى وهي حواء لأن الله يقول : " خلقكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها " .
والقسم الرابع خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى بآدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته . وأمثال هذا كثيرة .
وكذلك قاس الموجودين زمن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم الماضية وقال لهم " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم " ثم بين الحاق النظير بالنظير فقال : وللكافرين أمثالها ، كأن الموجودين زمن النبي فرع والكفار المتقدمون أصل ، والحكم الذي يهددون به العذاب والهلاك والعلة الجامعة تكذيب الرسل والتمرد على رب العالمين .
وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك ما يسمونه قياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة يكثر في القرآن جداً كما في قوله جل وعلا : " ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحيي الموتى " فقاس احياء الموتى الذي ينكره منكروا البعث على أحياء الأرض المشاهد لأن كلا منهما احياء ، وهذا الاحياء للموجود يدل على قدرة باهرة يقدر بها من اتصف بها على احياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها ، وكما استدل جل وعلا بقياس الأولى على الأدنى واستدل بأن من خلق السموات والأرض لا يعجز عن خلق الانسان الصغير الحقير بعد الموت كما قال :" أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " الآية .
وقال : " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر " .
وقال جل وعلا : " أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى " وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال :" ولقد علمتم النشأة الأولى" والايجاد الأول فهلا قستم عليه النشأة الأخرى والايجاد الأخير وعلمتم أن القادر على الايجاد الأول قادر على الايجاد الثاني ، كما قال :" قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وأمثال هذا كثيرة جداً .
أما القياس الفاسد الذي يكون مخالفاً للنصوص كقياس ابليس لعنه الله وكالأقيسة المخالفة للنصوص وكأقيسة الشبه المبنية على الفساد فان الكفار جاؤوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً ومثله باطل كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) فأثبتوا السرقة على أخ يوسف لأن يوسف قد سرق قبله والأخ شبيه بالأخ فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال وأن هذا سرق كما سرق ذلك .
وهذا قياس شبه باطل ، وهذا النوع من القياس كقياسات ابليس الباطلة والكفار لعنهم الله كذبوا جميع الرسل بقياسات شبه باطلة لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له أنت بشر وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر ولا نقبل أن تكون رسولاً لرب العالمين وأنت تأكل كما نأكل وتشرب مما نشرب وتمشي في الأسواق التي نمشي فيها ونص الله بأن هذا منع كل أمة في قوله :" وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر .
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ردوا عليهم هذا القياس ورده عليهم في آيات لما قالوا للرسل : (إن أنتم إلا بشر مثلنا )، فأجابهم الرسل قالوا : ما نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم عدم تفاوتنا في فضل الله كما قال جل وعلا : " قالوا أبشر يهدوننا ، لئن أطعتم بشراً مثلكم انكم اذاً لخاسرون . وقالوا فيه يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . وقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه انا اذاً لفي ضلال وسعر " وهذا كثير في القرأن وهذه الأقيسة فاسدة .
والحاصل أن القياس منه صحيح ، ومنه فاسد .
والصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون وعامة المسلمين ،وأحكام الصحابة بالقياس لا يكاد أحد يحصيها .
فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن المجتهدين يختلفون في اجتهادهم وكلهم لا اثم عليه ولا حرج عليه لأنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة . هذا نص صحيح صريح سمعه الصحابة بآذانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم راحوا من المدينة إلى ديار بني قريظة وأدركتهم صلاة العصر في الطريق فاختلفوا في فنهم هذا الحديث وكل اجتهد بحسب ما أدى إليه فهمه فجماعة قالوا ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا : الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا : الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قال لنا أتركوها إلى يوم القيامة تركناها إلى بني قريظة .
وجاء النبي ولم يصلوا واجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وهم في خلاف بين مشرق ومغرب لأن من صلى ومن لم يصلي مختلفاً ، وهو صلى الله عليه وسلم فررهم جميعاً ولم يخطئ أحداً منهم ولو ك ان واحد منهم فعل غير صواب أو حراماً لما أقره الرسول عليه لأنه لا يقر على باطل ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه .
وثبت في صحيح البخاري عن الحسن البصري مضمونه ومعناه أنه كان يقول : لولا أنه من كتاب الله أشققت على المجتهدين ، وهي قوله تعالى :" وداوود وسليمان اذ يحكمان في الحرث لأن الله جل وعلا صرح في الآية بأنهما حكما حيث قال انه يحكمان بألف الأثنين الواقعة على داوود وسليمان ، ثم قال ففهمناها سليمان ولم يذكر شيئاً عن داوود فعلمنا أن داوود لم يفهمها لأنه لو فهمها لما اقتصر على ذكره ولم يكن للاقتصار على ذكر سليمان فائدة مع أنهما فهماها ولو كان هذا وحياً من الله لما فهمها أحدهما دون الآخر لأن الوحي أمر لازم للجميع ودل على أنهما اجتهدوا وأن داوود لم يصب في اجتهاده وأن سليمان أصاب في اجتهاده والله أثنى على كل منهما ولم يؤنب داوود بل قال بعده : وكلا آتينا حكماً وعلماً .
وقد ثبت في الصحيحين ما يستأنس به لأنه ثبت في الصحيحين أن داوود عليه السلام في زمانه جاءته امرأتان نفستا وجاء الذئب واختطف ولد واحدة منهن وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى هذا ولدي واختصمتا وتحاكمتا إلى داوود فقضى به للكبرى اجتهاداً منه لأمارات ظهرت له أو لشيء في شرعه يقتضي ظاهره ذلك الاجتهاد .
فرجعتا إلى سليمان ، فلما رجعتا إلى سليمان قال : كل واحدة منكما تدعيه هاتوا بالسكين أشقه بينهن نصفين فأعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه . وكان أبو هريرة يقةل : ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم ما كنا نقول لها الا المدية ، فلما قال انه يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى وأدركتها رأفتها للولد فقالت له لا . يرحمك الله هو ابنها وأنا لاحق لي فيه . وكانت الكبرى راضية بأن يشق لتساويها أختها في المصيبة فعلم سليمان أن الولد للصغرى وحكم به للصغرى . وذلك ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هذه القصة عن داوود وسليمان إلا أنه في تاريخ ابن عساكر والله أعلم بصحتها وبعدم صحتها الا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة .
