محمد بن فائد السعيدي
:: متخصص ::
- إنضم
- 23 مارس 2008
- المشاركات
- 677
- التخصص
- الحديث وعلومه
- المدينة
- برمنجهام
- المذهب الفقهي
- شافعي
بين حجية الإجماع.. ورحمة الاختلاف.
قد يُستدل على عدم الإنكار على المختلَف فيه بالقول الشهير: «إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة»، وهي قاعدةٌ عظيمة تناقلها علماء الإسلام.. كما قد يُستدل على ذلك بقول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غيره من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه».
وتنطوي هـذه القاعـدة على جوانب من الإيجاب والسلب، وفقاً لما نحن بصدده هنا، من ذلك:
1- هذه القاعدة كقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) سواء بسواء، تشتمل على معالم جليلة في الحياة الفقهية الإسلامية، غير أنها ليست على إطلاقها، وما قيل في تلك يُقال في هذه.
2- المراد من كون الاختلاف رحمة، ومن قول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله - إن صح عنه- هو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا حل لمن بعدهم…فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف؛ إذ قد يظهر النص لقوم ويغيب عن آخرين… ولا ينبغي لأحدٍ عنده قولان في مسـألة خـلافية - غير اجتهادية- أن يأخذ إلا بما يعضده الحَكَم الحق عند التنازع وهو النص قرآنياً كان أو نبوياً… قال ابن حزم، رحمه الله تعالى: «وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يمنعوا من الاجتهاد الذي أداهم إلى الاختلاف في تلك المسألة إذا أدى إنساناً بعدهم دليل إلى ما أدى إليه دليل بعض الصحابة»، وهذا صنيع ابن تيمية، وهو الذي أكد على الرحمة في الاختلاف، حيث كان يتوسع في المسائل الاجتهادية، وينكر في غيرها من الخلافيات على من خالف الدليل.
3- بل من العلماء من أنكر أن يكون (الاختلاف رحمة) مطلقاً، ومنهم بعض من نُسِب إليه القول المذكور؛ فقد رد الإمام مالك وغيره على ذلك فيما ذكره الشاطبي في قولـه: «وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. قيل له: فمن يقول: إن كل مجتهد مصيب. فقال: هذا لا يكون قولان مختلفان صوابين». ولو سُلِّم صحة هذا القول فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، أي أن المجتهد مصيبٌ بسلوكه طريق الاجتهاد، فهو حثٌ على الاجـتهاد، وعـدم الاتكال على الغير، وأن مسائل الخلاف قد جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعةً بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك. قال القاضي إسماعيل: «إنما التوسعة في اختلاف أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسـعةٌ في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسـعة أن يقـول الإنسـان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا»، قال ابن عبد البر: «كلام إسماعيل هذا حسن جدا».
4- ومن محامل الكلام السابق، أن المراد به مسائل الاجتهاد في العبادات المحضة أو غير المحضة مما لم يظهر الدليل فيها بوضوح، أو تجاذبته الأدلة ومقاصد الشريعة الشريفة، وهذا ما يدل عليه عمل من قعد القاعدتين الواردتين في هذا المبحث، وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني جامعاً بين الأمرين:
وأخذي باختلافهـم مبـاحٌ لتوسيع الإله على الأنامِ
ولست مخالفاً إن صح لي عن رسول الله قولٌ بالكلامِ
الاجتهاد من مقاصد الشريعة:
ويؤكد ما سبق حقيقة هامةٍ من حقائق الشريعة، هي أن الاجتهاد من مقاصد الشريعة، وفي مسائله السعة، وأما الاختلاف الذي يؤدي للتنازع فلـيس مقصـوداً للشريعة، ولا هو من طبيعتها، فالشـريعة «لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمةً بين المختلفين فيها، وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضـع الاشـتباه وكلوا ما لم يتعلق به عملٌ إلى عالمه على مقتضى قوله تعالى: (( وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ )) (آل عمران:7)، و[لأن]الفِطَر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشـارع، فلـو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها، وهم القدوة في فهم الشريعة، والجري على مقاصـدها،لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الـدالة على ذم الاختلاف».
وقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض في المسائل الاجتهادية من المسائل الخلافية، لكن الإنكار لم يتعد أن يكون باللسان، وقد يتسع بهذا الأسلوب إلى نوعٍ من التشهير غير القادح في صحة الدين، ولا التارك لحسن الظن بالمسلميـن، وهو ما صـارت أمم الأرض تفاخر به إن وجد عندها، وتدرجه تحت إطار النقد، وتعتبره قيمة إنسانية عليا، وحقاً من حقوق الإنسان في عـلاقته مع الآخر، دون أن يشـق ذلك على الآخر أو يعتبره تهجماً، أو قدحاً في العرض أو الدين، وتقدم بعض ما يدل على ذلك.
ومما يدل عليه أيضاً: ما جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِـيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْن،ِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ .. لكن عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا؟ قَالَ: الْخِلافُ شَرٌّ .
وتتجلى في موقف ابن مسعود رضي الله عنه، هنا، عدة آداب شرعية في كيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية:
- إنكاره على عثمان رضي الله عنه في مسألة اجتهادية إنكاراً تشهيرياً على الرغم من أن عثمان هو أمير المؤمنين فلم يقل: حكم الحاكم ملزم، ولا المسألة اجتهادية، ولا لا ينبغي الإنكار خوفاً من الوقوع في التشهير، ولم يقل النصح يجب أن يكون سراً.
- إنكاره عليه الإتمام مع أن المسألة اجتهادية عند الصحابة أنفسهم؛ فإن عائشة وعبد الله بن مسعود ذاته وعثمان رضي الله عنه يرون أن القصر رخصة، وأن الإتمام مشروع، لكن ابن مسعود أنكر ترك السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في منى... فهذا إنكارٌ لترك سنة لا لفعل محظور.
- لم يتعد الإنـكار في هذه المسألة الاجتهادية هذا القدر، بل عاد ابن مسعود عملياً فتابع عثمان، وقال: الخلاف شر . وهذا يوضح بجلاء أن الصحابة كانوا ينـكرون على بعضـهم، ويخطئون الاجتهاد، لم يقولوا: لا إنكار في مختلفٍ فيه، ولا قالوا: الخلاف رحمة واسعة، بل ابن مسعود يقول: الخلاف شر.. ولم يقولوا: كل مجتهدٍ مصيب، بل خطَّأ بعضهم بعضاً في عددٍ من المسائل الفقهية (الفرعية).. ولم يجعلوا أحداً فوق النقد، ولكنهم لم يفسدو الأخوة العامة، وواجباتها القطعية بمثل هذه المسألة، بل بعد أن يبين أحدهم حجته، ويُظْهِرَ خطأ الآخر يبقي يقره على اجتهاده، بغض النظر عن مخالفته له في نتيجة هذا الاجتهاد «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريقٍ للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك».
