قال أبو فراس:وأورد البخاري في هذا الباب بعض الآثار والنصوص، وإليك ما ذكره، رحمنا الله وإياه:
1- قال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال ابن حجر في الفتح:
"هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاووس لكن طاووس لم يسمع من معاذ فهو منقطع.
فلا يغتر بقول من قال:
ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه، وأما باقي الإسناد فلا.
إلا أن إيراده له:
في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب.
قال ابن حزم رحمه الله، وهو يجيب عن حديث معاذ:
"وهذا لا تقوم به حجة لوجوه:
أولها: أنه مرسل، لأن طاووسا لم يدرك معاذا، ولا ولد إلا بعد موت معاذ.
قال أبو فراس:
ما ذكره ابن حزم رحمه الله صحيح، فطاووس لم يدرك معاذا ولا ولد إلا بعد موته، ولهذا حكم أهل العلم على رواية طاووس عن معاذ بالإرسال والانقطاع.
قال علي ابن المديني: لم يسمع طاووس من معاذ بن جبل شيئا.([1])
قال أبو زرعة: طاوس عن معاذ مرسل. ([2])
ولهذا تعقب كثير من الشراح روايات طاووس عن معاذ وأعلوها بالإرسال لأن طاووسا لم يدرك معاذا فضلا أن يسمع منه.
بينما ذهب آخرون: إلى قبول روايات طاووس عن معاذ مع التسليم بأنه لم يسمع منه، ومن هؤلاء الشافعي الإمام فإنه قال في "الأم":
"وطاوس عالمٌ بأمر معاذ وإن كان لم يلقه على كثرة من لقي ممن أدرك معاذا من أهل اليمن فيما علمت...
ثم قال الشافعي رحمه الله مؤكِّداً صحة رواية طاووس عن معاذ بن جبل رضي الله عنه:
وأخبرني غير واحد من أهل اليمن عن عدد مضوا منه:
أن معاذا أخذ منهم صدقة البقر على ما روى طاووس ...
أخبرنا بعض أهل العلم والأمانة: عن يحيى بن سعيد عن نعيم بن سلامة:
أن عمر بن عبد العزيز دعا بصحيفة فزعموا أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب بها إلى معاذ بن جبل فإذا فيها [ في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة ]
قال الشافعي: وهو ما لا أعلم فيه بين أحد لقيته من أهل العلم خلافا وبه نأخذ."([3])
قال أبو فراس:
إذن مع تسليم الشافعي بأن رواية طاووس عن معاذ مرسلة إلا أنه يصححها لمعانٍ خمسة:
المعنى الأول: أن طاووسا عالمٌ بأمر معاذ.
المعنى الثاني: أن طاووساً لقي نفراً كثيرا ممن أدرك معاذا من أهل اليمن فيما علمه الشافعي.
المعنى الثالث: ما ذكره الشافعي مِنْ أنه: أخبره عددٌ من أهل اليمن قد مضوا ما يصدِّق هذه الرواية المعينة من رواية طاووس عن معاذ.
المعنى الرابع:أن الشافعي رحمه الله قد أخبره بعض أهل العلم والأمانة عن قصة لعمر بن عبد العزيز أنه دعا بصحيفة قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بها إلى معاذ، وهذه الصحيفة تصدِّق رواية طاووس عن معاذ.
المعنى الخامس: أنه لا يعلم خلافا بين أحد لقيه من أهل العلم في صحة هذه الرواية ، أو أن الشافعي قصد أنه لا يعلم خلافا في صحة الحكم الذي اشتملت عليه هذه الرواية.
قال أبو فراس:
ومما يدل على أن طاووساً عالمٌ بأمر معاذ كما قال الشافعي هي الإشارة الخاطفة من حافظ المغرب أبي عمر ابن عبد البر القرطبي فإنه بعد أن انتهى من ترجيح قول الجمهور في ما يوافق إحدى روايات طاووس عن معاذ: قال:
" قال ابن جريج وقال عمرو بن شعيب: أن معاذ بن جبل لم يزل بالَجَند منذ بعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثم قدم على عمر فرده على ما كان فيه عليه.
قال أبو عمر:
الجَنَد من اليمن: هو بلد طاووس، وتوفي طاووس سنة ست ومائة وتوفي معاذ سنة خمس عشرة أو أربع عشرة في طاعون.