والقصة التي ذكرها ابن عساكر في تاريخه أنه كان أربعة من أشراف بني اسرائيل راودا امرأة جميلة من بني اسرائيل عن نفسها وكانت بارعة الجمال فمنعتهم وحاولوا أن يصلوا إليها فامتنعت فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها ، فجاءوا وشهدوا عند داوود أن عندها كلباً علمته الزنا وأنها تزني مع كلبها وكان مثل هذا عند داوود يقتضي حكم الرجم فدعا داوود بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بالكب فرجمها داوود ، قالوا وكان سليمان اذا ذاك صغيراً فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شرطاً قال فلان وفلان جعلهم كالشرطين وأخذ قوماً وجعلهم شهوداً وجاءوا يشهدون فقام وجعل رجلاً كأنه امرأة وقالوا نشهد أن هذا زنت مع كلبها ثم قال سليمان للسياف والذين جعلهم كالشرط خذوا كل واحد منهم وفرقوهم وائتوني بهم واحداً واحداً ، فجاءوه بالأول وقال له : ما تقول في شهادتك ؟ قال : أقول انها زنت بكلبها . قال له : وما لون الكلب ؟ قال : كان لون الكلب أحمر . ثم دعا بالثاني وقال : ما لون الكلب ؟ قال : كان لون الكلب أسود ، ثم دعا بالآخر فقال : أغبر ، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب فعلم أنهم كذبة فقال : اقتلوهم لأنهم قتلوها وسمع داوود الخبر ف أرسل للشهود حالاً وفرقهم وجاؤه واحداً واحداً فسألهم واختلفوا في لون الكلب فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة فقتلهم قصاصاً . هكذا قال والله أعلم .
وعلى كل حال فالقياس هو قسمان صحيح وقياس فاسد
فما جاء به الظاهرية من ذم القياس والسلف فهو ينطبق على القياس الفاسد ، والصحابة كانوا باجماع على القياس الصحيح .
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاث نفر يختصمون في غلام كل يقول هو ابني فقال : اقترعوا على الغلام فوقعت القرعة على واحد منهما فقال للذي جاء الغلام في نصيبه قال له : خذ الغلام الغلام وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية ثلث دية الغلام . قالوا : فلما بلغ قضاؤه النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قضاء علي رضي الله عنه حتى بدت نواجذه .
ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له : بم تقضي قال بكتاب الله قال وان لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فان لم تجد ؟ قال : اجتهد رأيي ، قال الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الحديث يقول ابن حزم أنه باطل لا أصل له لأنه رواه الحارث بن عمر وابن أخ المغيرة عن ناس من حمص مجهولين ، فهي رواية مجهول عن مجاهيل والاستدلال به ضلال .
وقال ابن كثير في مقدمة كتاب تفسيره أنه رواه أصحاب السنن باسناد جيد وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن أسيد عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل والاسناد إلى هنا صحيح لا شك في صحته لأن رجاله معروفون ، الا أن البلية من قبل عبادة بن أسيد والظاهر أن الذي رواه عن عبادة بن أسيد هو محمد بن حسان المصلوب والذي صلبه أبو جعفر المنصور في الزندقة وهو كذاب لا يحتج به فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له الا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو وعن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص .
والذين قالوا ان الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين :
أحدهما : أن الحارث بن عمر وثقه ابن حبان وان كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها كحديث مقبول .
وكذلك قالوا : ان علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث خلفاً عن سلف وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الاسناد وكم من حديث يكتفي بصحته عن الاسناد يكتفي بعمل العلماء به في أقطار الدنيا لأن هذه الأمة اذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلاً واكتفى بذلك عن الاسناد.
وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المذموم والقياس الصحيح هو الحاق النظير بالنظير على وجه صحيح لا شك في صحته .
والصحابة كذلك يلحقون المسكوت بالمنطوق به وهذا كثير وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة ونرجوا الله جل وعلا أن يوفقنا لما يرضيه وأن يختم لنا بالسعادة .
اللهم أختم بالسعادة آجالنا وأختم بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا . اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما عطيت وقنا شر ما قضيت فانك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا . وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي اليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر . اللهم فالق الاصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ، أقض عنا الدين واغننا من الفقر وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا في سبيلك ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وأن نعمل صالحاً ترضاه ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المذكرة الأصولية على روضة الناظر وجنة المناظر للإمام النظار الأصولي محمد الأمين الشنقيطي-رحمة الله عليه-
الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة .
توزيع مكتبة العلم بجدة .
الطبعة الرابعة :1418ه-1998م.
يقول الله جل وعلا : " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين "
تقدم الكلام فيما قبل على قوله تعالى : " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " .
وقوله جل وعلا حكاية عن إبليس : قال أنا خير منه . كان الله لما سأل إبليس وهو عالم لأنه جل وعلا أعلم بالموجب الذي بسببه امتنع إبليس من السجود قال له : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، وهو أعلم . فأجاب إبليس عليه لعائن الله بما كان يضمره من الكبر وكأنه اعترض على ربه وواجه ربه جل وعلا بأن تكليفه إياه أمر لا ينبغي ولا يصلح وخطأ ربه جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وجعل ذريعة له ومبرراً في زعمه الباطل لعد السجود قال : أنا خير منه كيف تأمرني أن أسجد لآدم وأنا أفضل من آدم والفاضل ليس من المعقول أن يؤمر بالسجود للمفضول فهذا التكليف ليس واقعاً موقعه . هذا قول اللعين لعنه الله أنا خير منه .
خير تستعمل استعمالين :
(أ) تستعمل اسماً للخير الذي هو ضد الشر وكثيراً ما تستعمل في المال كقوله : إن ترك خيراً أي مالاً.