بيد أنه من المفارقات المؤلمة في الواقع الإسلامي المعاصر أن نشاهد صورتين طاغيتين:
الأولى: قـد ترى من يقوم بالنقد والتذكير الشرعي في مسألة فيها نص شرعي فإذا تمَّ التذكير به ثار المذكَّر على المذكِّر، وأشهر في وجهه سلاحاً قاطعاً لكل تذكيرٍ ونصحٍ وحوارٍ، هو سـلاح (المسألة خلافية) و(لا إنكار في مسائل الخلاف)…وقد تصادَرُ بمثل ذلك النصوص المعصومة ابتداءً، ويُصادَر العمل بمقتضاها تبعاً كما قال الشوكاني، رحمه الله تعالى: «وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)»، فتصـادر النصوص باسم أن الأفهام متغايرة، ولا بد من قبول الرأي الآخر .
الثانية: قد ترى من يقوم بالنقد والنصـح والتذكيـر والإنـكار بما يقتضيه الموقف، وبيان الأخطاء التي يجب أن تُتوقى في عملٍ إسـلامي أو فعل عام، أو اجتهاد خاطئ من قبل عالمٍ متبوع أو داعية مقلَّد... فيصادَر النصح، ويقمع التذكير، ويكبت الإنكار، ويُتَهمُ أصحابه بالجهالة والغرور والعمالة والفسق والفجور، والنفاق... إلى آخر المصطلحات القاتمة التي يعبث بها العابثون، فيتهمون الناقد بتوجيهها إليهم في حين يقومون بتسديدها له سهماً إثر سهم يقطعون أوصال الأخوة الإسلامية، ويقطعون أرحامهم... ويظهر بعضهم اقتفاء منهج السلف، وترك آثار من (تلف!)، ويظهر آخرون منهم أنهم أول المؤمنين بالحوار، والنابذين للصنمية الشخصية، وأفعالهم قد تبدي لنا غير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
من معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي
الناظر في الفقه الإسلامي، يلحظ مدى حفاوة أهل العلم بتقعيد قواعد متعددة لاستيعاب الخلاف استقاء من مقاصد الشريعة، ومن أهم هذه القواعد: قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي حاولنا مناقشتها ووضعها في مواضعها الحقة عند الاستشهاد بها فيما مضى.. ومن القواعد الأخرى المهمة التي وُضِعَتْ لاحتواء الخلاف خوفاً من أن يؤدي إلى التنازع، ولتكوين النفسية التي تقبل بوجوده وطبيعيته، بل وأهميته أحياناً، قاعدتان أخريان تذكران أحياناً في أصول الفقه وأحياناً في القواعد الفقهية وهما، «كل مجتهد مصيب»، و«استحباب الخروج من الخلاف».
أولاً: قاعدة (كل مجتهدٍ مصيب):
بُنيت قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) على قاعدة: (كل مجتهد مصيب).. يقول الإمام النووي، رحمه الله: «إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه»، وقال غيره: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد على من اجتهد فيها، وقلد مجتهداً، لأن المجتهد إما مصيب أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له».
والمقصد الأرشد والأسمى في وضع هذه القاعدة أمران:
الأول: هو الحفاظ على وحدة المسلمين، والنظر إلى أن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ قطعي، بخلاف المسائل الفقهية الفرعية التي ينتمي كثير منها إلى دائرة الظنيات.
الثاني: الحث على الاجتهاد لمن يملك أدواته في محاولة الوصول إلى هدى الله في الوقائع النازلة.
وقد غلا بعضهم في هذه القاعدة، فزعم أنها تشمل المسلمين وغيرهم ممن عرف الإسلام وسمع به، وقامت حجته عليه.
غير أن هناك نزاعاً في أصلها، وقد اختلفت فيها أقوال الأصوليين حتى تشعبوا، ولكنهم، كما قال الشوكاني «لم يأتوا بما يشفي طالب الحق»، لذلك انتهى الشوكاني إلى أن الدليل البيِّن الذي يرفع النـزاع «ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، هو الحديث الثابت في الصحيح من طرق: أن « الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً، واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر...».
وقد كان الصحابة يُخَطِّيء بعضهم بعضاً في الاجتهادات، حتى في المسائل الاجتهادية، كما تقدم، وكما «روي أن علياً رضي الله عنه وابن مسعود وزيداً خطَّؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصـفاً وثلثاً. قد ذهب النصفان بالمال فأين موضـع الثلث؟ وروي عن ابن عباس أنه قـال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً… وهذا إجماعٌ ظاهرٌ على تخطئة بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل» بل «كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار من يجوز أنه من أهل النار، وإن كان غفرانه في الجملة مقطوع»، بل ثبوت أجره على الاجتهاد أمر بدهي في الشريعة الإسلامية.
لذلك يمكن القول: إن المراد بهذه القاعدة - حال التسليم بها- هو أن الاجتهاد صواب في ذاته لا في نتيجته، وقد يكون المراد صواب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي لكل فيها حظٌ من النظر، لا في المسائل الخلافية، ولذا قـال الزركشي: «الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحـد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه، وإنما ينكرون ما خـالف نـصاً أو إجماعاً قطعياً أو قياساً جلياً»، فهذا الذي قرره الزركشي هو مدار البحث، وهو متفق عليه لا يخالف فيه أحد، إنما يتفرقون في التعبير والتفصيل بعد ذلك…ولكن المحاكمة تكون إلى هذا الأصل.
كما يمكن القول: بأن الخلاف حولها لفظي عند الجمع بين النواحي التنظيرية والتطبيقية للفقهاء القائلين بها، لقيامهم بالإنكار على مخالفيهم في الاجتهاد في مسائل خلافية، وعند القول بأن المراد من أن كل مجتهد مصيب في أصل الاجتهاد، أو في رفع الإثم عنه وثبوت الأجر له، أو في الاجتهاد في مسألة اجتهادية محتملة.
وهذا كله يقود إلى أن المراد الأعظم من وضع هذه القاعدة: الحث على الاجتهاد، واستكثار الآراء في المسألة للمتأهلين من أجل الوصول إلى الهدى الرباني، وأن يجتمع المسلمون حول عاصم الأخوة، وحقائقها القطعية.
