رد: دروس في فقه الجنايات والحدود 3
الفصل الرابع
الجرائم التي شرع فيها التعزير
الجرائم التي شرع فيها التعزير على نوعين :
النوع الأول : قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدرة من حد أو قصاص ، لكن هذه العقوبة لا تطبق ، لعدم توافر شرائط تطبيقها ، أو لوجود مانع ، كوجود شبهة تستوجب درء الحد ، أو عفو صاحب
الحق عن طلبه .
النوع الثاني : وقد تكون الجرائم التعزيرية غير ما ذكر فيكون فيها التعزير أصلا . ويدخل في هذا القسم ما لا يدخل في سابقه من جرائم .
وفيما يلي تفصيل ذلك:
المبحث الأول :الجرائم التي يشرع فيها التعزير بديلا عن الحدود أو القصاص:
المطلب الأول : جرائم الاعتداء على النفس :
ويدخل في هذا الموضوع :
1- القتل العمد العدوان موجبه القصاص ، ويجب لذلك توافر شروط ، أهمها : كون القاتل قد تعمد تعمدا محضا ليس فيه شبهة ، وكونه مختارا ، ومباشرا للقتل ، وألا يكون المقتول جزء القاتل ، وأن يكون معصوم الدم مطلقا . وفضلا عن ذلك يجب للقصاص : أن يطلب من ولي الدم . فإذا اختل شرط من هذه الشروط امتنع القصاص ، وفيه التعزير .
2- القتل شبه العمد قال البهوتي : قد يقال بوجوب التعزير في القتل شبه العمد ، لأن الكفارة حق لله تعالى وليست لأجل الفعل ، بل بدل النفس الفائتة ، فأما نفس الفعل المحرم - الذي هو الجناية فلا كفارة فيه .
3- ومن الأصول الثابتة عند الحنفية : أن ما لا قصاص فيه عندهم كالقتل بالمثقل ( وهو القتل بمثل الحجر الكبير أو الخشبة العظيمة ) يجوز للإمام أن يعزر فيه بما يصل للقتل ، إذا تكرر ارتكابه ، ما دامت فيه مصلحة ، وبناء على هذا الأصل قالوا بالتعزير بالقتل لمن يتكرر منه الخنق ، أو التغريق ، أو الإلقاء من مكان مرتفع ،إذا لم يندفع فساده إلا بالقتل.
----------------
المطلب الثاني : جرائم الاعتداء على ما دون النفس :
إذا كانت الجناية على ما دون النفس عمدا فيشترط للقصاص فضلا عن شروطه في النفس : المماثلة ، وإمكان استيفاء المثل . ويرى جمهور الفقهاء التعزير أيضا في الجناية العمد على ما دون النفس ، إذا سقط القصاص ، أو امتنع لسبب أو لآخر ، فيكون في الجريمة التعزير مع الدية ، أو الأرش ، أو بدونه ، تبعا للأحوال .
وإذا لم يترك الاعتداء على الجسم أثرا : فأغلب الفقهاء على أن في ذلك التعزير ، لا القصاص .
------------------
المطلب الثالث : الزنى الذي لا حد فيه ، ومقدماته :
الزنى إذا توافرت الشرائط الشرعية لثبوته فإن فيه حد الزنى ، أما إذا لم يطبق الحد المقدر لوجود شبهة ، أو لعدم توافر شريطة من الشرائط الشرعية لثبوت الحد ، فإن الفعل يكون جريمة شرع الحكم فيها - أو في جنسها - لكنه لم يطبق . وكل جريمة لا حد فيها ولا قصاص ففيها التعزير . وبناء على ذلك :
_ إذا كانت هناك شبهة تدرأ الحد ، سواء كانت شبهة فعل ، أو شبهة ملك ، أو شبهة عقد ، فإن الحد لا يطبق . لكن الجاني يعزر ، لأنه ارتكب جريمة ليست فيها عقوبة مقدرة . وتعرف الشبهة بأنها : ما يشبه
الثابت وليس بثابت .
_ وإذا كانت المزني ﺑﻬا ميتة ففي هذا الفعل التعزير ، لأنه لا يعتبر زنى ، إذ حياة المزني ﺑﻬا شريطة في الحد .
_ وإذا لم يكن الفعل من رجل فلا يقام الحد ، بل التعزير ، ومن ذلك : المساحقة .