(ب) وتستعمل صيغة تفضيل وهو المراد هنا فقوله أنا خير منه أصله أنا أخير منه أي أكثر خيراً منه لفضل عنصري على عنصره ولفظه : خير وشر جعلتهما العرب صيغتي تفضيل وحذفت همزتها لكثرة الاستعمال كما قال ابن مالك في الكافية ( وغالباً أغناهموا خير وشر ، عن قولهم أخير منه واشر ) .
قال إبليس اللعين أنا خير من آدم والذي هو فاضل والذي هو أكثر فضلاً وخيراً لا ينبغي أن يهضم ويؤمر بالسجود لمن هو دونه وهذا التكليف ليس واقعاً موقعه ، ولذا لا أمتثله فتكبر وتجبر وجعل تكليف ربه له واقعاً غير موقعه فباء بالخيبة والخسران نعوذ بالله جل وعلا .
قال إبليس أنا خير من آدم . ثم بين سبب الخيرية وقال : خلقتني من نار يعني أن عنصري اشرف من عنصره لن النار في زعمه أشرف من الطين لأن النار مضيئة نيرة طبيعتها الارتفاع خفيفة غير كثيفة ، وأن الطين منسفل كثيف مظلم ليس بمرتفع . هذا قوله في زعمه . وزعم أن الفرع تابع لعنصره في فقاس نفسه على عنصره الذي هو النار وقاس آدم على عنصره الذي هو الطين واستنتج من ذلك أنه خير من آدم لأن عنصره في زعمه خير من عنصره الذي هو السجود لآدم .
وأول من قاس قياساً فاسداً ورد فيه نصوص الله وأوامره ونواهيه هو إبليس اللعين فكل من رد نصوص الشرع الواضحة الصريحة الواضحة بقياسات باطلة عنادا وتكبرا فإمه إبليس لأنه أول من رد النصوص الصريحة بالمقاييس الكاذبة
وقياس إبليس هذا باطل من جهات عديدة :
الأول : منها أنه مخالف لنص أمر رب العالمين لأن الله يقول : أسجدوا لآدم ، وكل قياس خالف أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل .
وقد تقرر في علم الأصول أن كل قياس خالف نصاً من كتاب أو سنة فهو باطل ويقدح فبه بالقادح المسمى فساد الاعتبار ومخالفة القياس للنص تسمى فساد الاعتبار وتدل على بطلان القياس فهذا وجه من أوجه بطلانه لأنه مخالف للنص الصريح ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة .
الثاني : أن إبليس كاذب في أن النار خير من الطين لأن طبيعة الطين الرزانة والتؤدة والاصلاح والجمع تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيكها نخلة وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ورايت ما فيها من أنواع الثمار الجنية والروائح والأزهار والثمار عرفت قيمة الطين .
أما النار فطبيعتها الطيش والخفة يطير الشرر من هنا فيحرق ما هناك ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه والذي طبيعته الطيش والخفة والافساد والتفريق لا يكون خيراً من الذي طبيعته التؤدة والجمع والإصلاح تودعه الحبة فيعطيها سنبلة وتودعه النواة فيعطيها نخلة .
فالطين خير من النار بأضعاف وذلك غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة فطاش وتمرد على ربه وخسر الخسران الأبدي وغلب على آدم عنصره الطيني لما وقع في الزلة رجع إلى السكينة والتؤدة والتواضع والاستغفار لربه حتى غفر له .
الثالث : أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين فشرف الأصل لا يدل على شرف الفرع ، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع وكم من أصل وضيع وفرعه رفيع .
وأعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس ويذمون الرأي ويقولون إن من قاس فقد اتبع إبليس لأنه أول من رد النصوص بالقياس .
وعن ابن سيرين رحمه الله : ( ما عبدت الشمس غلا بالمقاييس ) ويذكرون في كلام السلف ذم الرأي والقياس .
ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس الظاهرية وبالأخص أبو محمد ابن حزم عفا الله عنا وعنه فإنه حمل على أئمة الهدى رحمهم الله وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً وسخر بهم سخرية لا تليق به ولا بهم ، وجزم بأن كل من اجتهد في شيء لم يكن منصوصاً عن الله أو سنة نبيه فإنه ضال وأنه مشرع وحمل على الأئمة وسخر من قياساتهم وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسفهها وسخر من أهلها فتارة يسخر من أبي حنيفة رحمه الله وتارة من مالك وتارة من أحمد وتارة من الشافعي لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم .
ومن عرف الحق عرف أن الأئمة رحمهم الله أنهم أولى بالصواب من ابن حزم وأن ما شنع عليهم هم أولى بالصواب منه فيه وأنه هو حمل عليهم وهم أولى بالخير منه وأعلم بالدين منه وأعمق فهماً لنصوص الكتاب والسنة منه وهذا باب كثير .
فابن حزم يقول لا يجوز اجتهاد كائناً ما كان ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا بنص من كتاب أو سنة أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال ، ويزعم أم ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال ويستدل بعشرات الآيات إن لم تكن مئات الآيات فلا تقل عن عشرات الآيات يقول "الله قال اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا ، ويقول " قل ان ضللت فانما أضل على نفسي وان اهتديت فيما يوحى إلى ربي فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس . ويقول "وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " والمقاييس لم تكن مما أنزل الله ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون" والقياس لم يكن مما أنزل الله ويأتي بنحو هذا من الآيات في شيء كثير جداً .
ويقول ان القياس لا يفيد الا الظن والله يقول "ان الظن لا يغني من الحق شيئاً " وفي الحديث : اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث . ويقول : ان كل مالم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه .
ويقول ان الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها ، وبحديث ما سكت الله عنه فهو عفو . ويقول ان مالم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام وهو معفوا لا مؤاخذة فيه ، وهو باطل من جهات كثيرة ، منها أن ما يسكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال فنحن مثلاً وجب علينا صوم شهر واحد وهو رمضان وسكت الوحي عن وجوب شهر آخر فلم يجب علينا الا هذا ، وأن ما سكت عنه فهو عفو ووجبت علينا الصلوات وغيرها لم يجب علينا وان كان النبي في حديث ضمام بن ثعلبة قال : لا لما قال له الأعرابي ضمام هل على غيرها ، قال لا الا ان تطوع أما أنه توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد
ومن نظر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى وان الهدى مع الأئمة رحمهم الله ،
والذي يجب اعتقاده في الأئمة رحمهم الله كالامام مالك وأبي حنيفة رحمهم الله والامام أحمد والشافعي رحمة الله على الجميع أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه فلهم أجر اجتهادهم وأجر اصابتهم وأنه لا يخلو أحد من خطأ فلابد أن يكون بعضهم أخطأ في بعض ما اجتهد فيه فما أخطأوا فيه فهم مأجورون باجتهادهم معذورون في خطأهم رحمهم الله والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة رحمهم الله وسنلم بأطراف من هذا لأن هذا باب واسع لو تتبعناه لمكثنا فيه زمناً طويلاً ولكن نلم بالمامات بقدر الكفاية .
أولاً : ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً بل الوحي يسكت عن أشياء ولابد البتة من حلها ومن أمثلة ذلك مسألة العول .
فكما قال الفرضيون ان أول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فقال الزوج : يا أمير المؤمنين هذه تركة زوجتي ولم تترك ولداً والله يقول في محكم كتابه :" ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد " فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق ، فقالت الأختان : ياأمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان والله يقول : " فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق ، فقال عمر رضي الله عنه : ويلك يا عمر والله ان أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان ، وان أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف ونقول يا ابن حزم كيف تسكت عن هذا ويكون هذا عفواً والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما فهذا لا يمكن أن يكون عفواً ولابد من حل فلا نقول لهم تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر فلابد من الحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وحل مقعول بالاجتهاد فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله عن العول لمثل هذا ،
فقال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : ياأمير المؤمنين أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير ديناً وتركت ستة دنانير فقط ماذا كنت فاعلاً ؟
قال : اجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من السبعة قال كذلك فافعل ، أصل فريضتها من ستة لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة مخرج النصف ومخرج الثلث متبايناً فنضرب إثنين في ثلاثة بستة ثم نجعل نقطة زائدة وهي المسمى بالعول فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء ، وقال للزوج حفك نصف الستة وهي الثلاثة فخذ الثلاثة من سبعة ، وبقي من السبعة أربعة فقال للأختين لكما الثلثان من الستة وهما أربعة فخذاها من سبعة ، فصار النقص على كل واحد من الوارثين ولم يضيع نصاً من نصوص القرآن الكريم .
وكان ابن حزم في هذه المسألة يخطئ جميع الصحابة .
ويقول ابن العباس وعامة الصحابة على غلط وان هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز وأن الحق مع ابن عباس وحده الذي خالف عامة الصحابة في العول .
وقال الذي نعلم ان الله لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين ، فرأي ابن عباس أن ننظر في الورثة اذا كان أحدهما أقوى سبباً نقدمه ونكمل له نصيبه ونجعل النقص على الأضعف ، فابن عباس في مثل هذا يقول ابن الزوج يعطى نصفاً كاملاً لأن الزوج لا يحجبه الأبوان ولا يحجبه الأولاد بخلاف الأختين لأنهما أضعف سبباً منه لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب ونعطي للأختين نصفاً وهذا تلاعب بكتاب الله ، الله يقول :" فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان " وهو يقول فلهما النصف فهذا عمل بما يناقض القرآن مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس يقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية وانما سميت المنبرية لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفتى فيها وهو على المنبر أثناء خطبته لأنه افتتح خطبته على المنبر وقال : الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى واليه المآب والرجعي ، فسمع قائلاً يقول : ما تقولون فيمن هلك عن زوجة وأبوين وابنتين ؟ فقال علي رضي الله عنه : صار ثمنها تسعاً ، ومضى في خطبته .
وقوله : صار ثمنها تسعاً لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة ، الابنتان لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لأن السدسين بثلث وتبقى الزوجة تعول لها بالثمن والفريضة من أربعة وعشرين وثمنها ثلاثة يعال فيها بثمن الزوجة وثمن الأربعة والعشرين ثلاثة واذا ضم الثمن الذي عالت به الفريضة إلى اصل الفريضة أي اذا ضم الثمن الذي هو ثلاثة فريضة الزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة صارت سبعة وعشرين . والثلاثة من السبعة والعشرين تسعها ومن الأربعة والعشرين ثمنها ، فهذه لو قلنا لابن حزم أيهما يحجب هل الابنتان يحجبان لا والله ، هل الأبوان يحجبان لا والله هل الزوجة تحجب لا والله ليس فيهم من يحجبه أحد وكلهم أهل فروض منصوصة في كتاب الله ولا يحجب أحد منهم أبداً فبهذا يبطل قوله ان من هو أضعف سبباً فانه يحجب ويقدم عليه غيره .
ثم لتعلموا أن الحقيقة الفاصلة في هذا أنه ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم كثير من الآثار المستفيضة في ذم الرأي والقياس . وأجمع الصحابة والتابعون على العمل بالقياس واستنباطه ما سكت عنه مما نطق به الوحي ، هذا أمر لا نزاع فيه . فمن جمد على النصوص ولم يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به فقد ضل وأضل .
ومن هذا النوع ما أجمع عليه جميع المسلمين حتى سلف ابن حزم وهو داوود بن علي الظاهري كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ويقول له القياس الجلي وهو المعروف عند الفقهاء بالقياس الجلي والغاء الفارق ويسمى نفي الفارق وهو نوع من تنفيح المناط ، فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنطوق
وان قول ابن حزم : انه مسكوت عنه لم يتعرض له أنه كذب محض وافتراء على الشرع وأن الشرع لم يسكت عنه ،
وقوله تعالى :" فلا تقل لهما أف " يقول ابن حزم ان هذه الآية ، ناطقة بالنهي عن التأفيف ولكنها ساكتة عن حكم الضرب ،ونحن نقول : لا والله لما نهى عن التأفيف وهو أخف الأذى فقد دلت هذه الآية من باب أولى على أن ضرب الوالدين أشد حرمة وان الآية غير ساكتة عنها بل نبهت على الأكبر بما هو أصغر منه فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذية من الضرب لم تسكت عن الضرب وتقول : ان قوله تعالى :" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ان هذه الآية ليست ساكتة عن عمل مثقال جيل أحد فلا نقول نصت على الذرة وما فوق الذرة فهو مسكوت عنه فلا يؤخذ من الآية فهي ساكتة عنه بل نقول ان الآية غير ساكتة عنه وان ذلك المسكوت (عنه) يلحق بذلك المنطوق .