ثانياً: قاعدة (استحباب الخروج من الخلاف):
وخوفاً من أن يؤدي الاختلاف إلى التنازع، ويطغى على حقوق الأخوة الإسلامية، فإن أهل العلم قد وضعوا قاعدة أخرى تمثل تتميماً لقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) وذلك بالنظر إلى النصوص القطعية التي تمنع التنازع بين المسلمين وتحرمه، واعتبار ذلك أحد المقاصد الهامة للشريعة الإسلامية... فالاختلاف، مهما كان مبرره، هو بوابة التنازع، وهذه القاعدة هي: (استحباب الخروج من الخلاف).
وقد صارت (مراعاة الخلاف) قاعدة فقهية معتمدة وعُرِّفت بأنها: إعمال دليل ( المخالف) في لازم مدلوله الذي أُعْمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر، أو يقال هي: اعتبار خـلاف (الغير) بالخروج منه عند قوة مأخذه بفعل ما اختلف فيه.
ومن أمثلة ذلك، أن الإمام مالك، رحمه الله، اختار أن يكون الوتر ثلاث ركـعات «لأن جماعة من أهل العلم يقولون الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها، فأراد مالك إبقاء الصورة إذ لم يجز عنده اتصالها».. والشافعية يستحبون مسح الرأس كله في الوضوء مع أنهم لا يقولون بوجوب ذلك مراعاة لخلاف المالكية.
وقسم العز بن عبد السلام الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل، كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن وكذلك مالك في أحد الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه... والضابط في هذا أن مأخذ المخالفة إن كان في غاية الضعـف والبعد من الصـواب فلا نظر إليه ولا التفات إليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن كانت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات.
ولكن الخلاف الذي يُراعى هنا هو ما كان في المسـائل الاجتهادية لا في كل خلاف، أي ما كان مأخذ المخالف فيما ذهب إليه قوياً بحيث لا يعد هفوة أو شذوذاً، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع فهو معدود في جملة الهفوات والسـقطات لا من الخلافيات المجتهدات، ومن ها هنا لم يراع خلاف أبي حنيفة رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين، وكذلك إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد.. ومنه أيضاً ما نقل عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية.
وإنما كان الحرص علىالخروج من الخلاف لسببين: خوفاً من احتمال التورط في نقيض مقصود الشارع بفعل ما هو خلاف الأولى مطلقاً؛ وللحاجة الماسة للأمة الإسلامية إلى تقريب وجهات النظر بينها، عسى أن تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها كأنها بنيان مرصوص.
فالاختلاف سواء كان اختلاف تنافٍ أو تضاد يؤدي إلى التنازع، بل إن اختلاف التنوع قد أدى إلى التنازع في صور قديمة ومعاصرة، فكيف إذا كان اختلاف تنافٍ؟
ومن المفاسد العظيمة التي يؤدي إليها التنازع مفسدتان: أولاهما: ظلم النصوص بوضعها في غير موضعها، ومصادرة ما عند كل طرفٍ من حق وباطل، وخطأ وصواب، لمجرد أنه ينتمي فكرياً إلى اتجاه إسلامي آخر، ثم يعقب ذلك أن تختار بعض هذه الاتجاهات من المذاهب والأقوال ما تشتهيه ويوافق هواها لا ما يوافق هدى الرحمن، والله تعالى يقول: (( وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ )) (ص:26)، ويقول: (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ )) (المائدة:77).
وقد يزينون هذا الخطأ الكبير بالاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) أمام عامة أتباعهم، ثم يمارسون أقسى أنواع الإنكار في واقعهم العملي.
وثانيهما: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم بعضاً، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عن عمل لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يؤثرون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات، وإسناد الوظائف، وبذل المساعدات، وتيسير المعاملات، من يكون فاقداً لأهلية ما أُسند إليه، قوة وأمانة، ويحاربون القوي الأمين بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، لمجرد الرغبة الشخصية في وجود شخص موافق لهم في كل صغير وكبير دون أدنى تقويمٍ أو نصح ٍحق، مكتفين بإلهاء أتباعهم بشيءٍ صوري من النصح والتذكير والإنكار.
من أخلاق الصحابة والسلف في الإنكار
استوعب الصحابة، رضوان الله عليهم، فقه الاختلاف، فلم يفسد الخلاف بينهم المعالم الإسلامية القطعية، مثل: الأخوة الإسلامية بحقوقها من حب ومودة ونصرة وتعاون، فأعملوا في ذلك قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) في موضعها فلم تمزق لهم وحدة، ولا شققت لهم أخوة.
ولم يتركوا النصح فيما بينهم والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ورد الخطأ، والتنبـيه عليه عندما يظهر في اجتهاد أحدهم، ولم يجعلوا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) على إطلاقها تستعلي على النصوص، وعلى المحكمات الشرعية لمجرد ظهور خلاف فلان منهم فيها، مع التماس العذر له في خلافه من سهوٍ أو نسيانٍ أو عدم بلوغ دليل .
لقد تمت عملية تطبيعٍ تربوية للصحابة بشأن عدم التنافي بين الإنكار وبين بقاء عاصم الأخوة وحقوقها، وبقاء جلالة قدر كل من الطرفين عند الطرف الآخر.. لذلك فإن المتأمل في مواقف بعض الصحابة، مما ورد في ثنايا هذا البحث وأقوالهم وعباراتهم التقويمية في الإنكار، بعضهم على بعض، وأساليبهم الراقية في التعامل مع الخـلاف، يخـلص إلى مـا يأتي مما يمكن تسميته، «آداب التذكير والإنكار في المسائل الاجتهادية»:
1- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يتقن حفظه، فيبين الآخر أن هذا هـو عذره، وهذا كما قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، في ابن عمر رضي الله عنهما: رحم الله أبا عبد الرحمن! سمع شيئاً فلم يحفظه.
2- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يفهم كيفية الجمع بينه وبين نصٍ آخر إلا بهيئة غير صحيحة، كما حاول ابن عمر الجمع بين أن تكون آخر صلاته من الليل وتراً، وبين حبه التنفل إن قام من نومه، فيضيف إلى الوتر في أول الليل ركعة أخرى لتصبح شفعاً، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الإنكار عليه: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليلعب بوتره.
3- قد يسمع المرء النص فلا يورده على أصل ما سمعه، إما لنسيان وإما لخطأ، وفي ذلك قالت السيدة عائشة في ابن عمر رضي الله عنهم: غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
4- قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه يحفظ بعضه ويترك بعضه دون شعوره أو لطارئ حدث أثناء الحديث.. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة! حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره.