وقال أيضاً:
حديث طاوس هذا عندهم عن معاذ غير متصل والحديث عن معاذ ثابت متصل من رواية معمر والثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بمعنى حديث مالك.(4)
قال أبو فراس:
فكأن ابن عبد البر بما ذكر أن معاذا نزل بالجَنَد بلدة طاووس، وأنه لم يزل بها منذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات عليه الصلاة والسلام بل وإلى زمن عمر.
ثم اعتبر أن روايته هذه محفوظة لموافقتها رواية الثقات الموصولة
وهذا يدل على قرب طاووس الشديد من الذين أخذوا عن معاذ إذ هم أهل بلدته والتي قد طال مقام معاذ بها.
ويمكن أن نستشهد أيضاً:
بما قيل في رواية مسروق عن معاذ، وإن كان هناك فرق جوهري وهو في إدراك مسروق لمعاذ بخلاف طاووس الذي ولد بعد وفاة معاذ إلا أنه مع ذلك فثمة قواسم مشتركة من شهود عمل معاذ المشهور في الزكاة في اليمن، وإداركه نقل الكافة عن معاذ:
قال ابن حزم في معرض حديثه عن رواية مسروق عن معاذ في الزكاة:
" ثم استدركنا فوجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا وشهد حكمه وعمله المشهور المشهور، فصار نقله لذلك ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم: نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك، فوجب القول به."([5])
فعلَّق الملا علي قارئ في "مرقاة المفاتيح" بعد نقله كلام ابن حزم السابق:
"وحاصله: أنه يجعل بواسطة بينه وبين معاذ وهو ما فشا من أهل بلده أن معاذا أخذ كذا وكذا والحق قول ابن القطان أنه يجب أن يحكم بحديثه عن معاذ على قول الجمهور في الإكتفاء بالمعاصرة ما لم يعلم عدم اللقاء."
قال أبو فراس:
فهاتان روايتان من رواية طاووس عن معاذ سبق تناولهما قد تقاسم الإمامان: الشافعي وابن عبد البر في الحكم عليهما بأنهما محفوظتان من وجوه ذكروها.
وقد تتبعت روايات طاووس عن معاذ فلم يظهر لي ما يستنكر منها، لاسيما وأن كثيرا منها في أبواب الزكاة وهو ألصق الأبواب:
1- بمعاذ
2- وبطاووس.
3- وباليمن.
ورأيت كثيرا من الشرَّاح إنما يقتصرون في الإعلال فقط على مجرَّد الإرسال، ولا يستنكرون من متون الروايات شيئا.
فإن صحت المعاني التي ذكرها الشافعي رحمه الله مضافا إلى ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله، وتتبعنا روايات طاووس عن معاذ فلم نجد ما يستنكر منها من جهة العموم فإن قبولها متجه ظاهر مع التسليم بأن هذه الروايات مرسلة ، ولكنها مرسلة محفوظة، مثل روايات أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود فإنه مع إرسالها إلا أنها محفوظة إذ أخذها عن الثقات مِنْ أهل بيته.
قال السخاوي في فتح المغيث:
فإن قيل: هذا منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا
يقال: نحن لم نحتج به من هذه الجهة إنما احتججنا به لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله وخلطته بخاصته من بعده لا يخفى عليه مثل هذا من أموره فجعلنا قوله حجة لهذا من أمور فجعلنا قوله لا من الطريق التي وصفت
ونحوه قول الشافعي رحمه الله:
في حديث لطاووس عن معاذ طاووس لم يلق معاذا لكنه عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافا وتبعه البيهقي وغيره
ومن الحجج لهذا القول:
أن احتمال الضعف في الواسطة حيث كان تابعيا لا سيما بالكذب بعيد جدا بإنه صلى الله عليه و سلم أثنى على عصر التابعين وشهد له بعد الصحابة بالخيرية ثم للقرنين كما تقدم بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله مناف لها هذا مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل ....."
ولذا فأجدني أرتضي هذه الرواية المذكورة في المسألة لاسيما مع احتجاج البخاري بها وما ذكره من النصوص التي تؤكد الحكم الذي اشتملت عليه.
والتي استطردنا منها للبحث في حال هذه الرواية، وللتفتيش عن قبولها مع التسليم بإرسالها، هذا والله أعلم.
([1]) المراسيل لابن أبي حاتم.
([2]) المراسيل لابن أبي حاتم.
([3]) الأم - (ج 2 / ص 12)
([4]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (ج 2 / ص 276)
([5]) المحلى - (ج 6 / ص 16)