وكذلك قوله : " وأشهدوا ذوي عدل منكم" من جاء بأربعة عدول لا نقول أربعة عدول مسكوت عنها بل نقول ان الآية التي نصت على قبول شهادة العدلين دالة على قبول شهادة أربعة عدول ونقول : ان قوله تعالى :"ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً " لا نقول كما يقول ابن حزم ساكنة عن احراق مال اليتيم واغراقه لأنها نصت على حرمة أكله فقط ، بل نقول : ان الآية التي نهت عن أكله دلت على حرمة اغراقه واحراقه بالنار لأن الجميع اتلاف .
ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل ان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البول في الماء الراكد يقول ابن حزم : لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه لأن النبي لم ينه عن هذا وانما قال : لا يبولن أحدكم في الماء الراكد في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ولم يقل لا يبولن أحدكم في اناء ثم يصبه فيه فهذا لا يعقل أيعقل أحد أن الشرع الكريم يمنع من أن يبول انسان بقطرات قليلة أقل من وزن ربع كيل ثم انه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات بولاً يعد بمئات الكيلوات ثم يصبها في الماء وان هذا جائز .
وأيضاً في الحديث : لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان فألحق به الفقهاء اذ كان في حزن شديد مفرط يذهل عقله ، أو فرح شديد مفرط يدهش عقله أو في ع طش شديد مفرط يدهش عقله أو في جوع شديد يدهش عقله ، ونحو ذلك من مشوشات الفكر التي هي أعظم من الغضب فليس في المسلمين من يعقل أن يقال للقاضي أحكم بين الناس وأنت في غاية تشويش الفكر بالجوع والعطش المفرطين أو الحزن والسرور المفرطين ، او الحقن والحقب المفرطين والحقن مدافعة البول والحقب مدافعة الغائط ، والانسان اذا كان يدافع البول أو الغائط مدافعة شديدة كان مشوش الفكر مشغول الخاطر لا يمكن أن يتعقل حجج الخصوم ، ومثل هذا ، لذا قال العلماء لا يجوز للقاضي أن يحكم وهو مشوش الفكر .
فنعلم أن قول ابن حزم : انهم جاؤوا بتشريع جديد أنه كذب وان حديث : لا يقضين حكم بين اثنين وهو عصيان يدل على أن من كان فكره مشوشاً تشويشاً أشد من الغضب أولى بالمنع من هذا الحكم ، وكذلك نهيه عن التضحية بالشاة العوراء ، لا نقول : ان العلماء لما نهوا عن التضحية بالشاة العمياء . هذا مما لا يقوله عاقل
وكذلك قال الله :" والذين يرمون المحصنات " ولم يصرح في الآية الا أن يكون القاذف ذكر والمقذوفة أنثى فلو قذفت أنثى ذكراً أو قذف لا مؤاخذة فيه لأن الله انما نص على قذف الذكور بالأناث لأنه قال :" والذين يرمون المحصنات " وما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال : المحصنات نعت للفروج ،والذين يرمون الفروج المحصنات فيشمل الذكور والأناث يرد عليه أن المحصنات في القرآن لم تأت قط للفروج وانما جاءت للنساء وكيف يأتي ذلك في قوله : ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات . هذا مما لا يعقل .
وكذلك نص الله جل وعلا على أن المبتوتة اذا نكحت زوجاً غير زوجها الأول نص على أنها ان طلقها الزوج الأخير طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه الا بعد زوج ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فانه يجوز للأول أن ينكحها لأنها حلت بنكاح الثاني ، والله انما صرح في هذه السورة بنص واحد وهو أن يكون الزوج الذي حللها انما طلقها لأنه قال في تطليق الأول ، فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره .
ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها ، فان طلقها فلا جناح عليهما أي على الزوجة التي كانت حراماً والزوج الذي كانت حراماً عليه أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود الله ، فنص على طلاق المحلل خاصة فان طلقها أرأيتم لو حللها وجامعها مائة مرة حتى حلت وكانت كماء المزن ثم مات قبل أن يطلقها أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر كالاعسار بنفقة أو غير ذلك من أسباب الفسخ أيقول مسلم هذه لا تحل للأول لأن الله ما نص الا على قوله فان طلقها فان مات لم تحل لأن الموت ليس بطلاق ، هذا مما لا يقوله عاقل . وأمثال ذلك كثيرة جداً . فنحن نقول ان هذا الذي يقول ابن حزم ان الوحي سكت عنه ، ان الوحي لم يسكت عنه وانما أشار إليه لتنبيهه ببعضه على بعضه فالغضب يدل على تشويش الفكر والمحصنات لا فرق بين المحصنات والمحصنين ، وقوله فان طلقها لا فرق بين مالو طلقها أو مات عنها فبعد أن جامعها وفارقها تحل للأول سواء كان الفراق بالطلاق المنصوص في القرآن أو بسبب آخر كالموت والفسخ
وهذا مما لا ينازع فيه عاقل وان نازع فيه ابن حزم
ثم ان ابن حزم يسخر من الامام أبي حنيفه رحمه الله لأن الامام أبا حنيفة رحمه الله يقول : ان التشهد الأخير يخرج الانسان به من الصلاة بكل مناف للصلاة .
وروي عنه : حتى أنه لو انتقض وضوءه فضرط انه خرج من الصلاة لأن الضراط مناف لها فجعل ابن حزم يسخر منه فيقول : ألا ترون قياس الضراط على السلام عليكم قياساً فاسداً فليس في الدنيا قياس فاسد ويسخر من الامام مالك في مسائل كثيرة ويقول انه يقيس قياسات الألغاز لأن مالكاً رحمه الله جعل أقل الصداق ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة قياساً على السرقة بجامع أن في كل واحد منهما استباحة عضو في الجملة لأن النكاح فيه استباحة الفرج بالوطئ والقطع فيه استباحة اليد بالقطع
فابن حزم يسخر من مالك ويقول هذه ألغاز ومحاجاة بعيدة من الشرع وتشريعات باطلة ، وأمثال هذا منه كثيرة ونحن نضرب مثلاً فانه من أشد ما حمل به الأئمة رحمهم الله مسألة حديث تحريم ربا الفضل لأن النبيصلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال : الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى .
فابن حزم يقول : ليس في الدنيا يحرم فيه ربا الفضل الا هذا ويقول الدليل على أنهم مشرعون وان أقوالهم كلها كاذبة ان بعضهم كالشافعي يقول علة الربا في البر الطعم ويقيس كل مطعوم على البر فيقول كل المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم وأبو حنيفة وأحمد يقولان علة الربا الكيل ويقولان كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر فيحرمان الربا في النورة والاشنان وكل مكيل فيقول فيه ابن حزم هذا يقول العلة الطعم ويلحق أشياء وهذا يقول العلة الكيل ويلحق أشياء أخرى . وكل منهم يكذب الآخر فهذه كلها قياسات متناقضة والأقوال المتكاذبة والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من عند الله وأمثال هذا كثيرة
ونحن نضرب مثلاً لهذه المسألة ونقول ان الأئمة رضي الله عنهم أبا حنيفة وأحمد والشافعي رحمهم الله الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من ابن حزم ،
ونقول لابن حزم مثلاً : أنت قلت انك مع النصوص في الظاهر وقلت :
ألم تعلموا أني ظاهري واني ***** على ما بدا حتى يقوم دليل
فهذا الامام الشافعي الذي قال ان علة الربا في البر الطعم استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم وهو حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الطعام بالطعام مثلاً بمثل . الحديث .
فالامام الشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم
وكذلك الامام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى اللذان قالا ان علة الربا في البر الكيل استدلا كذلك بالحديث الصحيح ، وكذلك الميزان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال : وكذلك الميزان .
والتحقيق أن وكذلك الموزونات مثل المكيلات ، فجعل معرفة القدر علة للربا وقوله : وكذلك الميزان ثابت في الصحيحين . وفي حديث حيان بن عبيد الله الذي أخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال انه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن أبي سعيد الخدري لما ذكر الستة التي يحرم فيها الربا قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك كل ما يكال ويوزن .
وهذا الحديث حاول ابن حزم تضعيفه من ثلاث جهات وهذا الحديث ناقشناه في الكتاب الذي كتبنا على القرآن مناقشة وافية ، والتحقيق أن حيان بن عبيد الله ليس بمجروح وان زعم هو أن أبامجلز الذي روى عنه الحديث لم يلق ابن عباس أنه كذب وأنه أدرك ابن عباس وأبا سعيد الخدري رحمهما الله .
وان الحديث لا يقل عن درجة القبول بوجه من الوجوه عند المناقشة الصحيحة كما بيناه في الكتاب الذي كتبناه في القرآن وهذا الحديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل ما يكال أو يوزن وهذا أقرب لظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم من ابن حزم الذي يسخر من الامام أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله ،
وليس قصدنا في هذا الكلام أن نتكلم عن ابن حزم لأنه رجل من علماء المسلمين وفحل من فحول العلماء الا أن له زلات ولا يخلو أحد من خطأ
ومقصودنا أن نبين لمن نظر في كتب ابن حزم فقط أن حملاته على الأئمة أن الغلط معه فيها لا معهم وأنهم أولى بالصواب مته وأعلم منه وأكثر علماً وورعاً منه فهم لا يحملون على أحد ولا يعيبون أحداً .
والحاصل أن الحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه وأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل . والله جل وعلا قد بين نظائر في القرآن يعلم بها الحاق النظير والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة .
فمن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال له : أرأيت لو تمضمضت فهذا اشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قياس (القبلة على المضمضة) بجامع أن القبلة مقدمة الجماع والمضمضة مقدمة للشرب فكل منهما مقدمة الافطار وليس بافطار ومحل كون القبلة كالمضمضة اذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء أما اذا كانت القبلة تخرج منه شيئاً فهو كالذي اذا تمضمض ابتلغ شيئاً من الماء فحكمه حكمه .
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ثابتة متعددة في الصحيحين أنه سأله رجل مرة وامرأة مرة أنهما سألاه عن دين يقضيانه عن ميت لهما ، مرة تقول مات أبي ومرة تقول أمي وكذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى فهو تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على قياس دين الله على دين الآدمي بجامع أن الكل حق مطالب به الانسان وأنه يقضي عنه بدفعه لمستحقه . وأمثال ذلك كثيرة .
ومن أصرحها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل ، كان الرجل أبيض وامرأة بيضاء فولدت له غلاماً أسود فأصاب الرجل فزعاً من سواد الغلام وظن أنها زنت برجل أسود وجاءت بهذا الغلام فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم منزعجاً وأخبره بأنها جاءت بولد أسود وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللعان زعماً أن هذا الولد من زان أسود وأنه ليس ولده لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من ابل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال حمر . قال هل فيها من أورق والأورق المتصف بلون الورقة والورقة يكون لوناً كحمام الحرم يعني سواد مع بياض يكون في الابل . قال الرجل ان فيها لورق . قال ومن أين جاءتها تلك الورقة ؟ آباؤها حمر وأمهاتها حمر فمن أين جاءتها تلك الورقة ؟ قال : لعل عرقاً نزعها . قال له وهذا الولد لعل عرقاً نزعه . فاقتنع الأعرابي وهذا الحاق نظير بنظير .
وفي الجملة فنظير الحق حق ونظير الباطل باطل ،وهذا مما لا شك فيه ، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأقيسة التي ذكرنا ومنه قياس فاسد ، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة وبعض الأقيسة الصحيحة .