5- قد يغفل المرء عن النص لعدم علمه به، فيفتي على خلافه، وفي ذلك تقول السـيدة عائشـة رضي الله عـنها: يرحـم الله أبا هريرة لم يحفظ... وقد رجع أبو هريرة إلى فتواها لما بلغه النص.
6- قد يذكر المرء النص دون أن يبين معناه فيقع السامع في حيرة لتعارض ظاهر ما سـمع مع نصـوص أخرى.. تقول السيدة عائشة في ابن مسعود رضي الله عنهم: يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم بحـديث لم تسألوه عن آخره.
7- قد يستلزم الإنكار نوعاً من التذكير بأهم الحقائق الإسلامية وهي التحاكم إلى الله ورسوله، وترك غيرهما ولو كان من أفضل الخلق...وذلك لتثبيت حقيقة الاستسلام لله وحكمه لا لظن أن العالم يخالف قول الله عمداً، ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما منكراً على اجتهادٍ لأبيه: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ذلك ابنه سالم فقال في مسألة شبيهة: «فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ بها من قول عمر»، ومثل ذلك قال في ابن عباس رضي الله عنهما: فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباسٍ إن كنت صادقاً؟
8- قد يكون العذر لمن أخطأ في الفتوى عدم تركيزه أثناء الإفتاء لعارض طارئ مما لا يخلو منه المرء أحياناً، كما قـال ابن عمر في أنس ابن مالك، رضي الله عنهم: يرحم الله أنساً، وهل أنس.
9- قد يكون سبب الخطأ في الفتوى زلل العالم، وذلك لا يخل منه أحد.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم..وهنا استبعد على ابن مسعود قولها، ثم استدرك أنه قد يحدث ذلك للطبيعة البشرية، فتكون زللاً ولا تؤثر على مقداره وجلالته.
الثناء على المجتهد والدعاء له قبل الإنكار عليه:
ومما يلحظ في الروايات السابقة كلها: تقديم الثناء على المجتهد، في المسائل الفرعية، والدعاء له، على بيان سبب خطئه وتصحيح ذلك الخطأ، ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فتوى لابن مسعود وقد خالف اجتهاده فيها: يرحم الله ابن مسعود، إن كان لفقيهاً!
ومما يصور طبيعة التواد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل التي اختلفوا فيها ما وقع بين عائذ بن عمرو وأبي برزة رضي الله عنهما، فقد كان عائذ بن عمرو يلبـس الخز، ويركب الخـيل، وكان أبو بـرزة لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين، فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك ونحوك، لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، فقال عائذ: يرحم الله أبا برزة، من فينا مثل أبي برزة.. ثم أتى أبا برزة فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هيئتك ونحوك، يركب الخيل ويلبس الخز، فقال: يرحم الله عائذاً! ومن فينا مثل عائذ.
وهذا الثناء على المخالف في مسألة معينة قبل بيان الصواب سمتٌ عند الأكابر والفضلاء في الأمة، فعن شريح القاضي أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيئ، فقال شريح: ((وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:227)،لم يزده عليها.. فأتى مسروقاً فذكر ذلك له فقال: يرحم الله أبا أمية! لو أنا قلنا مثل ما قال لم يُفَرَّجْ أحد عنه وإنما أتاه ليفرج عنه، ثم قال: هي تطليقة بائنة وأنت خاطب من الخطاب.
وهذا كقول الله جل جلاله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)) (التوبة:43) فقدم العفو على عتابه فيما فعل، وهذا يوضح لنا صورة الأدب الرفيع في التعامل مع الخطأ، وأن هذا الأدب لا يمنع من إنكار الخطأ مهما كان مقام العالم، وأن حدوث الاختلاف في الفتوى بين الأفاضل مع بقاء توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ووحدة صفهم مسألة بدهية في المجتمع المسلم يتقبلها العقل المسلم تلقائياً.
من أدب الشافعي في الخلاف:
للإمام الشافعي، في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الأخوة بحقوقها، أدب ونهج مستمد من نبع النبوة، فقد اختلف مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي، ولكن الصدفي تحدث عن الشافعي واستيعابه لفقه الخلاف فقال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة».. ومدرسة الشافعي مليئة بالنماذج الفذة من هذا الوجه الذي يستوعب فقه الخلاف، ففي ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو من تلامذته، ذُكِر تصانيفه ومنها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب في الرد على فقهاء العراق... قال الذهبي: «وما زال العلماء قديماً وحديثاً يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم وتتبرهن له المشكلات».
من أدب ابن حنبل في الخلاف:
ومن مدرسة ابن حنبل يُتَعلم كيفية استيعاب فقه الخلاف، فقد روى العباس بن عبد العظيم العنبـري (ت240هـ) قال: كنت عند أحمـد ابن حنبل وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، فتناظـرا في الشهـادة - أي الشهادة بالجنة للمبشرين بها- وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
وأرسـل إبراهيم بن عبد العزيز إلى إبراهـيم النظام مالاً أحـوج ما يكون إليه، وقال له: إن كنا اختلفنا في المقالة-أي في الرأي والمذهب-فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية، وقد رأيتك حيث مررت بي على حالٍ كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجة، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شـهر أو شـهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زماناً من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر.
فاستوعب أهل الفقه الخلاف، فلم تمنعهم الأخوة وطلب اجتماع المسلمين من الرد على بعضهم، وبيان أرائهم في صواب صاحبه وخطئه، ولم يؤد بهم الرد ولا الاختلاف في الاجتهاد إلى التنازع والتناحر والوقيعة فيما بينهم، وتمزيق عرى أخوتهم... وبقي بعضهم يثني على بعض.
هذا الموضوع عبارة عن سلسلة من كتاب" لا إنكار في مسائل الخلاف"
http://mmf-4.com/vb/showthread.php?p=5050#post5050
[/COLOR]
قد يُستدل على عدم الإنكار على المختلَف فيه بالقول الشهير: «إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة»، وهي قاعدةٌ عظيمة تناقلها علماء الإسلام.. كما قد يُستدل على ذلك بقول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غيره من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه».
وتنطوي هـذه القاعـدة على جوانب من الإيجاب والسلب، وفقاً لما نحن بصدده هنا، من ذلك:
1- هذه القاعدة كقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) سواء بسواء، تشتمل على معالم جليلة في الحياة الفقهية الإسلامية، غير أنها ليست على إطلاقها، وما قيل في تلك يُقال في هذه.
2- المراد من كون الاختلاف رحمة، ومن قول عمر بن عبد العزيز، رحمه الله - إن صح عنه- هو السعة في جواز أصل الاجتهاد، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا حل لمن بعدهم…فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف؛ إذ قد يظهر النص لقوم ويغيب عن آخرين… ولا ينبغي لأحدٍ عنده قولان في مسـألة خـلافية - غير اجتهادية- أن يأخذ إلا بما يعضده الحَكَم الحق عند التنازع وهو النص قرآنياً كان أو نبوياً… قال ابن حزم، رحمه الله تعالى: «وإذا صح الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يجوز أن يحرم على من بعدهم ما حل لهم من النظر، وأن يمنعوا من الاجتهاد الذي أداهم إلى الاختلاف في تلك المسألة إذا أدى إنساناً بعدهم دليل إلى ما أدى إليه دليل بعض الصحابة»، وهذا صنيع ابن تيمية، وهو الذي أكد على الرحمة في الاختلاف، حيث كان يتوسع في المسائل الاجتهادية، وينكر في غيرها من الخلافيات على من خالف الدليل.
3- بل من العلماء من أنكر أن يكون (الاختلاف رحمة) مطلقاً، ومنهم بعض من نُسِب إليه القول المذكور؛ فقد رد الإمام مالك وغيره على ذلك فيما ذكره الشاطبي في قولـه: «وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. قيل له: فمن يقول: إن كل مجتهد مصيب. فقال: هذا لا يكون قولان مختلفان صوابين». ولو سُلِّم صحة هذا القول فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد، أي أن المجتهد مصيبٌ بسلوكه طريق الاجتهاد، فهو حثٌ على الاجـتهاد، وعـدم الاتكال على الغير، وأن مسائل الخلاف قد جعل الله سبحانه وتعالى فيها سعةً بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك. قال القاضي إسماعيل: «إنما التوسعة في اختلاف أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسـعةٌ في اجتهاد الرأي، فأما أن يكون توسـعة أن يقـول الإنسـان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا»، قال ابن عبد البر: «كلام إسماعيل هذا حسن جدا».
4- ومن محامل الكلام السابق، أن المراد به مسائل الاجتهاد في العبادات المحضة أو غير المحضة مما لم يظهر الدليل فيها بوضوح، أو تجاذبته الأدلة ومقاصد الشريعة الشريفة، وهذا ما يدل عليه عمل من قعد القاعدتين الواردتين في هذا المبحث، وفي ذلك يقول أبو مزاحم الخاقاني جامعاً بين الأمرين:
وأخذي باختلافهـم مبـاحٌ لتوسيع الإله على الأنامِ
ولست مخالفاً إن صح لي عن رسول الله قولٌ بالكلامِ
الاجتهاد من مقاصد الشريعة:
ويؤكد ما سبق حقيقة هامةٍ من حقائق الشريعة، هي أن الاجتهاد من مقاصد الشريعة، وفي مسائله السعة، وأما الاختلاف الذي يؤدي للتنازع فلـيس مقصـوداً للشريعة، ولا هو من طبيعتها، فالشـريعة «لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمةً بين المختلفين فيها، وفي غيرها من متعلقات الدين، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضـع الاشـتباه وكلوا ما لم يتعلق به عملٌ إلى عالمه على مقتضى قوله تعالى: (( وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ )) (آل عمران:7)، و[لأن]الفِطَر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشـارع، فلـو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها، وهم القدوة في فهم الشريعة، والجري على مقاصـدها،لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الـدالة على ذم الاختلاف».
وقد أنكر الصحابة بعضهم على بعض في المسائل الاجتهادية من المسائل الخلافية، لكن الإنكار لم يتعد أن يكون باللسان، وقد يتسع بهذا الأسلوب إلى نوعٍ من التشهير غير القادح في صحة الدين، ولا التارك لحسن الظن بالمسلميـن، وهو ما صـارت أمم الأرض تفاخر به إن وجد عندها، وتدرجه تحت إطار النقد، وتعتبره قيمة إنسانية عليا، وحقاً من حقوق الإنسان في عـلاقته مع الآخر، دون أن يشـق ذلك على الآخر أو يعتبره تهجماً، أو قدحاً في العرض أو الدين، وتقدم بعض ما يدل على ذلك.
ومما يدل عليه أيضاً: ما جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِـيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّه عَنْه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه بِمِنًى رَكْعَتَيْن،ِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ .. لكن عَبْدَ اللَّهِ صَلَّى أَرْبَعًا، قَالَ فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا؟ قَالَ: الْخِلافُ شَرٌّ .
وتتجلى في موقف ابن مسعود رضي الله عنه، هنا، عدة آداب شرعية في كيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية:
- إنكاره على عثمان رضي الله عنه في مسألة اجتهادية إنكاراً تشهيرياً على الرغم من أن عثمان هو أمير المؤمنين فلم يقل: حكم الحاكم ملزم، ولا المسألة اجتهادية، ولا لا ينبغي الإنكار خوفاً من الوقوع في التشهير، ولم يقل النصح يجب أن يكون سراً.
- إنكاره عليه الإتمام مع أن المسألة اجتهادية عند الصحابة أنفسهم؛ فإن عائشة وعبد الله بن مسعود ذاته وعثمان رضي الله عنه يرون أن القصر رخصة، وأن الإتمام مشروع، لكن ابن مسعود أنكر ترك السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في منى... فهذا إنكارٌ لترك سنة لا لفعل محظور.
- لم يتعد الإنـكار في هذه المسألة الاجتهادية هذا القدر، بل عاد ابن مسعود عملياً فتابع عثمان، وقال: الخلاف شر . وهذا يوضح بجلاء أن الصحابة كانوا ينـكرون على بعضـهم، ويخطئون الاجتهاد، لم يقولوا: لا إنكار في مختلفٍ فيه، ولا قالوا: الخلاف رحمة واسعة، بل ابن مسعود يقول: الخلاف شر.. ولم يقولوا: كل مجتهدٍ مصيب، بل خطَّأ بعضهم بعضاً في عددٍ من المسائل الفقهية (الفرعية).. ولم يجعلوا أحداً فوق النقد، ولكنهم لم يفسدو الأخوة العامة، وواجباتها القطعية بمثل هذه المسألة، بل بعد أن يبين أحدهم حجته، ويُظْهِرَ خطأ الآخر يبقي يقره على اجتهاده، بغض النظر عن مخالفته له في نتيجة هذا الاجتهاد «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريقٍ للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك».
