رد: قاعدة (ما حرم للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)
ولكن هذا لا يخوِّلنا إلغاء القاعدة من أصلها بل يدفعنا إلى البحث عن ضوابط تحدد المقصود بألفاظها
أما القاعدة المذكورة فلا أعلمها مقررة من قبل أهل العلم بالدليل ، بل لا أعلمهم ذكروها أصلاً ، وإنما استنبطها بعض المعاصرين من تصرفات بعض الأئمة كشيخ الإسلام وتلميذه ، مع عدم تسليم أنهما عملا بمقتضاها أصلاً كما سيأتي معك لاحقاً.
وإذا كانت هكذا فنحن لا نحتاج إلى بيان عدم انضباطها وبيان إمكانية استغلالها استغلالاً سيئاً لنلغيها ؛ إذ هي لم تثبت حتى تلغى ، ويكفينا أن نقف موقف المنع ، وعلى المثبت الدليل.
وعلى فرض ثبوتها ، لماذا لا يخولنا عدم انضباطها وإمكانية استغلالها استغلالاً سيئاً إلغائها؟
فإن قيل : بعد الثبوت كيف تذهب إلى الإلغاء بمجرد ما ذكرَ مع إمكان الضبط ؟
قلنا : لوجود ما يغني عنها ، بدليل انضباط الفقه قبل ظهورها.
ومن القواعد التي تغني عنها الضرر يزال ، وتقديم درأ المفاسد على جلب المصالح ، ودرأ أعظم المفسدتين ، وجلب أعظم المصلحتين ... إلخ
أما أن فساد المثال لا يدل على فساد القاعدة .. ففيه نظر من حيث أن القاعدة أن برزت بالبناء على المثال .. سقطت بسقوطه ، وإنما يصح أن يقال أن بطلان المثال لا يدل على بطلان القاعدة حيث ثبتت القاعدة بالدليل أو باستقراء جملة كثيرة من الأمثلة دلت على صحة القاعدة دلالة ظاهرة ، فبيان بطلان مثال أو مثالين مع بقاء الكثير المفيد لثبوتها .. لا يضر.
وليس شأن القاعدة كذلك ، فإنا لا نعلمهم مثلوا لها إلا بمسائل يسيرة قليلة عامتها من تخصيص العام ، وهذا لا تعلق له بالقاعدة أصلاً ، لأنها لا تتكلم عن المسائل الفرعية التي لا تدخل تحت دلالة العام ، بل عن الداخلة في دلالته ودلالة غيره من الأدلة ، بأن يترك الحكم المستفاد من الدليل لكونه حكماً ثابتاً سداً للذريعة والجنوح إلى غيره لاقتضاء المصلحة. لذا قد يكون الحكم عند القائلين بها هو حكم النص في زمان أو مكان أو حال معين ، ويترك ذلك الحكم في غيرها ، تبعاً للمصلحة ، وذلك متى كان النص وارداً لدرء المفسدة كما تقدم.
فالأمثلة لا تعلق لها بهذه القاعدة أصلاً ، بل عمومات دلت المخصصات على عدم دخول صورة بعينها في ذلك العموم ، فذلك الخاص حكمه واحد قبلاً وبعداً.
وأما قولكم، بارك الله فيكم، بأن ابن القيم لم يطبق القاعدة إلا على فروع منصوصة فهذا ليس بصحيح؛ لأنه وشيخه، رحمهما الله، يوردان القاعدة في سياق الاستدلال على مسائل خالفا فيه عموم النص لمصلحة، كمسألة بيع الحلي من الذهب بنفسه متفاضلا، فقد قاما باستثناء حلي الذهب من عموم تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلا، للحاجة والمصلحة، على طريقة الشارع في استثناء بيع العرايا من عمومات تحريم البيوع الربوية؛ لأن ربا الفضل عند الشيخين ليس محرما لذاته بل لما قد يؤدي إليه من ربا النسأ الذي هو ربا الديون. ومثل ذلك أيضا إجازتهما ميراث المسلم من الذمي دون العكس استثناء من عموم لا يتوارث أهل ملتين، ونحو ذلك من المسائل
أما أنهما رحمهما الله كانا يوردان القاعدة .. فلا أعلمه.
أما الأمثلة المذكورة .. فلا تعلق لها بالقاعدة أصلاً ، لأنها من باب الإستثناء من العام ، فليست هذه المسائل محرمة عندهما ثم أبيحت للحاجة ، بل هي ليست داخلة في عمومات النصوص المذكورة أصلاً ، فهي مباحة بدليل المخصصات ولو مصالح.
أما القاعدة فظاهرة في كونها في إباحة ما ثبت تحريمه بالنص الشرعي متى كان ذلك التحريم سداً للذريعة.
وقد تقدم الكلام فيه فلا حاجة إلى الإعادة
وبعض الأمثلة التي ذكرت ترك الحكم الشرعي لمصلحة أو درأ مفسدة ، فنفس النص الشرعي الدال عليها هو دال على اعتبار تلك المصلحة ، ولا إشكال في إعمالها حينئذٍ لأن العمل بتلك المصلحة عمل بالنص الدال على اعتبارها.
ولا يقال : فنعمل نحن ذلك حيث لا نص ؛ لأن القاعدة ميدانها هو حيث هناك نص ، ولا يجوز أن يكون المجتهد هو الذي يقرر تلك المصلحة باجتهاده لدفع دلالة النص مع اعترافه بدلالته على خصوص ما يريد نفي حكمه الشرعي ، فهذا أسوأ من الإستحسان الذي رده الأئمة بمن فيهم أبو حنيفة رحمه الله ، فإن استحسان الأحناف ليس هذا مجاله ، بل مجاله المسائل الفرعية التي اعتورتها أدلة متعارضة ، فإن كان أحد الدليلين مخرجاً للفرع عن نظائره سموه استحساناً ولو كان ذلك الدليل نصاً من كتاب الله سبحانه ، ولا يعارضون الكتاب ولا السنة ولو آحادية باستحسان غير مبني على أحدهما.
والله سبحانه أعلم