ومن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى :" ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقال له : كن فيكون . لما قال اليهود ان عيسى لا يمكن أن تلده مريم الا من رجل زنا بها فقالوا لها يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً وهذا الولد لابد أن يكون له والد وهذا الوالد رجل فجرتي معه وزنيت به " الله جل وعلا قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وجد ولم يكن له أم ولا أب خلق ولم يكن له أم ولا أب ، فالذي خلق آدم ولم يكن أب ولا أم فهو قادر على أن يخلق عيسى من أم ولم يكن له أب ، كما خلق حواء من ضلع رجل ، فالله جل وعلا جعل خلق الانسان قسمة رباعية .
بعض خلقه لا من ذكر ولا أنثى وهو آدم ، وبعض خلقه من أنثى دون ذكر وهو عيسى بن مريم وبعض خلقه من ذكر دون أنثى وهي حواء لأن الله يقول : " خلقكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها " .
والقسم الرابع خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى بآدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته . وأمثال هذا كثيرة .
وكذلك قاس الموجودين زمن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم الماضية وقال لهم " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم " ثم بين الحاق النظير بالنظير فقال : وللكافرين أمثالها ، كأن الموجودين زمن النبي فرع والكفار المتقدمون أصل ، والحكم الذي يهددون به العذاب والهلاك والعلة الجامعة تكذيب الرسل والتمرد على رب العالمين .
وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك ما يسمونه قياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة يكثر في القرآن جداً كما في قوله جل وعلا : " ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فاذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحيي الموتى " فقاس احياء الموتى الذي ينكره منكروا البعث على أحياء الأرض المشاهد لأن كلا منهما احياء ، وهذا الاحياء للموجود يدل على قدرة باهرة يقدر بها من اتصف بها على احياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها ، وكما استدل جل وعلا بقياس الأولى على الأدنى واستدل بأن من خلق السموات والأرض لا يعجز عن خلق الانسان الصغير الحقير بعد الموت كما قال :" أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " الآية .
وقال : " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر " .
وقال جل وعلا : " أو لم يروا أن الله خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى " وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال :" ولقد علمتم النشأة الأولى" والايجاد الأول فهلا قستم عليه النشأة الأخرى والايجاد الأخير وعلمتم أن القادر على الايجاد الأول قادر على الايجاد الثاني ، كما قال :" قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " وأمثال هذا كثيرة جداً .
أما القياس الفاسد الذي يكون مخالفاً للنصوص كقياس ابليس لعنه الله وكالأقيسة المخالفة للنصوص وكأقيسة الشبه المبنية على الفساد فان الكفار جاؤوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً ومثله باطل كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) فأثبتوا السرقة على أخ يوسف لأن يوسف قد سرق قبله والأخ شبيه بالأخ فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال وأن هذا سرق كما سرق ذلك .
وهذا قياس شبه باطل ، وهذا النوع من القياس كقياسات ابليس الباطلة والكفار لعنهم الله كذبوا جميع الرسل بقياسات شبه باطلة لأنه ما جاء رسول إلى قوم إلا قالوا له أنت بشر وكونك بشر يجعلك تشبه سائر البشر ولا نقبل أن تكون رسولاً لرب العالمين وأنت تأكل كما نأكل وتشرب مما نشرب وتمشي في الأسواق التي نمشي فيها ونص الله بأن هذا منع كل أمة في قوله :" وما منع الناس أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً فشبهوا البشر بالبشر قياس شبه واستنتجوا من ذلك أنه لا تكون له أفضلية على البشر .
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ردوا عليهم هذا القياس ورده عليهم في آيات لما قالوا للرسل : (إن أنتم إلا بشر مثلنا )، فأجابهم الرسل قالوا : ما نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فمشابهتنا في البشرية لا تستلزم عدم تفاوتنا في فضل الله كما قال جل وعلا : " قالوا أبشر يهدوننا ، لئن أطعتم بشراً مثلكم انكم اذاً لخاسرون . وقالوا فيه يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . وقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه انا اذاً لفي ضلال وسعر " وهذا كثير في القرأن وهذه الأقيسة فاسدة .
والحاصل أن القياس منه صحيح ، ومنه فاسد .
والصحيح هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون وعامة المسلمين ،وأحكام الصحابة بالقياس لا يكاد أحد يحصيها .
فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن المجتهدين يختلفون في اجتهادهم وكلهم لا اثم عليه ولا حرج عليه لأنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة . هذا نص صحيح صريح سمعه الصحابة بآذانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم راحوا من المدينة إلى ديار بني قريظة وأدركتهم صلاة العصر في الطريق فاختلفوا في فنهم هذا الحديث وكل اجتهد بحسب ما أدى إليه فهمه فجماعة قالوا ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا : الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله أن تؤخر صلاة العصر عن وقتها ولكن مراده الاسراع إلى بني قريظة فنصلي ونسرع فصلوا وأسرعوا وجماعة قالوا : الصلاة وجبت علينا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو قال لنا أتركوها إلى يوم القيامة تركناها إلى بني قريظة .
وجاء النبي ولم يصلوا واجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وهم في خلاف بين مشرق ومغرب لأن من صلى ومن لم يصلي مختلفاً ، وهو صلى الله عليه وسلم فررهم جميعاً ولم يخطئ أحداً منهم ولو ك ان واحد منهم فعل غير صواب أو حراماً لما أقره الرسول عليه لأنه لا يقر على باطل ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه .
وثبت في صحيح البخاري عن الحسن البصري مضمونه ومعناه أنه كان يقول : لولا أنه من كتاب الله أشققت على المجتهدين ، وهي قوله تعالى :" وداوود وسليمان اذ يحكمان في الحرث لأن الله جل وعلا صرح في الآية بأنهما حكما حيث قال انه يحكمان بألف الأثنين الواقعة على داوود وسليمان ، ثم قال ففهمناها سليمان ولم يذكر شيئاً عن داوود فعلمنا أن داوود لم يفهمها لأنه لو فهمها لما اقتصر على ذكره ولم يكن للاقتصار على ذكر سليمان فائدة مع أنهما فهماها ولو كان هذا وحياً من الله لما فهمها أحدهما دون الآخر لأن الوحي أمر لازم للجميع ودل على أنهما اجتهدوا وأن داوود لم يصب في اجتهاده وأن سليمان أصاب في اجتهاده والله أثنى على كل منهما ولم يؤنب داوود بل قال بعده : وكلا آتينا حكماً وعلماً .