بيد أنه من المفارقات المؤلمة في الواقع الإسلامي المعاصر أن نشاهد صورتين طاغيتين:
الأولى: قـد ترى من يقوم بالنقد والتذكير الشرعي في مسألة فيها نص شرعي فإذا تمَّ التذكير به ثار المذكَّر على المذكِّر، وأشهر في وجهه سلاحاً قاطعاً لكل تذكيرٍ ونصحٍ وحوارٍ، هو سـلاح (المسألة خلافية) و(لا إنكار في مسائل الخلاف)…وقد تصادَرُ بمثل ذلك النصوص المعصومة ابتداءً، ويُصادَر العمل بمقتضاها تبعاً كما قال الشوكاني، رحمه الله تعالى: «وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد)»، فتصـادر النصوص باسم أن الأفهام متغايرة، ولا بد من قبول الرأي الآخر .
الثانية: قد ترى من يقوم بالنقد والنصـح والتذكيـر والإنـكار بما يقتضيه الموقف، وبيان الأخطاء التي يجب أن تُتوقى في عملٍ إسـلامي أو فعل عام، أو اجتهاد خاطئ من قبل عالمٍ متبوع أو داعية مقلَّد... فيصادَر النصح، ويقمع التذكير، ويكبت الإنكار، ويُتَهمُ أصحابه بالجهالة والغرور والعمالة والفسق والفجور، والنفاق... إلى آخر المصطلحات القاتمة التي يعبث بها العابثون، فيتهمون الناقد بتوجيهها إليهم في حين يقومون بتسديدها له سهماً إثر سهم يقطعون أوصال الأخوة الإسلامية، ويقطعون أرحامهم... ويظهر بعضهم اقتفاء منهج السلف، وترك آثار من (تلف!)، ويظهر آخرون منهم أنهم أول المؤمنين بالحوار، والنابذين للصنمية الشخصية، وأفعالهم قد تبدي لنا غير ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
من معالم استيعاب الاختلاف في التقعيد الفقهي
الناظر في الفقه الإسلامي، يلحظ مدى حفاوة أهل العلم بتقعيد قواعد متعددة لاستيعاب الخلاف استقاء من مقاصد الشريعة، ومن أهم هذه القواعد: قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي حاولنا مناقشتها ووضعها في مواضعها الحقة عند الاستشهاد بها فيما مضى.. ومن القواعد الأخرى المهمة التي وُضِعَتْ لاحتواء الخلاف خوفاً من أن يؤدي إلى التنازع، ولتكوين النفسية التي تقبل بوجوده وطبيعيته، بل وأهميته أحياناً، قاعدتان أخريان تذكران أحياناً في أصول الفقه وأحياناً في القواعد الفقهية وهما، «كل مجتهد مصيب»، و«استحباب الخروج من الخلاف».
أولاً: قاعدة (كل مجتهدٍ مصيب):
بُنيت قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) على قاعدة: (كل مجتهد مصيب).. يقول الإمام النووي، رحمه الله: «إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه»، وقال غيره: «ولا إنكار في مسائل الاجتهاد على من اجتهد فيها، وقلد مجتهداً، لأن المجتهد إما مصيب أو كالمصيب في حط الإثم عنه وحصول الثواب له».
والمقصد الأرشد والأسمى في وضع هذه القاعدة أمران:
الأول: هو الحفاظ على وحدة المسلمين، والنظر إلى أن مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ قطعي، بخلاف المسائل الفقهية الفرعية التي ينتمي كثير منها إلى دائرة الظنيات.
الثاني: الحث على الاجتهاد لمن يملك أدواته في محاولة الوصول إلى هدى الله في الوقائع النازلة.
وقد غلا بعضهم في هذه القاعدة، فزعم أنها تشمل المسلمين وغيرهم ممن عرف الإسلام وسمع به، وقامت حجته عليه.
غير أن هناك نزاعاً في أصلها، وقد اختلفت فيها أقوال الأصوليين حتى تشعبوا، ولكنهم، كما قال الشوكاني «لم يأتوا بما يشفي طالب الحق»، لذلك انتهى الشوكاني إلى أن الدليل البيِّن الذي يرفع النـزاع «ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب، هو الحديث الثابت في الصحيح من طرق: أن « الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً، واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر...».
وقد كان الصحابة يُخَطِّيء بعضهم بعضاً في الاجتهادات، حتى في المسائل الاجتهادية، كما تقدم، وكما «روي أن علياً رضي الله عنه وابن مسعود وزيداً خطَّؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصـفاً وثلثاً. قد ذهب النصفان بالمال فأين موضـع الثلث؟ وروي عن ابن عباس أنه قـال: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً… وهذا إجماعٌ ظاهرٌ على تخطئة بعضهم بعضاً في مسائل الاجتهاد، فدل على أن الحق من هذه الأقوال في واحد وما سواه باطل» بل «كان ينكر بعضهم على بعض أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار من يجوز أنه من أهل النار، وإن كان غفرانه في الجملة مقطوع»، بل ثبوت أجره على الاجتهاد أمر بدهي في الشريعة الإسلامية.
لذلك يمكن القول: إن المراد بهذه القاعدة - حال التسليم بها- هو أن الاجتهاد صواب في ذاته لا في نتيجته، وقد يكون المراد صواب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية التي لكل فيها حظٌ من النظر، لا في المسائل الخلافية، ولذا قـال الزركشي: «الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحـد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه، وإنما ينكرون ما خـالف نـصاً أو إجماعاً قطعياً أو قياساً جلياً»، فهذا الذي قرره الزركشي هو مدار البحث، وهو متفق عليه لا يخالف فيه أحد، إنما يتفرقون في التعبير والتفصيل بعد ذلك…ولكن المحاكمة تكون إلى هذا الأصل.
كما يمكن القول: بأن الخلاف حولها لفظي عند الجمع بين النواحي التنظيرية والتطبيقية للفقهاء القائلين بها، لقيامهم بالإنكار على مخالفيهم في الاجتهاد في مسائل خلافية، وعند القول بأن المراد من أن كل مجتهد مصيب في أصل الاجتهاد، أو في رفع الإثم عنه وثبوت الأجر له، أو في الاجتهاد في مسألة اجتهادية محتملة.
وهذا كله يقود إلى أن المراد الأعظم من وضع هذه القاعدة: الحث على الاجتهاد، واستكثار الآراء في المسألة للمتأهلين من أجل الوصول إلى الهدى الرباني، وأن يجتمع المسلمون حول عاصم الأخوة، وحقائقها القطعية.