_ وإذا لم يكن الفعل في قبل امرأة فأبو حنيفة على عدم الحد ، لكن فيه التعزير.
- وإذا كان الفعل في زوجة الفاعل فلا حد فيه بالإجماع . والجمهور على أنه يستوجب التعزير .
- ومما يستوجب التعزير في هذا اﻟﻤﺠال كل ما دون الوقاع من أفعال ، كالوطء فيما دون الفرج ، ويستوي فيه المسلم ، والكافر ، والمحصن ، وغيره .
- ومنه أيضا : إصابة كل محرم من المرأة غير الجماع . وعناق الأجنبية ، أو تقبيلها .
- ومما فيه التعزير كذلك : كشف العورة لآخر ، وخداع النساء ، والقوادة ، وهي : الجمع بين الرجال
والنساء للزنى ، وبين الرجال والرجال للواط.
-----------------
المطلب الرابع : القذف الذي لا حد فيه والسب :
حد القذف لا يقام على القاذف إلا بشرائطه ، فإذا انعدم واحد منها أو اختل فإن الجاني لا يحد . ويعزر عند طلب المقذوف ، لأنه ارتكب معصية لا حد فيها .
ومن شروط القذف الذي فيه الحد : كون المقذوف محصنا . فإذا لم يكن كذلك فلا يحد القاذف ، ولكن يعزر . ومن ذلك أن يقذف مجنونا بالزنى . أو صغيرا بالزنى . أو مسلمة قد زنت . أو مسلما قد زنى ، أو من معها أولاد لا يعرف لهم أب ، وذلك لعدم العفة في هذه الثلاثة الأخيرة . ومنها كون المقذوف معلوما ، فإن لم يكن كذلك فلا حد ، بل التعزير ، لأن الفعل معصية لا حد فيها . وبناء على ذلك يعزر - ولا يحد - من قذف بالزنى جد آخر دون بيان الجد . أو أخاه كذلك ، وكان له أكثر من أخ.
- ولا حد في القذف بغير الصريح ، بدون قرينة ، وإنما فيه التعزير .
- ومن قذف آخر قذفا مقيدا بشرط أو أجل يعزر ولا يحد .
- وإذا لم يكن القول قذفا ، بل مجرد سب أو شتم فإنه يكون معصية لا حد فيها ، ففيها التعزير . ومن ذلك قوله : يا نصراني ، أو يا زنديق ، أو يا كافر ، في حين أنه مسلم . وكذلك من قال لآخر : يا مخنث ، أو يا منافق ، ما دام اﻟﻤﺠني عليه غير متصف بذلك . ويعزر كذلك في مثل : يا آكل الربا ، أو يا شارب الخمر ، أو يا خائن ، أو يا سارق ، وكله بشرط كون اﻟﻤﺠني عليه غير معروف بما نسب إليه .
- وكذلك من قال لآخر : يا بليد ، أو يا قذر ، أو يا سفيه ، أو يا ظالم ، أو يا أعور ، وهو صحيح ، أو يا مقعد ، وهو صحيح كذلك على سبيل الشتم . وعلى وجه العموم يعزر من شتم آخر ، مهما كان الشتم ، لأنه معصية ويرجع في تحديد الفعل الموجب للتعزير إلى العرف ، فإذا لم يكن الفعل المنسوب للمجني عليه مما يلحق به في العرف العار والأذى والشين ، فلا عقاب على الجاني ، إذ لا يكون ثمة جريمة.
------------------
المطلب الخامس : السرقة التي لا حد فيها :
السرقة من جرائم الحدود ما دامت قد استوفت شروطها الشرعية ، وأهمها : الخفية . وكون موضوع السرقة
مالا ، مملوكا لغير السارق ، محرزا ، نصابا . فإذا تخلف شرط من شروط الحد فلا يقام ، ولكن يعزر الفاعل ، لأنه ارتكب جريمة ليس فيها حد.
------------------
المطلب السادس : قطع الطريق الذي لا حد فيه :
قطع الطريق كغيره من جرائم الحدود ، يجب لكي يكون فيه الحد أن تتوافر شروط معينة ، وإلا فلا يقام الحد ، ويعزر الجاني ما دام قد ارتكب معصية لا حد فيها .