وقد ثبت في الصحيحين ما يستأنس به لأنه ثبت في الصحيحين أن داوود عليه السلام في زمانه جاءته امرأتان نفستا وجاء الذئب واختطف ولد واحدة منهن وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى هذا ولدي واختصمتا وتحاكمتا إلى داوود فقضى به للكبرى اجتهاداً منه لأمارات ظهرت له أو لشيء في شرعه يقتضي ظاهره ذلك الاجتهاد .
فرجعتا إلى سليمان ، فلما رجعتا إلى سليمان قال : كل واحدة منكما تدعيه هاتوا بالسكين أشقه بينهن نصفين فأعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه . وكان أبو هريرة يقةل : ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم ما كنا نقول لها الا المدية ، فلما قال انه يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى وأدركتها رأفتها للولد فقالت له لا . يرحمك الله هو ابنها وأنا لاحق لي فيه . وكانت الكبرى راضية بأن يشق لتساويها أختها في المصيبة فعلم سليمان أن الولد للصغرى وحكم به للصغرى . وذلك ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هذه القصة عن داوود وسليمان إلا أنه في تاريخ ابن عساكر والله أعلم بصحتها وبعدم صحتها الا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة .
والقصة التي ذكرها ابن عساكر في تاريخه أنه كان أربعة من أشراف بني اسرائيل راودا امرأة جميلة من بني اسرائيل عن نفسها وكانت بارعة الجمال فمنعتهم وحاولوا أن يصلوا إليها فامتنعت فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها ، فجاءوا وشهدوا عند داوود أن عندها كلباً علمته الزنا وأنها تزني مع كلبها وكان مثل هذا عند داوود يقتضي حكم الرجم فدعا داوود بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بالكب فرجمها داوود ، قالوا وكان سليمان اذا ذاك صغيراً فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شرطاً قال فلان وفلان جعلهم كالشرطين وأخذ قوماً وجعلهم شهوداً وجاءوا يشهدون فقام وجعل رجلاً كأنه امرأة وقالوا نشهد أن هذا زنت مع كلبها ثم قال سليمان للسياف والذين جعلهم كالشرط خذوا كل واحد منهم وفرقوهم وائتوني بهم واحداً واحداً ، فجاءوه بالأول وقال له : ما تقول في شهادتك ؟ قال : أقول انها زنت بكلبها . قال له : وما لون الكلب ؟ قال : كان لون الكلب أحمر . ثم دعا بالثاني وقال : ما لون الكلب ؟ قال : كان لون الكلب أسود ، ثم دعا بالآخر فقال : أغبر ، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب فعلم أنهم كذبة فقال : اقتلوهم لأنهم قتلوها وسمع داوود الخبر ف أرسل للشهود حالاً وفرقهم وجاؤه واحداً واحداً فسألهم واختلفوا في لون الكلب فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة فقتلهم قصاصاً . هكذا قال والله أعلم .
وعلى كل حال فالقياس هو قسمان صحيح وقياس فاسد
فما جاء به الظاهرية من ذم القياس والسلف فهو ينطبق على القياس الفاسد ، والصحابة كانوا باجماع على القياس الصحيح .
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاث نفر يختصمون في غلام كل يقول هو ابني فقال : اقترعوا على الغلام فوقعت القرعة على واحد منهما فقال للذي جاء الغلام في نصيبه قال له : خذ الغلام الغلام وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية ثلث دية الغلام . قالوا : فلما بلغ قضاؤه النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قضاء علي رضي الله عنه حتى بدت نواجذه .
ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له : بم تقضي قال بكتاب الله قال وان لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فان لم تجد ؟ قال : اجتهد رأيي ، قال الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الحديث يقول ابن حزم أنه باطل لا أصل له لأنه رواه الحارث بن عمر وابن أخ المغيرة عن ناس من حمص مجهولين ، فهي رواية مجهول عن مجاهيل والاستدلال به ضلال .
وقال ابن كثير في مقدمة كتاب تفسيره أنه رواه أصحاب السنن باسناد جيد وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن أسيد عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل والاسناد إلى هنا صحيح لا شك في صحته لأن رجاله معروفون ، الا أن البلية من قبل عبادة بن أسيد والظاهر أن الذي رواه عن عبادة بن أسيد هو محمد بن حسان المصلوب والذي صلبه أبو جعفر المنصور في الزندقة وهو كذاب لا يحتج به فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له الا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو وعن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص .
والذين قالوا ان الحديث صحيح وأنه يجوز العمل به لأمرين :
أحدهما : أن الحارث بن عمر وثقه ابن حبان وان كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد ومؤيدات يعتضد بها كحديث مقبول .
وكذلك قالوا : ان علماء المسلمين تلقوا هذا الحديث خلفاً عن سلف وتلقى العلماء للحديث بالقبول يكفيه عن الاسناد وكم من حديث يكتفي بصحته عن الاسناد يكتفي بعمل العلماء به في أقطار الدنيا لأن هذه الأمة اذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلاً واكتفى بذلك عن الاسناد.
وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المذموم والقياس الصحيح هو الحاق النظير بالنظير على وجه صحيح لا شك في صحته .
والصحابة كذلك يلحقون المسكوت بالمنطوق به وهذا كثير وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة ونرجوا الله جل وعلا أن يوفقنا لما يرضيه وأن يختم لنا بالسعادة .
اللهم أختم بالسعادة آجالنا وأختم بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا . اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما عطيت وقنا شر ما قضيت فانك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا . وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي اليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر . اللهم فالق الاصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ، أقض عنا الدين واغننا من الفقر وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا في سبيلك ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وأن نعمل صالحاً ترضاه ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المذكرة الأصولية على روضة الناظر وجنة المناظر للإمام النظار الأصولي محمد الأمين الشنقيطي-رحمة الله عليه-
الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة .
توزيع مكتبة العلم بجدة .
الطبعة الرابعة :1418ه-1998م.