ثانياً: قاعدة (استحباب الخروج من الخلاف):
وخوفاً من أن يؤدي الاختلاف إلى التنازع، ويطغى على حقوق الأخوة الإسلامية، فإن أهل العلم قد وضعوا قاعدة أخرى تمثل تتميماً لقاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) وذلك بالنظر إلى النصوص القطعية التي تمنع التنازع بين المسلمين وتحرمه، واعتبار ذلك أحد المقاصد الهامة للشريعة الإسلامية... فالاختلاف، مهما كان مبرره، هو بوابة التنازع، وهذه القاعدة هي: (استحباب الخروج من الخلاف).
وقد صارت (مراعاة الخلاف) قاعدة فقهية معتمدة وعُرِّفت بأنها: إعمال دليل ( المخالف) في لازم مدلوله الذي أُعْمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر، أو يقال هي: اعتبار خـلاف (الغير) بالخروج منه عند قوة مأخذه بفعل ما اختلف فيه.
ومن أمثلة ذلك، أن الإمام مالك، رحمه الله، اختار أن يكون الوتر ثلاث ركـعات «لأن جماعة من أهل العلم يقولون الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها، فأراد مالك إبقاء الصورة إذ لم يجز عنده اتصالها».. والشافعية يستحبون مسح الرأس كله في الوضوء مع أنهم لا يقولون بوجوب ذلك مراعاة لخلاف المالكية.
وقسم العز بن عبد السلام الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل، كقراءة البسملة في الفاتحة فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن وكذلك مالك في أحد الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه... والضابط في هذا أن مأخذ المخالفة إن كان في غاية الضعـف والبعد من الصـواب فلا نظر إليه ولا التفات إليه إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً، ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن كانت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات.
ولكن الخلاف الذي يُراعى هنا هو ما كان في المسـائل الاجتهادية لا في كل خلاف، أي ما كان مأخذ المخالف فيما ذهب إليه قوياً بحيث لا يعد هفوة أو شذوذاً، فإن ضعف ونأى عن مأخذ الشرع فهو معدود في جملة الهفوات والسـقطات لا من الخلافيات المجتهدات، ومن ها هنا لم يراع خلاف أبي حنيفة رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين، وكذلك إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد.. ومنه أيضاً ما نقل عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية.
وإنما كان الحرص علىالخروج من الخلاف لسببين: خوفاً من احتمال التورط في نقيض مقصود الشارع بفعل ما هو خلاف الأولى مطلقاً؛ وللحاجة الماسة للأمة الإسلامية إلى تقريب وجهات النظر بينها، عسى أن تجتمع كلمتها، وتتحد صفوفها كأنها بنيان مرصوص.
فالاختلاف سواء كان اختلاف تنافٍ أو تضاد يؤدي إلى التنازع، بل إن اختلاف التنوع قد أدى إلى التنازع في صور قديمة ومعاصرة، فكيف إذا كان اختلاف تنافٍ؟
ومن المفاسد العظيمة التي يؤدي إليها التنازع مفسدتان: أولاهما: ظلم النصوص بوضعها في غير موضعها، ومصادرة ما عند كل طرفٍ من حق وباطل، وخطأ وصواب، لمجرد أنه ينتمي فكرياً إلى اتجاه إسلامي آخر، ثم يعقب ذلك أن تختار بعض هذه الاتجاهات من المذاهب والأقوال ما تشتهيه ويوافق هواها لا ما يوافق هدى الرحمن، والله تعالى يقول: (( وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ )) (ص:26)، ويقول: (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ )) (المائدة:77).
وقد يزينون هذا الخطأ الكبير بالاستدلال بقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) أمام عامة أتباعهم، ثم يمارسون أقسى أنواع الإنكار في واقعهم العملي.
وثانيهما: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم بعضاً، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عن عمل لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم، لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يؤثرون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات، وإسناد الوظائف، وبذل المساعدات، وتيسير المعاملات، من يكون فاقداً لأهلية ما أُسند إليه، قوة وأمانة، ويحاربون القوي الأمين بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، لمجرد الرغبة الشخصية في وجود شخص موافق لهم في كل صغير وكبير دون أدنى تقويمٍ أو نصح ٍحق، مكتفين بإلهاء أتباعهم بشيءٍ صوري من النصح والتذكير والإنكار.
من أخلاق الصحابة والسلف في الإنكار
استوعب الصحابة، رضوان الله عليهم، فقه الاختلاف، فلم يفسد الخلاف بينهم المعالم الإسلامية القطعية، مثل: الأخوة الإسلامية بحقوقها من حب ومودة ونصرة وتعاون، فأعملوا في ذلك قاعدة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) في موضعها فلم تمزق لهم وحدة، ولا شققت لهم أخوة.
ولم يتركوا النصح فيما بينهم والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ورد الخطأ، والتنبـيه عليه عندما يظهر في اجتهاد أحدهم، ولم يجعلوا قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) على إطلاقها تستعلي على النصوص، وعلى المحكمات الشرعية لمجرد ظهور خلاف فلان منهم فيها، مع التماس العذر له في خلافه من سهوٍ أو نسيانٍ أو عدم بلوغ دليل .
لقد تمت عملية تطبيعٍ تربوية للصحابة بشأن عدم التنافي بين الإنكار وبين بقاء عاصم الأخوة وحقوقها، وبقاء جلالة قدر كل من الطرفين عند الطرف الآخر.. لذلك فإن المتأمل في مواقف بعض الصحابة، مما ورد في ثنايا هذا البحث وأقوالهم وعباراتهم التقويمية في الإنكار، بعضهم على بعض، وأساليبهم الراقية في التعامل مع الخـلاف، يخـلص إلى مـا يأتي مما يمكن تسميته، «آداب التذكير والإنكار في المسائل الاجتهادية»:
1- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يتقن حفظه، فيبين الآخر أن هذا هـو عذره، وهذا كما قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها، في ابن عمر رضي الله عنهما: رحم الله أبا عبد الرحمن! سمع شيئاً فلم يحفظه.
2- قد يسمع المرء النص، ويعرفه، ولكنه لا يفهم كيفية الجمع بينه وبين نصٍ آخر إلا بهيئة غير صحيحة، كما حاول ابن عمر الجمع بين أن تكون آخر صلاته من الليل وتراً، وبين حبه التنفل إن قام من نومه، فيضيف إلى الوتر في أول الليل ركعة أخرى لتصبح شفعاً، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الإنكار عليه: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليلعب بوتره.
3- قد يسمع المرء النص فلا يورده على أصل ما سمعه، إما لنسيان وإما لخطأ، وفي ذلك قالت السيدة عائشة في ابن عمر رضي الله عنهم: غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
4- قد يسمع المرء النص ويعرفه، ولكنه يحفظ بعضه ويترك بعضه دون شعوره أو لطارئ حدث أثناء الحديث.. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة! حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره.
5- قد يغفل المرء عن النص لعدم علمه به، فيفتي على خلافه، وفي ذلك تقول السـيدة عائشـة رضي الله عـنها: يرحـم الله أبا هريرة لم يحفظ... وقد رجع أبو هريرة إلى فتواها لما بلغه النص.
6- قد يذكر المرء النص دون أن يبين معناه فيقع السامع في حيرة لتعارض ظاهر ما سـمع مع نصـوص أخرى.. تقول السيدة عائشة في ابن مسعود رضي الله عنهم: يرحم الله أبا عبد الرحمن حدثكم بحـديث لم تسألوه عن آخره.
7- قد يستلزم الإنكار نوعاً من التذكير بأهم الحقائق الإسلامية وهي التحاكم إلى الله ورسوله، وترك غيرهما ولو كان من أفضل الخلق...وذلك لتثبيت حقيقة الاستسلام لله وحكمه لا لظن أن العالم يخالف قول الله عمداً، ومن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما منكراً على اجتهادٍ لأبيه: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ذلك ابنه سالم فقال في مسألة شبيهة: «فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ بها من قول عمر»، ومثل ذلك قال في ابن عباس رضي الله عنهما: فبقول رسول الله أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباسٍ إن كنت صادقاً؟
8- قد يكون العذر لمن أخطأ في الفتوى عدم تركيزه أثناء الإفتاء لعارض طارئ مما لا يخلو منه المرء أحياناً، كما قـال ابن عمر في أنس ابن مالك، رضي الله عنهم: يرحم الله أنساً، وهل أنس.
9- قد يكون سبب الخطأ في الفتوى زلل العالم، وذلك لا يخل منه أحد.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم..وهنا استبعد على ابن مسعود قولها، ثم استدرك أنه قد يحدث ذلك للطبيعة البشرية، فتكون زللاً ولا تؤثر على مقداره وجلالته.
الثناء على المجتهد والدعاء له قبل الإنكار عليه:
ومما يلحظ في الروايات السابقة كلها: تقديم الثناء على المجتهد، في المسائل الفرعية، والدعاء له، على بيان سبب خطئه وتصحيح ذلك الخطأ، ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فتوى لابن مسعود وقد خالف اجتهاده فيها: يرحم الله ابن مسعود، إن كان لفقيهاً!
ومما يصور طبيعة التواد بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل التي اختلفوا فيها ما وقع بين عائذ بن عمرو وأبي برزة رضي الله عنهما، فقد كان عائذ بن عمرو يلبـس الخز، ويركب الخـيل، وكان أبو بـرزة لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، ويلبس ثوبين ممصرين، فأراد رجل أن يشي بينهما، فأتى عائذ بن عمرو فقال: ألم تر إلى أبي برزة يرغب عن لبسك وهيئتك ونحوك، لا يلبس الخز ولا يركب الخيل، فقال عائذ: يرحم الله أبا برزة، من فينا مثل أبي برزة.. ثم أتى أبا برزة فقال: ألم تر إلى عائذ يرغب عن هيئتك ونحوك، يركب الخيل ويلبس الخز، فقال: يرحم الله عائذاً! ومن فينا مثل عائذ.
وهذا الثناء على المخالف في مسألة معينة قبل بيان الصواب سمتٌ عند الأكابر والفضلاء في الأمة، فعن شريح القاضي أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيئ، فقال شريح: ((وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:227)،لم يزده عليها.. فأتى مسروقاً فذكر ذلك له فقال: يرحم الله أبا أمية! لو أنا قلنا مثل ما قال لم يُفَرَّجْ أحد عنه وإنما أتاه ليفرج عنه، ثم قال: هي تطليقة بائنة وأنت خاطب من الخطاب.
وهذا كقول الله جل جلاله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ)) (التوبة:43) فقدم العفو على عتابه فيما فعل، وهذا يوضح لنا صورة الأدب الرفيع في التعامل مع الخطأ، وأن هذا الأدب لا يمنع من إنكار الخطأ مهما كان مقام العالم، وأن حدوث الاختلاف في الفتوى بين الأفاضل مع بقاء توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ووحدة صفهم مسألة بدهية في المجتمع المسلم يتقبلها العقل المسلم تلقائياً.
من أدب الشافعي في الخلاف:
للإمام الشافعي، في استيعاب واقعية الاختلاف في المسائل الاجتهادية مع بقاء الأخوة بحقوقها، أدب ونهج مستمد من نبع النبوة، فقد اختلف مع تلميذه يونس بن عبد الأعلى الصدفي، ولكن الصدفي تحدث عن الشافعي واستيعابه لفقه الخلاف فقال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة».. ومدرسة الشافعي مليئة بالنماذج الفذة من هذا الوجه الذي يستوعب فقه الخلاف، ففي ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وهو من تلامذته، ذُكِر تصانيفه ومنها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب في الرد على فقهاء العراق... قال الذهبي: «وما زال العلماء قديماً وحديثاً يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم وتتبرهن له المشكلات».
من أدب ابن حنبل في الخلاف:
ومن مدرسة ابن حنبل يُتَعلم كيفية استيعاب فقه الخلاف، فقد روى العباس بن عبد العظيم العنبـري (ت240هـ) قال: كنت عند أحمـد ابن حنبل وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، فتناظـرا في الشهـادة - أي الشهادة بالجنة للمبشرين بها- وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
وأرسـل إبراهيم بن عبد العزيز إلى إبراهـيم النظام مالاً أحـوج ما يكون إليه، وقال له: إن كنا اختلفنا في المقالة-أي في الرأي والمذهب-فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية، وقد رأيتك حيث مررت بي على حالٍ كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجة، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شـهر أو شـهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زماناً من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر.
فاستوعب أهل الفقه الخلاف، فلم تمنعهم الأخوة وطلب اجتماع المسلمين من الرد على بعضهم، وبيان أرائهم في صواب صاحبه وخطئه، ولم يؤد بهم الرد ولا الاختلاف في الاجتهاد إلى التنازع والتناحر والوقيعة فيما بينهم، وتمزيق عرى أخوتهم... وبقي بعضهم يثني على بعض.
هذا الموضوع عبارة عن سلسلة من كتاب" لا إنكار في مسائل الخلاف"
http://mmf-4.com/vb/showthread.php?p=5050#post5050
[/COLOR]