رد: هل من الصواب اعتبار أن المعتمد فى المذهب هو فقط مافى كتاب الأم لقوة النسبة للامام ؟
المقلد الذي لم يحصل من آلات الاجتهاد شيئا تمتنع عليه الفتوى بما في المذهب أو غيره. هذا أمر مسلم عند الجميع
في الحقيقة ليس مسلماً عند الجميع يا دكتور ، فلو اقتصرتَ على ما قابلها لعلنا وافقناكم.
وإلا فابن الصلاح نفسه عد في الرابعة من درجات المفتين من لا يعرف من العلم إلا حفظ مذهبه وفهمه مع عجزه عن تقرير أدلته وتحرير أقيسته ثم قال : "فهذا يعتمد
نقله وفتواه به فيما
يحكيه من مسطورات مذهبه، من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم ... "، وهو الذي قال فيه في الحكم العاشر من أحكام المفتين : "لا يجوز لمن كانت فتياه نقلاً لمذهب إمامه إذا اعتمد في نقله على الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته، ..." إلخ.
إلا أن تظن أن فهم مسائل المذهب اجتهاد ، فلم يكن مقصودي ، لأن من بلغ أن لا يفهم ما يقرأ فهذا عامي أو أسواء ، وليس الكلام عليه، لأن شرط المفتي على ما نص عليه ابن الصلاح وتوبع عليه فقه النفس، وهو أمر آخر سوى الاجتهاد، لذا الزمه أن يتابع مجتهدي مذهبه ولو كان منهم لم يحتج إليه. (أدب المفتي والمستفتي) ص 99 - 100 ط مكتبة العلوم والحكم.
فتفريقكم بين العمل والفتوى لا أره المعمول به عند المتمذهبين بل هو ما صرح به ابن الصلاح من امتناع العمل فضلا عن الفتوى إن كان من أهلها
فإذاً عن ابن الصلاح ننقل ، قال رحمه الله : "هل للمفتي المنتسب إلى مذهب الشافعي مثلاً أ، يفتي تارةً بمذهب آخر؟ فيه تفصيل : وهو أنه إذا كان ذا اجتهاد فأداه اجتهاده إلى مذهب إمامٍ آخر اتبع اجتهاده ، وإن كان اجتهاده مقيداً مشوباً بشيء من التقليد ، نقل ذلك الشوب من التقليد إلى ذلك الإمام الذي أداه اجتهاده إلى مذهبه ، ثم إذا أفتى بيّن ذلك في فتياه ..... وأما إذا لم يكن ذلك بناءً على اجتهادٍ ، فإن ترك مذهبه إلى مذهب هو أوسع .. فالصحيح امتناعه ، وإن تركه لكون الآخر أحوط المذهبين ، فالظاهر جوازه، ثم عليه بيان ذلك في فتواه على ما تقدم" (أدب المفتي والمستفتي) ص 121 - 122.
لكن تقييده في الحالة الثانية بالإنتقال إلى الأحوط فيه نظر ، وأول من نقضه أنتم فضيلة الدكتور في بعض مشاركاتكم في موضوعنا المنقول (
جسارة الإنتقاء وأكذوبة التقليد) ، ونص عليه أئمتنا أيضاً في مسائل عدة كاتباع أحمد في جواز القصر في المطر ، والاكتفاء في الجمعة باثني عشر تبعاً لمن قال به أو اختاره ، وفسخ نكاح من طالت غيبته وجهلت حالته ولم يترك نفقة ، بل بعضهم ذهب إلى جواز تقليد شيخ الإسلام في وقوع الطلاق واحدة مع شدة إنكارهم عليه رحم الله الجميع ، وإن رده عليهم آخرون.
وهاك كلام ابن حجر في النص على التفرقة : (وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُقَلِّدِ بَيْنَ قَوْلَيْ إمَامِهِ أَيْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ كَيْفَ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ مَنْعُ ذَلِكَ
فِي الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ دُونَ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَانْتَصَرَ لَهُ الْغَزَالِيُّ كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَسَاوِي جِهَتَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ إجْمَاعًا وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَمْتَنِعُ إنْ كَانَا فِي حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَإِيجَابٍ وَتَحْرِيمٍ بِخِلَافِ نَحْوِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَجْرَى السُّبْكِيُّ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ
فِي الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَيْ مِمَّا عَلِمْت نِسْبَتَهُ لِمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَجَمِيعُ شُرُوطِهِ عِنْدَهُ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
أَيْ فِي قَضَاءٍ أَوْ إفْتَاءٍ وَمَحَلُّ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ صُوَرِ التَّقْلِيدِ مَا لَمْ يَتَتَبَّعْ الرُّخَصَ بِحَيْثُ تَنْحَلُّ رِبْقَةُ التَّكْلِيفِ مِنْ عُنُقِهِ، وَإِلَّا أَثِمَ بِهِ بَلْ قِيلَ فَسَقَ وَهُوَ وَجِيهٌ قِيلَ وَمَحَلُّ ضَعْفِهِ أَنَّ تَتَبُّعَهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ وَإِلَّا فَسَقَ قَطْعًا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ كَالْآمِدِيِّ مَنْ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَعَ الثَّانِي تَرَكُّبُ حَقِيقَةٍ لَا يَقُولُ بِهَا كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ رَأَيْت السُّبْكِيَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَتَاوِيهِ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ بَسْطٍ فِيهِ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمْعٌ فَقَالُوا إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ نَفْسِهَا لَا مِثْلِهَا خِلَافًا لِلْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ)
ومقتضى تقييده قول ابن الصلاح (لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ) بالقضاء والإفتاء ، جواز تقليد غيرهم في العمل.
وقد صنف الشرنبلالي رحمه الله (العقد الفريد) ـ وليس هو (العقد الفريد) للسمهودي ـ واعتنى فيه بهذه المسألة بخصوصها، وذكر له أمثلة طريفة ، منها أن القاضي أبا الطيب الطبري هم بالتكبير للجمعة بعد أن أقيمت الصلاة ، فذرق عليه طائر ، فقال : أنا حنبلي ، ثم أحرم ودخل في الصلاة ، وتعقب الشرنبلالي الحكاية بقوله : "ومعلوم أنه إنما كان شافعياً يتجنب الصلاة بذرق الطير ، فلم يمنعه عمله ، أي السابق بمذهبه ، تقليد المخالف عند الحاجة إليه" انتهى المقصود.
ثم في كل أتباع مذهب طرفين ووسط ، فإن وجد من يمنع من الخروج عن المذهب مطلقاً ، فدعه وخذ بقول من يجيز الخروج بشرطه ، وبذا نعلم أن ليس القول في التمذهب من العيب إلا ما تراه في دعوى وجوب تركه .
والله أعلم