******************************
المبحث الثاني : الجرائم التي موجبها الأصلي التعزير :
من الأمثلة عليها :
1- شهادة الزور :
حرم قول الزور في القرآن الكريم بقوله تعالى " واجتنبوا قول الزور"
و في السنة بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم عد قول الزور وشهادة الزور من أكبر الكبائر ، وما دام أنه
ليس فيها عقوبة مقدرة ، ففيها التعزير
2- قتل حيوان غير مؤذ أو الإضرار به:
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان في قوله : " إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها وسقتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض "
فهذا الفعل معصية ، فيعزر الفاعل ما دام الفعل ليس فيه حد مقدر .
3- انتهاك حرمة ملك الغير :
دخول بيوت الغير بدون إذن ممنوع شرعا لقوله تعالى : " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " وبناء على هذا الأصل قيل بتعزير من يوجد في مترل آخر بغير إذنه أو علمه ، ودون أن يتضح سبب مشروع لهذا الدخول.
ومن الأمثلة على الجرائم مضرة بالمصلحة العامة :
4- التجسس للعدو على المسلمين ،
5- الرشوة
6- تجاوز الموظفين حدودهم ، وتقصيرهم :
7- تقليد المسكوكات الزيوف والمزورة
8- التزوير ، في هذه الجريمة التعزير ، فقد روي : أن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال
فأخذ مالا ، فضربه عمر رضي الله عنه مائة جلدة ، وحبسه ، ثم ضربه مائة أخرى ، ثم ثالثة ، ثم نفاه .
9- الغش في المكاييل والموازين :
- مسألة : سقوط التعزير بالتوبة :
اختلف الفقهاء في أثر التوبة في التعزير :
فعند الحنفية والمالكية وبعض الشافعية والحنابلة : أنه لا تسقط العقوبة بالتوبة ، لأنها كفارة عن المعصية .
وعند هؤلاء في تعليل ذلك : عموم أدلة العقوبة بلا تفرقة بين تائب وغيره عدا المحاربة . وفضلا عن ذلك
فجعل التوبة ذات أثر في إسقاط العقوبة يجعل لكل ادعاءها ، للإفلات من العقاب .
وعند فريق آخر ، منهم الشافعية والحنابلة : أن التوبة قبل القدرة تسقط العقوبة قياسا على حد المحاربة ،
استنادا إلى ما ورد في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حدا فأقمه علي ، ولم يسأله عنه . فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم . فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل ، فأعاد قوله ، فقال : أليس قد صليت معنا ؟ قال نعم . قال : فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك.
وفي هذا دليل على أن الجاني غفر له لما تاب . وفضلا عن ذلك فإنه إذا جازت التوبة في المحاربة مع شدة ضررها وتعديه ، فأولى التوبة فيما دونها. وهؤلاء يقصرون السقوط بالتوبة على ما فيه اعتداء على حق الله ،بخلاف ما يمس الأفراد .
وقال ابن تيمية وابن القيم : إن التوبة تدفع العقوبة في التعزير وغيره ، كما تدفعها في المحاربة ، بل إن ذلك أولى من المحاربة ، لشدة ضررها ، وهذا يعتبر مسلكا وسطا بين من يقول : بعدم جواز إقامة العقوبة بعد التوبة ألبتة . وبين مسلك من يقول : إنه لا أثر للتوبة في إسقاط العقوبة ألبتة . ويترتب على هذا الرأي : أن التعزير الواجب حقا لله تعالى يسقط بالتوبة ، إلا إذا اختار الجاني العقوبة ليطهر ﺑﻬا نفسه ، فالتوبة تسقط التعزير ، على شريطة ألا يطلب الجاني إقامته ، وذلك بالنسبة لحقوق المصلحة العامة . واحتج القائلون بذلك بأن الله عز وجل جعل توبة الكفار سببا لغفران ما سلف واحتجوا بقوله تعالى : " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وأن السنة عليه كذلك ، ففي الحديث : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
******************************
********************
***********
تمت بعون الله هذه السلسلة المباركة في "فقه الجنايات والحدود "
بأجزائها الثلاث
أسأل الله العلي العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل هذا الجهد قبولا حسنا وأن يبارك فيه
كما أسأله أن يجزي الدكتور الشبيلي خير الجزاء على مذكرته القيمة
"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين"