العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

مراعاة الخلاف الخروج من الخلاف: كلام الشاطبي من الإشكال والسؤال إلى النضج والتحرير

إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
[مراعاة الخلاف، الخروج من الخلاف سياق المسألتين في كلام الشاطبي من الإشكال والسؤال إلى النضج والتحرير]


بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }
أما بعد:
إذا ذكرت مسألة "مراعاة الخلاف" فلا بد أن يذكر الشاطبي رحمه الله
ليس لأنه بحث هذه المسألة في كتبه
ولا لأنه حققها بالبحث والتحرير.
ولا حتى لأنه راسل فيها شيوخه في إفريقية وتونس وفاس ثم كرَّ عليهم بالجواب والنقاش بل والنصيحة...
ولكن لسبب آخر يجاوز هذه المعاني كلها:
وهو أن شخصية الشيخ إبراهيم بن موسى الشاطبي ظهرت في هذه المسألة بشكل مختلف وبصورة غير معتادة.
فقد أظهرت هذه المسألة:
أبا إسحاق الشاطبي كطالب علم يتحرى الحقيقة من مصادرها...
وكطالب علم لا يرضى تمرير المسائل المشكلة من غير إيقافها بالسؤال والتفتيش والإشكال حتى تنحل أو تبقى كما هي مشكلة.
وكطالب علم أيقن أن هذه الشريعة من عند الله لا تختلف بل تأتلف، فيستأهله ذلك إلى أن يقيم الدنيا ويقعدها من أجل بحث مسألة أشكلت عليه يمر نظائرها بعجرها وبجرها على مسامع بعض المشتغلين بتحصيل علوم الشريعة لكن تمر كما يمرّ السحاب، وكأن شيئا لم يكن!
إلا أنها ليست كذلك عند أبي إسحاق فثمة إشكال يعرض لها فلا بد من إخضاعها للبحث والسؤال والتحرير وإرجاعها إلى أصولها و النظر في ملائمة فروعها... حتى تتبدّى له معالمها شيئا فشيئا بما يسر الناظرين ويبهج السامعين.
إن من يتعجب من إبداع الشاطبي وما صنعه في كتابيه "الموافقات والاعتصام" ويتساءل!
فِإننا ندعوه هنا لينظر ويرى كيف كان يعالج أبو إسحاق أفراد المسائل
وكيف كان يجهد نفسه في تعاطي آحاد الدلائل
لنعلم بعد ذلك السر في الشاطبي، والسر في إبداعه والسر في تميز إنتاجه.
لم يكن ذكاء الشاطبي وحده هو الذي أنتج له ما أنتج، فإن الأذكياء غيره كثير.
ولم تكن سعة معلوماته كفيلة بإبراز مكنوناته بل إنه – كما ذكر عن نفسه - رجل لا يعتني بكتب المتأخرين لأنها بحسب شيخه القباب أفسدت العلم...
إذا ما استثنينا توفيق الله وتيسيره وهدايته فإن السر البشري الذي كان وراء كتب الشاطبي ووراء إبداعه يكمن في نفسه التي بين جنبيه فإنها مرباة على تلقي العلوم من منابعها الأصيلة ومن مصادرها العتيقة آخذة ضرورة انتظامها علما مقرر وعملا حاضرا بعيدا كل البعد عن تكلف تأويل أو تمحل جواب.
هذه الصورة بكل بساطة أستطيع أن أجزم بأنها هي السر في الشاطبي، وهي السر نفسه في أترابه من أئمة التجديد....
بل إني أذهب إلى القول إلى ما هو أبعد من هذا، فأقول:
إن النفس الصادقة الجادة المتلهفة إلى تحصيل الحقائق والتي أنضجت لنا شيخ المقاصد أبا إسحاق الشاطبي هي ذات النفس التي أنضجت لنا أبا محمد ابن حزم الظاهري الذي قامت مدرسته على معنىً مناوئ لاعتبار المعاني والعلل والمقاصد.
ولسنا في محل بيان ذلك وتقريره ولكن المقصود معرفة القوة الدافعة والتي كانت قاسما مشتركا بين أئمة التجديد.
----------------
وأذكر هنا إلى أن سبب كتابة هذا الموضوع: "مراعاة الخلاف، الخروج من الخلاف سياق المسألتين في كلام الشاطبي من الإشكال والسؤال إلى النضج والتحرير" أمور:
منها:
خلط بعض من كتب في هذا الموضوع في تناول هاتين المسألتين مع ظهور الفرق بينهما صورة ودليلا واعتبارا وخلافا لاسيما عند الشاطبي والذي انطلق أكثر من كتب في هذا الموضوع من حيث انتهى .
ومنها:
ما يقع من الاجتزاء من كلام أبي إسحاق وبدا لي أن كلامه يحتاج إلى إعادة جمع وترتيب ثم تسجيل نتائج محددة يظهر من خلالها معالم رأي الشاطبي على وجه التحديد، لاسيما وأنه لم يظهر لي – على أقل تقدير بحسب البحوث التي اطلعت عليها – من تتبع سير الشاطبي في بناء هذه المسألة.
ومنها:
أن قاعدة مراعاة الخلاف قد نضجت عند الشاطبي نضجا بالغا إلى الحد الذي ذكر فيه - في معرض تطبيقه لهذه القاعدة تفريعا على الأصل في اعتبار المآل -:

أنه مجال للمجتهد صعب المورد


إلا أنه:


1- عذب المذاق.


2- محمود الغب.


3- جار على مقاصد الشريعة.

ومنها:
أهمية هاتين المسألتين من جهة العملية لاسيما في الواقع اليوم والذي جدت فيه من المسائل الشيء الكثير والذي يحوج الناظر من جهة والعامل من جهة أخرى إلى إنزال هاتين القاعدتين في منازلها اللائقة بها.
------------------
بقي أن أعزز ما ذكرته أولا من شخصية الشاطبي والتي اتضح تميزها في معالجة هذه المسألة:
بأن أبا إسحاق لما راسل شيخه ومفيده الذي كان يحبه ويجله كثيرا أبا العباس أحمد بن القباب في إشكالاته حول هذه المسألة:
أجابه شيخه:
بأن مراعاة الخلاف من محاسن المذهب
ثم استشهد بالبيت المعروف:
وكم من عائبٍ قولا صحيحا ***** وآفته من الفهم السقيم
ثم انتقل مباشرة إلى بحث المسألة.
فأجابه أبو إسحاق بمناقشة جوابه ثم ختم جوابه بنصيحة تعقب فيها شيخه على تعريضه بالبيت السابق فقال له:

وجرى في كلامكم عن هذه المسألة أنكم لما حكيتم عن العلماء استشكال القول بمراعاة الخلاف نزعتم بالبيت إلى من استشكله فهو بعيد الفهم عن الصحة.


وأنا يا سيدي أستثقل الحوم حول هذه المنازع التي تشير إلى استنقاص من تقدم من أهل العلم المتسشكلين إذ منهم أبو عمر بن عبد البر وسواه، وإن كان الإشارة على بعد.


وأنتم أعرف بما فيها منا، وإنما حسن النظر معهم أن يكون على جهة الاستشكال وتوقف الفهم عما أرادوه فهو أليق بآداب العلماء، وأخلاق الفضلاء، وأحرى بتنوير القلب وانشراح الصدر وأجلب للفائدة في الدنيا والآخرة.


والمقصود بعد ذلك حاصل إذا تبين فيه الإشكال وظهر ما هو الصواب فإن ظهر أن الصواب خلاف ما قالوه التمس لهم أحسن المخارج وحمل كلامهم على أقرب ما يليق به من مناحي الصحة أو يبين ما هو الحق عند الناظر وحسنت الإشارة إلى رد ما خالفه فهذا الذي يظهر لي وبالله التوفيق.


فراجعه القاضي أبو العباس أحمد بن القباب بما نصه:


يا أخي رضي الله عنكم وصلني ما كتبتم لي به فيما سألتموه مما لا ترضونه من جوابي في كذا وكذا وحصل لي من ذلك في الوقت ما الله المسؤول أن يثيبكم عليه، ويعظم به أجوركم وما أحق المسؤول أن يعود سائلا، فلكم الفضل أولا وآخرا.


وقد وضح لكم صدق مقالي أني لست أهلا لهذا المقام، لكني تكلفت الجواب إسعافا لرغبتكم ، وقضاء لحق صدقكم ومبلغ نفس عذرها مثل منجم إلى غير ذلك مما تضمنه


كتابكم من الفوائد والنصح."


فتأمل:


كيف بلغت نفس أبي إسحاق مبلغا متجردا في الصدق والنصيحة أن تعقب شيخه ومفيده أبا العباس ابن القباب لمجرد التعريض ببيت من الشعر والذي يدور كثيرا على ألسنة العلماء.


ثم يبلغ العجب منتهاه:


حين يجيب الشيخ تلميذه على نصيحته فيدعو له بالرضى وأنه قد حصل له من الخير منذ وقت نصيحته ما الله المسؤول بأن يثيب تلميذه عليه


ثم يفصح بإفادته من جواب تلميذه فيقول:


وما أحق المسؤول أن يعود سائلا والمفيد مستفيدا، وأنه ليس أهلا لهذا المقام وإنما تكلف الجواب إسعافا لرغبتة......


فرحمهم الله وغفر لهما وأجزل مثوبتهما.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
استهلال:


على طرة مخطوطة الموافقات وهي من محفوظات دار الكتب الوطنية بتونس والتي اتخذها الشيخ مشهور آل سلمان أصلا لتحقيقه ما يلي:

"قلت: مسألة مراعاة الخلاف قد أشار إليها في المقدمة الثالثة عشرة من هذا الكتاب، وقد استوفى كلامه وكلام القباب وابن عرفة أبو يحيى بن عاصم في "شرح منظومة" أبيه، وقد ذكر في "المعيار" أسئلته التي وجهها إلى ابن عرفة غير معزوة إليه، وذكر أجوبة ابن عرفة عنها، وقد رأيت منسوبا لابن عاصم أسقاط كثير من تلك الأجوبة؛ لغموض تلك المسائل؛ فراجعها في سفر البيوع."(1)

---------------------

++ مصادر ومراجع مسألة [مراعاة الخلاف]:++
1- مراعاة الخلاف في المذهب المالكي وعلاقتها ببعض أصول المذهب وقواعده. لـ الدكتور محمد الأمين ولد محمد علي ابن الشيخ.
2- مراعاة الخلاف عند المالكية وأثره في الفروع الفقهية لـ محمد أحمد شقرون (رسالة ماجستير ) جامعة أم درمان.
3- مراعاة الخلاف بحث أصولي لـ عبد الرحمن بن معمَّر السنوسي.
4- مراعاة الخلاف في المذهب المالكي لـ يحيى السعيدي
5- القواعد لأبي عبد الله المقَّري.
6- الموافقات للشاطبي.
7- الاعتصام للشاطبي.
8- المعيار المعرب للونشريسي.

-------------------

سأتناول هذا الموضوع بحول الله وقوته من خلال تمهيد ومبحثين اثنين:

تمهيد:وقد سبق.


المبحث الأول: الخروج من الخلاف.


المبحث الثاني: مراعاة الخلاف.


-------------------------


المبحث الأول: مراعاة الخلاف


سيتم بمشية الله تناول هذه المبحث عبر ثلاثة مطالب:


المطلب الأول: سياق سؤال الشاطبي وإشكالاته في هذه القاعدة إلى شيخه أبي عبد الله ابن عرفة ثم عرض جوابه عليه.


المطلب الثاني: عرض رأي الشاطبي في هذه المسألة حسب سياقه لها في كتابه الموافقات.


المطلب الثالث:تسجيل النتائج.


=======================

1) الموافقات - (ج 1 / ص 64)
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المطلب الأول:


سياق سؤال الشاطبي وإشكالاته في هذه القاعدة إلى شيخه أبي عبد الله ابن عرفة ثم عرض جوابه عليه:

تمهيد:
في المعيار المعرب ما يلي:
كتب بعضُ فقهاء غرناطة بمدينة تونس للسيد الفقيه الإمام العالم المفتي الخطيب المدرس المقرئ المحقق الأكمل أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة رضي الله عنه، أسئلة ثمانية في مواضع مختلفة.(1)
والذي يبدو لي بشكل ظاهر جدا أن صاحب هذه الأسئلة هو أبو إسحاق الشاطبي لجملة من الأسباب منها أن بعض هذه الأسئلة وأجوبتها ذكرها الشاطبي بنصها في كتابيه: الموافقات والاعتصام، ومنها جملة من المسائل التي شاع الخلاف فيها بين الشاطبي وبين بعض مشايخه حتى كانت من الأسباب الدافعة للشاطبي في تأليف كتابه "الاعتصام"
كما أن أبا العباس أحمد بن يحيى الونشريسي في كتابه "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي علماء إفريقية والأندلس والمغرب" التي وردت فيه هذه الأسئلة
كان قد نسب هذه الأسئلة إلى أبي إسحاق الشاطبي لكن في موضع آخر غير الموضع الذي وردت فيه الأسئلة، وذلك في معرض إيراده لجواب الشيخ الآخر لأبي إسحاق والذي كاتبه أيضا في شأن هذه المسألة وهو أبو العباس أحمد بن القباب
فقد ذكر الونشريسي هناك في صدر جواب ابن القباب:
أن الشاطبي قد اعتمد هذه المسألة بالتحقيق واعتنى بالسؤال عنها فكتب فيها ابتداء ومراجعة لمن عاصره من علماء فاس وإفريقية.
ثم بين:
أنه قد سبق جواب شيخه ابن عرفة.
مشيرا إلى هذا الأسئلة الثمانية.
-------------------
ومن جملة هذه الأسئلة الثمانية:
1- الكلام في مراعاة الخلاف.
2- والكلام في اعتبار الخروج من الخلاف من الورع.
وهما يمثلان المسألتان الرابعة والخامسة على التوالي من هذه الأسئلة الثمانية.
وسنقتصر هنا على إيراد السؤال الخامس المتعلق بالخروج من الخلاف، ثم نورد إن شاء الله في مبحث مراعاة الخلاف السؤال الرابع المتعلق به:
يقول الشاطبي في مطلع هذا السؤال:
إن الغزالي وابن رشد وجماعة غيرهما كالقرافي جعلوا من الورع الخروج من الخلاف بناء على أن الأمور المختلف فيها في الفروع الشرعية من المتشابهات التي ورد الحديث بالتحريض على اتقائها وذلك يشكل علي من وجوه....
قال أبو فراس:
وقد لخص سؤال الشاطبي الطويل بعضُ مَنْ نَسَخَ الموافقات، في الموضع الذي أشار فيه الشاطبي إلى جواب شيخه ابن عرفة، يقول ملخِّص السؤال:(2)
"المراد بهذا البعض [ٍأي المذكور في الموافقات، فقد أبهم الشاطبي اسم شيخه] هو الشيخ الإمام ابن عرفة التونسي، كما يعلم ذلك بمراجعة أوائل "البرزالي"؛ فإنه ذكر ورود السؤال من بعض فقهاء غرناطة -يعني: المصنف- عن الشيخ ابن عرفة في مسائل عديدة، من جملتها هذه المسألة؛ فذكر عن السائل المذكور البحث فيها من سبعة أوجه:
أحدها:
أن الورع:
1- إما لتوقع العقاب.
2- أو [لفوات] (3) الثواب.
وإلا؛ فليس بورع.
أما الأول [ أي طلب الورع في الخروج من الخلاف توقعا للعقاب]:
فالإجماع على عدم تأثيم المخطئ في الفروع، وإذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب؛ فالأمر واضح.
أما الثاني [أي طلب الورع في الخروج من الخلاف حتى لا يفوت الثواب]:
فلأن المخطئ مأجور كالمصيب، وإذا قلنا: إن المصيب أكثر أجرا؛ فلعل الخطأ في الجهة التي [مال] (4) إليها المتورع إذ المخطئ غير متعين.
[فإذا لا توقع عقاب ولا فوت ثواب على الجملة فلا موضع للورع] (5)
وثانيها:
أن هذا الخروج لا يتصور، فإن المتورع إذا انكب عن الفعل المختلف فيه بالحل والحرمة؛ فقد رجع [إلى المذهب المحرم] (6) إذ لم ينكب إلا خوف الإثم؛ فإن المنكب لأمر آخر ليس بورع [وإن أقدم على الفعل فهو رجوع إلى مذهب المحلل] (7)
وثالثها:
أن المتورع:
1- إن كان مجتهدا [ففرضه ما أداه إليه اجتهاده فلا ورع في حقه إذ هو متبع للدليل] (8) يعرض ما أداه إليه اجتهاده، فإن تعارضت الأدلة؛ فالترجيح، وإلا؛ فالوقف أو التخيير.
2- وإن كان مقلدا؛ فإن قلد أحد المجتهدين لم يتمكن له في قضيته تلك أن يقلد الآخر، ولا أن يجمع بينهما لأنهما متضادان، ولا له أن ينظر لأنه ليس من أهل النظر.
ورابعها:
[إن هذا الورع الخاص] (9) لم يثبت عن الصحابة والتابعين أنهم استعملوه، بل حديث "أصحابي كالنجوم" مطلق في الاقتداء بهم، من غير تقييد ولا تنبيه على جهة الورع إذا اختلفوا على المقتدي.
خامسها:
أن ترجيح [أحد القولين على الآخر تورعا إما أن يكون بدليل أو بغير دليل فإن] (10) كان بدليل فهو منصب المجتهد وحينئذ يكون عملا بأحدهما أو بالقول الثالث [فلا ورع] (11)، وإن كان بغير دليل؛ فلا يصح باتفاق.

سادسا:


ما ذكره المصنف هنا [أي في الموافقات لأن تعليق الملخص كان على موضعٍ فيه]وهو أن جمهور مسائل الفقه [مختلف فيها اختلافا مقتدى به، فالمسائل المجتمع عليها بالنسبة إلى المختلف فيها قليله، فلذا إذا قد صار جمهور مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف وضع الشريعة.](12)

سابعها:
[إن حاصل] (13) الورع في مسائل الخلاف الأخذ بالأشد وتتبع شدائد المذهب لا يقصر عن تتبع رخصها في الذم، فإن كان تتبع الرخص غير محمود، بل حكى ابن حزم الإجماع على أنه فسق لا يحل؛ فتتبع الشدائد غير محمود أيضا؛ لأنه تنطع ومشادة في الدين.
وأجاب الإمام ابن عرفة عن هذه الأوجه كلها وأجاد في بعضها كل الإجادة، رحمه الله تعالى ونفعنا به، آمين. ا. هـ.
انتهت أسئلة الشاطبي ملخصة، والآن إليك جواب شيخه ابن عرفة:
المسألة الخامسة:
قوله "كون الخروج من الخلاف ورعا مشكلا من وجوه:
الأول: أن الورع في ذلك لا يتصور كونه لتوقع عقاب أو لفوت ثواب إلى آخر.
جوابه: منع كونه غير ملزوم الثواب.
قوله "والمخطئ مأجور والمصيب أكثر أجرا، فلا فوت للثواب.
قلت: الكلام في نفس العمل بمدلول اجتهادهما.
وما ذكرتموه إنما هو في اجتهادهما لا في مدلوله، ودليل ملزوميته للثواب واضح.
أما في المفعولات:
فمسألة مسح كل الرأس في الوضوء والتدلك فيه، والنية له يحصل كل واحد منها من الثواب ما لا يحصل دونه.
ومثاله في المتروكات:
أن ترك شراب النبيذ لوازع الخوف من الوقوع فيما هو محرم لذاته شرعا، على أن المصيب واحد، وخوف الوقوع فيما هو محرم بالنسبة إلى اجتهاد شرعي بناء على أن كل مجتهد مصيب، واضح أنه يحصل من الثواب ما لا يحصل دونه ضرورة. وكذا يستمر هذا التقدير في المفعولات والمتروكات، والله أعلم وبه التوفيق.
قوله: الثاني:
إن الخروج من الخلاف في مسائل الخلاف لا يتصور، كما إذا اختلفت بالحل والحرمة فإن المتورع إذا كف عن الفعل فهو رجوع للقول بالتحريم إلى آخر.
وجوابه:
منع كون الكف رجوعا للقول بالتحريم، إذ التحريم أخص من الكف إذ هو المجموع المركب من الكف مع اعتقاد الذم على الفعل، فالكف أعم منه ولا يلزم من القول بالأعم القول بالأخص ولا رجوع إليه.
وهذا مالك يفتي بإباحة استعمال جلد الميتة بعد الدبغ في اليابس والماء فقط، ويتقيه لنفسه في الماء، ولم يكن ذلك تناقضا منه بحال. والله أعلم وبه التوفيق.
قوله الثالث:
"إن المتورع إن كان مجتهدا لزمه اتباع دليله، وإن كان مقلدا لزمه اتباع مقلده فلا ورع.
وجوابه:
ملزومية اتباع دليله لنفي الورع
وتقريره:
أنه لو كان مقتضى دليله إباحة فعل الشيء ومقتضى دليل مخالفه حرمته أمكن خروجه من الخلاف الملزوم للورع باعتبار الفعل لا باعتبار الاعتقاد كالحنفي يتورع من شرب النبيذ خوف التوقع في مقتضى دليل مخالفه، لاحتمال صحته لا لرجحان صحته.
وكحال مالك في جلد الميتة في استعماله الماء.
وإذا تقرر هذا في المجتهد فهو في المقلد أوضح.
قوله:
الرابع: إن هذا الورع الخاص لم يثبت عن الصحابة والتابعين إلى آخره.
جوابه من وجوه:
الأول: أن شأن الورع السر والخفية، وما هو بمظنة الخفية لا يدل عدم نقله على عدم وجوده علما ولا ظنا. وما كان كذلك لا يضر عدم نقله في العمل به.
الثاني: تقدم عن مالك في المدونة في مسألة جلد الميتة أنه كان يترك استعماله في الماء في خاصة نفسه. ومالك تابعي عند قوه قاله ابن رشد في البيان. ومن تأمل كتب أخبار الصحابة والتابعين وجد من ذلك جملة.
الثالث: لا يلزم من عدم وجوده بعينه عدم صحته إذا ثبت استلزامه مصلحة شرعية شهد الشرع باعتبار عينها، لحديث "فمن اتقى الشبهات". أو اعتبار جنسها لقول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه". والله أعلم وبه التوفيق.
قوله:
الخامس: ترجيح أحد القولين على الآخر تورعا إلى قوله: فلا يصح.
جوابه:
إن المتكلم في كونه ورعا إنما هو الآخذ بالقولين، والخروج من الخلاف لا أخذ بأحدهما وهو خلاف الفرض، والله أعلم وبه التوفيق.
قوله:
السادس: جمهور مسائل الفقه مختلف فيها فيصير جمهور مسائل الشريعة من المتشابهات إلى آخر.
جوابه:
بأن مرادهم بأن المختلف فيه من المتشابهات، هو المختلف فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة. وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي مواد التأمل فحينئذ يكون المتشابه منها إلا الأقل.
وقوله:
صار الورع من أشد الحرج.
وجوابه:
أن هذا من عيب بنائه، على أن أكثر مسائل الفقه من المتشابه. وقد بينا بطلانه.
وأما الورع من حيث ذاته ولو في هذا النوع فقط، فشديد مشق لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحصال لوازم فعل المنهي عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: حفت الجنة بالمكاره".
وقوله:
السابع: حاصل الورع في مسائل الخلاف الأخذ بالأشد وتتبع شدائد مسائل المذهب، وذلك لا يقصر عن تتبع رخصه في الذم.
وجوابه: أن الأخذ بالأشد على قسمين:
1- أخذ بأشد شهد الشرع بإلغائه، كوقوف الواحد للعشرة من العدد، وعالما أنه لا يجدي به منهم نفعا.
2- وأخذ بأشد لم يشهد الشرع بإلغائه، وشهد باعتباره أولا فذو الذم إنما هو الأول، والمتكلم فيه وهو الآخذ بأشد المذاهب المتساوية أو المتقاربة لوازع الخوف من الله تعالى الشديد العقاب ليس من الأول بحال، بل هو مما شهد الشرع باعتبار عينه أو جنسه حسبما قررناه.
وقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جامع فتاويه المروية لنا ولغيرنا بالسند الصحيح ما نصه:
والأولى التزام الأشد والأحوط لدينه، فإن من عز عليه دينه تورع.
وقوله:
حكى ابن حزم الإجماع على أن متتبع الرخص فاسق.
مردود بما أفتى به الشيخ المتفق على علمه وصلاحه عز الدين بن عبد السلام قال في جامع فتاويه المذكورة ما نصه:
لا يجب على العامي إذا قلد إماما في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف كلها لأن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما لهم، العلماءَ المحققين من غير نكير من أحد وسواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم لأن من جعل المصيب واحدا لم يعينه، ومن جعل كل مجتهد مصيب فلا إنكار على من قلد في الصواب.


======================================


1- المعيار المعرب6/364

2- انظر السؤال بطوله – إن شئت - في المعيار المعرب 6/367

3- تصحيح من أصل السؤال في المعيار المعرب 6/367

4- استدراك من أصل السؤال.

5- زيادة من أصل السؤال.

6- زيادة من أصل السؤال.

7- زيادة من أصل السؤال.

8- زيادة من أصل السؤال.

9- كتب الملخص "أن الورع بمثل هذا" وعبارة الشاطبي أدق وأحسن.

10- أثبت الموجود في أصل السؤال لدقته ولتصرف الملخص.

11- زيادة من أصل السؤال.

12- زيادة من أصل السؤال.

13- تصحيح من الأصل.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المطلب الثاني: عرض رأي الشاطبي في هذه المسألة حسب سياقه المطول لها في كتابه الموافقات:
المقدمة الثالثة عشرة:
كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل؛ فلا يخلو:
1/ إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أو لا، فإن جرى؛ فذلك الأصل صحيح.
2/ وإلا؛ فلا.
وبيانه:
أن العلم المطلوب إنما يراد -بالفرض- لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف، كانت الأعمال قلبية أو لسانية، أو من أعمال الجوارح، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف؛ فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه، وإلا؛ لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه، وذلك فاسد؛ لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.

ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله:

1- أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
2- وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يُطاق.
3- وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد.
فإذًا؛ كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري، فلم يطرد، ولا استقام بحسبها في العادة؛ فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها.

ويقع ذلك في:
1- فهم الأقوال.
2- ومجاري الأساليب.
3- والدخول في الأعمال

--------------
ثم تكلم الشاطبي عن النوعين الأولين، وهما :

1- فهم الأقوال.
2- ومجاراة الأساليب.

ثم انتقل إلى الكلام عن النوع الثالث، وهو الشاهد من كلامه فيما نقصده منه، يقول رحمه الله:
وأما الدخول في الأعمال:
فهو العمدة في المسألة، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة:

لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا؛ فهو غير جار على استقامة ولا اطراد، فلا يستمر الإطلاق.
وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة، حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد الاستمرار فتصح.
وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص، إذ هو الحاكم فيها، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا.
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية:
لم يأمن الغلط، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل لاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين.

وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر....

الثانية: مسألة الورع بالخروج عن الخلاف:


فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها.


ولا زلت منذ زمان أستشكله؛ حتى كتبت فيها إلى المغرب، وإلى أفريقية؛ فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر:


1- بل كان من جملة الإشكالات الواردة؛ أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به، فيصير إذًا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف وضع الشريعة.


2- وأيضا؛ فقد صار الورع من أشد الحرج؛ إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة، ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه، وفي هذا ما فيه.


فأجاب بعضهم (1):


بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه، المختلف فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي موارد التأمل, وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل، وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط؛ فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه، وقد قال عليه السلام: "حفت الجنة بالمكاره".


هذا ما أجاب به فكتبت إليه:


بأن ما قررتم من الجواب غير بين:


لأنه إنما يجري في المجتهد وحده، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة، لا عند تعارض الأقوال؛ فليس مما نحن فيه، وأما المقلد؛ فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين، والعامي -في عامة أحواله- لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف، ولا يعلم: هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا؛ لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر، وليس العامي كذلك.


وإنما بني الإشكال:


على اتقاء الخلاف المعتد به، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة، والخلاف الذي لا يعتد به قليل؛ كالخلاف في المتعة، وربا النساء، ومحاش النساء، وما أشبه ذلك.



3- وأيضا؛ فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين، ولا يكونان كذلك عند بعض؛ فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد؛ لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده، من غير أن يخرج عن الخلاف، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر؛ فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور، وهو شديد جدا، و "من يشاد هذا الدين يغلبه" ، وهذا هو الذي أشكل على السائل، ولم يتبين جوابه بعد.


ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد:


إلا أن شدته ليست من جهة:


إيقاع ذلك بالفعل؛ لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج.


بل من جهة:


قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة.


وإذا تأملنا مناط المسألة؛ وجدنا الفرق بين:


1- هذا الورع الخاص.


2- وغيره من أنواع الورع بينا.


فإن سائر أنواع الورع:


سهل في الوقوع، وإن كان شديدا في مخالفة النفس.


وورع الخروج من الخلاف:


صعب في الوقوع قبل النظر في مخالفة النفس.


فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج، وأنه ليس ما أشرتم إليه. ا. هـ. ما كتبت به، وهنا وقف الكلام بيني وبينه.


ومن تأمل هذا التقرير؛ عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد(2) ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه؛ فلا يصح أن يستند إليه، ولا يجعل أصلا يبنى عليه.


والأمثلة كثيرة؛ فاحتفظ بهذا الأصل؛ فهو مفيد جدا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع، وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه4 وما لا يعتبر، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله.


-------------


1- يعني ابن عرفة.

2- يقول الشيخ عبد الله دراز: لأنه إنما يجري في المجتهد لا في المقلد، وإجراؤه في المقلد الذي هو أصل السؤال مؤد إلى الحرج"الموافقات (1/166)
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المطلب الثالث: النتائج:


نتيجة المطلب الأول:

أشكل على الشاطبي القول بأن من الورع الخروج من الخلاف.
وقد ذكر في سؤاله إلى شيخه أبي عبد الله ابن عرفة سبعة إشكالات عرضت له في تخريج هذه القاعدة حسب الأدلة الشريعة، وقد أتى عليها كلها بالجواب شيخه ابن عرفة.
والذي يبدو لي:
قوة هذه الإشكالات التي أوردها الشاطبي رحمه الله لكن موطن قوتها يأتي من التزام هذه القاعدة وإطلاق القول بها، فإن ما ذكره رحمه الله وارد وبقوة على مستعمل هذه القاعدة بل لو قال الشاطبي: إنه لم يلتزم القول بهذه القاعدة في سائر المحال أحدٌ من أهل العلم أو من المبالغين في الأخذ بالورع والاحتياط لم يكن ذلك بعيداً.
كما يبدو لي أيضاً:
قوة ووجاهة الأجوبة التي فنَّد فيها ابن عرفة إشكالات تلميذه الشاطبي.
لكن كما يظهر:
فإن قوة هذه الأجوبة إنما تأتي من جهة قصد الشاطبي إبطال هذه القاعدة من حيث الأساس
فإن شيخه ابن عرفة استطاع أن يفرض جملة من الصور التي يصح فيها استعمال هذه القاعدة.
إلا أنه:
لم يأت بما يفيد صحة القول بإطلاق هذه القاعدة.
وهنا يمكن أن نلخص الكلام السابق بما يلي:
قوة إشكالات الشاطبي تظهر في الموضع الذي يُطلَق فيه اعتبار هذا القاعدة.
قوة أجوبة ابن عرفة تظهر في الموضع الذي يُطلَق فيه إنكار هذه القاعدة.
وكنتيجة تالية لهاتين النتيجتين نقول:
إن من الورع الخروج من الخلاف في المحل الذي يقتضيه الورع إما لاشتباه في الأدلة أو الصور أو ما يقتضيه تردد الناظر في المسألة المعينة لسببٍ ما سواء كان مجتهدا أو مقلدا.
وهذه النتيجة :
لا يخفى ما فيها من الدور من إرجاع اعتبار الورع في هذه المسألة إلى تحقيق الورع فيها، لكن بما لحقها من تفصيل وما سبق من مناقشة كلام الإمامين ابن عرفة والشاطبي أظن أن المسألة بادية الملامح إلى حد بعيد فهي تؤكد الحقائق التالية:
1- غلط إنكار اعتبار هذه القاعدة بإطلاق.
2- غلط اعتبار هذه القاعدة بإطلاق.
3- صحة استعمال هذه القاعدة في الموضع الذي يقتضيه الورع.
====================================

نتيجة المطلب الثاني:
تكلم الشاطبي عن هذه المسألة أعني مسألة الخروج من الخلاف تفريعا على القاعدة الثالثة عشرة من مقدمات كتابه "الموافقات"، حيث عرض الشاطبي بعض الإشكالات في كون تحقيق هذا المعنى من الورع المطلوب.
ومفاد هذه القاعدة:
أن الأصل العلمي الذي يتخذ إماما في العمل لا بد أن يقع العمل في الوجود مطردا على وفقه فإن تخلف عن جريانه ولا استقام بحسبه في العادة فليس بأصل يعتمد عليه.

وتفريعا على هذه القاعدة:


استشكل الشاطبي على كثير من المتأخرين عدَّهم الخروج عن الخلاف ضمن الأعمال التكليفية المطلوبة مع إدخالهم المتشابهات في المسائل المختلف فيها.


ووجه إشكال القاعدة المفرَّعة:


الخروج من الخلاف


مع القاعدة الأصل:


في لزوم اطراد وتوافق الأصل العلمي الذي يتخذ إماما في العمل مع العمل في الوجود.


هو أن:


قاعدة الخروج من الخلاف لا تطرد ولا تجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يصح أن يستند إليها، ولا أن تجعل أصلا يبنى عليها.


كما كان من جملة استشكالات الشاطبي المباشرة على قاعدة الخروج من الخلاف:


هو أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به فيصير إذاً أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات وهو خلاف وضع الشريعة.


ومن جملة استشكالاته أيضا:


أن يصير الورع بسببها من أشد الحرج إذ لا تخلو في الغالب عبادة ولا معاملة ولا أمر من أمور التكليف من خلاف يطلب الخروج عنه وفي هذا ما فيه.


وقد راسل الشاطبي باستشكالاته السابقة وغيرها :


إلى بعض شيوخ المغرب وإفريقية فلم يأته بجواب يشفي الصدر مع أن من جملة من حضره جوابه هو العالم المعروف المحقق ابن عرفة.

====================================

بتتبع سير كلام الشاطبي في خصوص هذه المسألة نجد أنه ليس له فيها إلا قول واحد وأنه لم يمرَّ في بناءه وتحصيله إلا على مرحلة واحدة.
وأن إشكالاته التي عرضها على بعض شيوخه في مقتبل إثارة هذه المسألة لم تكن سوى رأيه الصريح والأخير في عدم الاعتداد بهذه القاعدة في تحصيل الورع المطلوب، فكانت أول الفكرة هي آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك.
أما جواب شيخه ابن عرفة فلم يقتنع به الشاطبي لجملة من الاعتراضات، بل لم يزد جواب شيخه إلا تقويةً لموقفة وقناعةً بوجاهة إشكالاته.

ونشير هنا – وسيأتي تكريره بمزيد بسط - إلى خطأ مَنْ زاوج بين هذه المسألة أعني مسألة الخروج من الخلاف وبين مسألة مراعاة الخلاف لاسيما ما إذا كان الكلام في تحصيل موقف الشاطبي


إذ قد تناول جماعة من الباحثين هاتين المسألتين تناولا واحدا مع افتراق مسارات الشاطبي في تقرير المسألتين كما سيأتي.


وسيأتي أيضا إن شاء الله في مسألة مراعاة الخلاف بيان أخطاء أخرى في المزاوجة بين هاتين المسألتين المفترقتين تقريرا ودليلا وتطبيقا.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المبحث الثاني: مراعاة الخلاف:


المبحث الثاني: مراعاة الخلاف:
ينتظم هذا المبحث في تمهيد وثلاثة مطالب:
تمهيد:
المطلب الأول:مرحلة الإشكال "قراءة في إشكالات الشاطبي إلى مشايخه."
المطلب الثاني: مرحلة النضج " قراءة في تناول للشاطبي للمسألة في كتبه المحررة"
المطلب الثالث: تسجيل النتائج.



======================================


تمهيد:
يقول أبو العباس أحمد بن يحيى الونشرنيسي في المعيار المعرب:
[حوار بين الإمام الشاطبي ومعاصريه من علماء فاس وإفريقية]
قلت: وقد اعتمد هذه المسألة بالتحقيق ، واعتنى بالسؤال عنها الشيخ الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله. فكتب فيها ابتداء ومراجعة لمن عاصره من علماء فاس وإفريقية، بما ضمن البحث فيه كل سديد من الرأي وأصيل من النظر.

-----------------------------------

يقول الشيخ محمد الخضر الحسين في تعليقة له على الموافقات:
"مراعاة الخلاف:
هي إعمال المجتهد لدليل خصمه في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه دليلا آخر.
وقد اعترضه القاضي عياض بوجهين:
أحدهما:
أنه مخالف للقياس الشرعي، إذ يجب على المجتهد أن يجري على مقتضى دليله ومراعاة الخلاف جري على خلاف ما يقتضيه الدليل.
ثانيهما:
أنه غير متطرد في كل مسألة خلاف، وتخصيصه ببعض مسائل الخلاف تحكم أي ترجيح بلا مرجح.
وقد اعتنى المصنف بهذه المسألة، فكتب فيها إلى الشيوخ سؤالا ومراجعة، وسيوافيك بحثها مبسوطا في هذا الكتاب."([1])
-----------------------------------

1- )الموافقات - (ج 2 / ص 52)
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
-----------------------------------


المطلب الأول:مرحلة الإشكال "قراءة في إشكالات الشاطبي إلى مشايخه.":

نسوق هنا ما طرحه الشاطبي على مشايخه من الاشكالات والسؤالات التي عرضت له حول "مراعاة الخلاف" من جهة المصدر ومن جهة العمل، وقد وقفنا على هذا السؤال ضمن الأسئلة الثمانية التي أجاب عنها شيخه ابن عرفة، وكان هذا السؤال هو واسطة عقد هذه الأسئلة حيث كان يحتل السؤال الرابع منها:
فنسوق هنا:
أولا: سؤال الشاطبي بتمامه.
ثم نتبعه بجوابين:
1- حواب شيخه ابن عرفة.
2- جواب شيخه أبي العباس ابن القباب والذي أجاب أيضا على نفس هذا السؤال.
كما سنحاول أيضا بحول الله وقوته أن نقرن ذلك بـ :
مناقشة الشاطبي لجوب شيخه القباب لبناء الجواب الثاني للقباب على هذا الجواب، وسنؤجل بقية أجوبة الشاطبي على أجوبة مشايخه إلى المطلب الثاني لأنها ذكرت في كتبه المحررة وهي تمثل النضج الذي انتهى إليه الشاطبي في تحرير المسألة.

-----------------------------------


أولاً: سؤال الشاطبي:
يقول رحمه الله:
إن مالكا وأصحابه رحمهم الله يجري كثيرا في فتاويهم ومسائلهم مراعاة الخلاف ويبنون عليها فروعا حجة ويعلل به شيوخ المذهب الشارحون له أقوال من تقدم من أهل مذهبهم من غير توقف حتى صارت عندهم وعند مدرسي الفقهاء قاعدة مبنيا عليها وعمدة مرجوعا إليها لكنهم لا يطردونها في جميع المسائل فوقع لي الإشكال من وجهين:
أحدهما أن يقال:

مراعاة الخلاف:


1- إما أن تكون صحيحة.


2- وإما أن تكون غير صحيحة.


فإن كانت صحيحة جارية على أصول الشريعة:


وجب اعتبارها على الإطلاق.


وإن كانت غير صحيحة:


وجب إلغاؤها على الإطلاق.


وأما اعتبارها في بعض المسائل دون بعض:


فإن ذلك خلاف ما يعقل في بادي الرأي.


وإن سلم اعتبارها في بعض دون بعض:


فذلك يفتقر إلى ضابط يعرف به الموضع الذي يجب أو يجوز أن يراعي فيه حتى يكون الناظر في مسائل الفقه والمفتي على بينة من ذلك، فيراعي الخلاف في محل مراعاته ويلغيه في محل إلغائه لكن الشارحون للمذهب لم يضبطوا ذلك فيما أعلم من قلة اطلاعي وقصر باعي فإن كانوا ذكروه فاهدوني إليه وإن لم يذكروه فقِّهوني بالبيان الشافي عليه.


والثاني:


على فرض صحة مراعاة الخلاف فأصلها من الشريعة؟ وعلى ما تبنى من أصول الفقه؟ فقد عدَّ الناس أصول الدلالة، ولم أر من عدَّ مراعاة الخلاف أصلا منها.


وأيضا:


فإن الظاهر أن الدليل هو المتبع بحيث ما صار صير إليه، ومتى ترجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ولو بأدنى وجوه الترجيح وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول.


فإذا رجوعه لقول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال لدليله الراجح عنده الواجب عليه اتباعه.


وذلك على خلاف القواعد، وقد نبه ابن عبد البر على الإشكال في مراعاة الخلاف في الاستذكار، وأشار إليه الخطابي في أعلام الحديث حسبما في كريم علمكم.([1])


------------------------



1- المعيار 6/366
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
فأجابه ابن عرفة بقوله:


المسألة الرابعة [لأنها وردت ضمن ثمانية أسئلة]:


حاصلها إسناد مالك وغيره من أهل المذهب إلى رعي الخلاف، وجعله قاعدة، مع أنهم لا يعتبرونه في كل موضع: مشكلٌ من ثلاثة أوجه:


الأول:


إن كانت حجة عمت وإلا بطلت، أو لزم ضبط موجب تخصيصه بموضع دون الآخر.


الثاني:


على فرض صحته ما دليله شرعا، وعلى أي شيء من أصول قواعد الفقه يبنى مع أنهم لم يعدوه منها؟


الثالث:


إن الواجب على المجتهد اتباع دليله إن اتحد، وراجحه إن تعدد فقوله بقول غيره إعمال لدليل غيره أو ترك لدليله.


وجوابه أن نقول:


تصور رعي الخلاف سابقٌ على مطلق الحكم عليه.


فرعي الخلاف:


عبارة عن إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر.

مثاله:
في إعمال مالك دليل خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار في لازم مدلوله ومدلوله عدم الفسخ أعمل في نقيضهن وهو الفسخ دليل آخر وهو دليل فسخه.

إذا تقرر هذا.


فالجواب عن الأول أن نقول:


هو حجة في موضع دون آخر.


قوله: ما ضابطه؟


قلنا:

ضابطه: رجحان دليل المخالف في ثبوت الإرث عند مالك على دليل مالك في لازم مدلوله عليه، وهو نفي الإرث.
وثبوت الرجحان ونفيه:
هو بحسب نظر المجتهد وإدراكه في النوازل، فمن هنا كان رعي الخلاف في نازلة معمولا به وفي نازلة غير معمول به.
فإن قلت:
هذا يوجب القول بإثبات الملزوم مع نفي لازمه وهو باطل ضرورة.
قلت:
جوابه من وجهين:
الأول:
أنه في بعض المسائل ليس كذلك، ومنه هذه المسألة.
وبيانه:
أنه في هذه المسألة وأشباهها:
1- من باب النفي الملزوم وهو صحة النكاح الملزوم لإرث هذا في قول مالك بمقتضى دليل نفسه، ولا يلزم من نفي الملزوم نفي لازمه.
2- ومن باب إثبات اللازم وهو رعي مالك دليل مخالفه في لازم مدلوله وهو الإرث، ولا يلزم من إثبات اللازم إثبات الملزوم.
الثاني:
إثبات الملزوم مع نفي لازمه، إنما هو باطل مطلقا في اللوازم العقلية، وأما الظنية الجعلية فلا. وقد يكون هناك مانع يمنع من ثبوت اللازم مع وجود ملزومه فلا يثبت كموجبات الإرث هي ملزومة له ، وقد ينتفي الإرث لمانع مع وجود ملزومه شرعا، وأمثلته واضحة.
والجواب عن الثاني:
وهو قوله ما دليله شرعا من وجهين:
الأول:
الدليل الدال على وجوب العمل بالأرجح، وهو مقرر في أصول الفقه فلا نطول به.
الثاني:

قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة"


وصحة الحديث ووجه دلالته على ما قلناه عندي و اضحة بعد تأمل ما ذكرناه وفهم ما قررناه والله المطلع على السرائر.


والجواب عن الثالث، وهو قوله:


إنه إعمال لدليل غيره وترك لدليله


أنا بينا أنه إعمال لدليله من وجه هو فيه أرجح، وإعمال دليل غيره فيما هو عنده أرجح حسبما بيناه، وحسبما تضمنه حديث "الولد للفراش".


والعمل بالدليلين فيما كل واحد منهما هو فيه أرجح، ليس هو إعمالا لأحدهما وتركا للآخر، بل هو إعمال للدليلين معا حسبما قررناه.


والله أعلم وبه التوفيق.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
جواب شيخه أبي العباس أحمد بن القباب:
وكان وصلني منكم حين قدومي من البلاد المشرقية كتاب سألتم فيه عن مراعاة الخلاف، مستشكلين له لتعارض أمره عندكم.ولم أضبط الآن صور فصول السؤال.
ورفعت مكتوبكم عندي حتى أكتب لكم جوابه فضاع من يدي.
وقد استشكل كثير من العلماء القول بمراعاة الخلاف، وقالوا فيه: إنه يؤول من قائله إلى ترك العمل على وفق دليله المأمور باتباعه، والعمل بمذهب خصمه المرجوح عنده الذي وقع الإجماع على المنع من اتباعه
مع أن القائل به يتناقض، ولا يستقيم له قول، لكثرة الخلاف وتنافره، وتضاد الأقوال. فكيف يراعى المتضادين ويجمع بين المتنافرين؟
وإن رأى البعضَ دون البعض فما وجه ذلك؟ وما ضابط ما يراعى منه مما يترك؟ وربما عده المعترض بما يقبح به هذا المذهب.
فاعلم:
أن مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب
وكم من عائب قولا صحيحا......وآفته من الفهم السقيم
وحقيقة مراعاة الخلاف:
هو إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه
وبسطه:
أن الأدلة الشرعية:
1- منها ما تتبين قوته تبينا يجزم الناظر فيه بصحة أحد الدليلين، والعمل بإحدى الأمارتين فهاهنا لا وجه لمراعاة الخلاف، ولا معنى له.
2- ومن الأدلة ما يقوى فيها أحد الدليلين، وتترجح فيها إحدى الأمارتين قوةً ما ورجحانا لا ينقطع معه تردد النفس وتشوفها إلى مقتضى الدليل الآخر فهاهنا تحسن مراعاة الخلاف، فيقول الإمام ويعمل ابتداء على الدليل الأرجح لمقتضى الرجحان في غلبة ظنه، فإذا وقع عقد أو عبادة على مقتضى الدليل الآخر لم يفسخ العقد ولم تبطل العبادة لوقوع ذلك على موافقة دليل له في النفس اعتبار، وليس إسقاطه بالذي تنشرح له النفس...
فهذا معنى قولنا:
إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه، فيقول ابتداء بالدليل الذي يراه أرجح ثم إذا وقع العمل على مقتضى الدليل الآخر راعى ما لهذا الدليل من القوة التي لم يسقط اعتبارها في نظره جملة، فهو توسط بين موجب الدليلين.
فإذا أخذته هذه المآخذ ذهب التناقض لأنه لو كان يراعي الخلاف مطلقا لما ثبت له مذهب بوجه، ولا أصبح أيضا يراعي القائلين، فإنه تارة يراعي قول ابن المسيب وابن شهاب، وتارة يطرح الجميع ويقول: كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب القبر. ([1])
ثم قال:
وقد رأى بعض الناس أن مراعاة الخلاف لا تتمكن إلا على القول بالتصويب، وليس كذلك بل تتمشى على المذهبين معا، ولكنها على التصويب أسهل.

وأول ما سمعت هذا التعبير من بعض محققي من لقيت، ثم رأيته لابن عبد السلام التونسي.


ثم وقفت على معناه منقولا عن الشيخ أبي عمران الفاسي.

================================

1- المعيار المعرب 6/388
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
فراجعه الإمام أبو إسحاق الشاطبي بما نصه:


وأما مسألة مراعاة الخلاف:


فإنه بقي عليه فيها شيء وذلك أنكم قسمتم الأدلة الشرعية المتعارضة:


1- إلى ما يجزم الناظر فيه بترجيح أحد الدليلين من غير تردد.


2- وإلى ما يبقى له في ترجيحه تردد.


جعلكم مراعاة الخلاف في القسم الأول لا معنى له.


وفي الثاني لها اعتبار كما في الدليل المرجوح عند الناظر من الاعتبار.


وهذه التفرقة لم تتبين لي بعد:


لأن الأمارة في القسم الثاني إذا ترجحت:


فإما أن تكون ترجيحا يقتضي تقديمها على الأخرى أو لا؟


فإن لم يقتض تقديمها فهو معنى التساوي بين الأمارتين إذ لا معنى لرجحان لا يفيد حكما ولا ينشئ ظنا، والتساوي يجري على حكمه قبل الوقوع وبعده، إما على الوقف أو على التخيير حسبما تقرر في الأصول.


فإن اقتضى تقديم إحدى الأمارتين، لحقت في الحكم بالقسم الأول الذي لا تردد فيه إذ لا يسوغ أن يقول المفتي: هذا لا يجوز مع التردد في عدم الجواز وقوة إمكان الجواز ولا أن يقال: إنه قبل الوقوع لا يجوز، وبعد الوقوع جائز، فإن هذا شنيع أن يكون الممنوع، إذا فعل صار جائزا.


وأيضا:


فلا معنى لاعتبار دليل المنع قبل الوقوع إلا أن دليل الجواز غير معتبر ولا اعتبار دليل الجواز بعد الوقوع إلا أن دليل المنع ساقط الاعتبار


فلم يتصور في اعتبار الدليلين مع ترجيح أحدهما لأن هذا تضاد.


وقولكم:


إن الفعل بعد الوقوع وقع على وفق دليل له في النفس اعتبار.


لو كان ذلك لم يصح إطلاق القول بالمنع ابتداء، بل القول بالمنع ابتداء إهمال للقول بالجواز، والقائل بالمنع معنى كلامه: أنه إذا وقع مخالفا للدليل


كما أن القائل بالجواز معنى كلامه: أنه إذا وقع وقع على وفق الدليل.


وإنما يتصور الجمع بين الأمارتين في هذا النحو، إذا كان المنع منع تنزيه لا منع تحريم إذ لا تضاد في الوقوع بين الجائز والمكروه، وإنما يتضادان في التصوير.


وما مثلتم به من الطريقين يجعل عليه أمارات بالبحث من أصله وارد عليه:


لأنك إذا كنت العارف بالأمارات فجاء من أراد سلوك الطريق إلى بلد كذا، فرجح عندك أن الطريق الموصل إليه الطريق ذات اليمين وعند غيرك الطريق ذات اليسار فدللته على ما ترجح عندك ومنعته من سلوك الآخر، فلم تمنعه منه إلا وقد غلب على ظنك أنه لا يوصل إلى البلد.


فإن ترك رأيك وأخذ ذات اليسار ثم سألك كيف يصنع؟


لم يصح أن تنقلب لك غلبة الظن، فتصير الأمارة المرجوحة عندك راجحة لأن هذا من باب انقلاب الاعتقاد من غير دليل.


وأما قولك:


كيف أرده؟ وهو قد عمل بأمارة لها اعتبار.


فيقال: لها اعتبار عندك أو عند غيرك أما عندي فلا.


وأما عند غير فإنه لم يسأل غيرك، وإنما سألك وإياك قلد في التمادي على سلوك الطريق آخرا كما سألك أولا فمنعته، فصار بمخالفتك عاصيا، فكيف تفرع له على مذهب من أن غير قائل بمذهبه؟....


وعند ذلك لم يتبين لي أن مراعاة الخلاف تتمشى على قول المصوبين ، كما لم يتبين لبعض الناس جريانها على قول المخطئين.


ولا يقال:


مراعاة الخلاف تجري على جواز إفتاء المجتهد بمذهب مجتهد آخر مخالفا له لأن الأصوليين نقلوا الإجماع على منع ذلك على المجتهد في المسألة التي اجتهد فيها


فالمسألة مشكلة علي من أصلها كما أشكلت على ابن عبد البر وغيره.


وقد حاول القاضي أبو عبد الله الفشتالي الجواب عن الإشكال بتقرير آخر جعله بسطا لكلام ابن عبد السلام أشار فيه:


إلى أن دليل المخالف بعد الوقوع صار عند مالك أقوى من دليله الذي منع به الإقدام بتداء بدليل مقوِّ خارجي فقال:


إن الإمام رحمه الله إذا رجح عنده دليل المنع من الإقدام مثلا أطلق المنع والتحريم ولم يراع ما خالفه لمرجوحيته وذلك قبل الوقوع، فإذا وقع الفعل الممنوع وأردنا أن نرتب على المنع آثاره من عدم الإجزاء في العبادات وعدم ترتيب آثار العقود عليها في المعاملات عارضنا دليل المنع من إبطال العمل في العبادات لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} وعارضنا في المعاملات استثقال الإمام رحمه الله لنقض صفقة المسلم كقوله في بعض المسائل الخارجة عن هذا الباب: لا أنقض صفقة مسلم لغير عتق ناجز وما يتعلق بذلك من الاحتياط في تحصين الفروج.


فمقتضى دليله أن تجزئ النافلة بأربع، وأن لا يقع الطلاق ولا الميراث في نكاح الشغار وأن يرد الحرام من البيوع فات أو لم يفت وأن يقتل من عفي عنه في الغيلة


لكن لما عارض دليل عدم إبطال العمل في مسألة النافلة والاحتياط للفروج في مسألة النكاح بعد الوقوع ونقض صفقة المسلم في مسألة البيوع ترجح دليل المخالف لأن الترجيح يقع بأدنى محرك للظن. إلى آخر ما كتب.


وما قاله أكرمه الله الإشكال فيه باق.


وبيانه :


أن التنفل بأربع قد تقرر فيه عنده عدم الجواز، وذلك يخرج الأعمال عن كونها من الأعمال المعتبرة عنده شرعا التي لا يجوز إبطالها، فليست بداخلة تحت عموم الآية وإلا لزم أن يدخل تحتها كل عبادة لا تجوز وذلك باطل.


وإنما تكون عبادة معتبرة على مذهب المجوز فهناك تدخل تحت عموم الآية ولا إشكال، لأنها عند المجيز جائزة ابتداء فلا يجوز إبطالها ثانيا.


وكذلك القول في سائر المثل إلا ما كان من الأفعال الممنوعة التي يحكم الحاكم بإمضائها على قول من يقول بذلك فلا نظر هناك إذ الإجماع على نقض حكم الحاكم إذا خالف وجه النظر وإلا فمقتضى النظر نقض الثاني حكم الأول لكن تفوت مصلحة نصب الحاكم.


ومسألتنا ليست من هذا الباب فالذي قاله القاضي لا ينهض لي جوابا عن الإشكال الأول.


وجرى في كلامكم عن هذه المسألة أنكم لما حكيتم عن العلماء استشكال القول بمراعاة الخلاف نزعتم بالبيت إلى من استشكله فهو بعيد الفهم عن الصحة:


وأنا يا سيدي أستثقل الحوم حول هذه المنازع التي تشير إلى استنقاص من تقدم من أهل العلم المتسشكلين إذ منهم أبو عمر بن عبد البر وسواه، وإن كان الإشارة على بعد.


وأنتم أعرف بما فيها منا، وإنما حسن النظر معهم أن يكون على جهة الاستشكال وتوقف الفهم عما أرادوه فهو أليق بآداب العلماء، وأخلاق الفضلاء، وأحرى بتنوير القلب وانشراح الصدر وأجلب للفائدة في الدنيا والآخرة.


والمقصود بعد ذلك حاصل إذا تبين فيه الإشكال وظهر ما هو الصواب فإن ظهر أن الصواب خلاف ما قالوه التمس لهم أحسن المخارج وحمل كلامهم على أقرب ما يليق به من مناحي الصحة أو يبين ما هو الحق عند الناظر وحسنت الإشارة إلى رد ما خالفه فهذا الذي يظهر لي وبالله التوفيق.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
فراجعه القاضي أبو العباس أحمد بن القباب بما نصه:


يا أخي رضي الله عنكم وصلني ما كتبتم لي به فيما سألتموه مما لا ترضونه من جوابي في كذا وكذا وحصل لي من ذلك في الوقت ما الله المسؤول أن يثيبكم عليه، ويعظم به أجوركم وما أحق المسؤول أن يعود سائلا، فلكم الفضل أولا وآخرا.


وقد وضح لكم صدق مقالي أني لست أهلا لهذا المقام، لكني تكلفت الجواب إسعافا لرغبتكم ، وقضاء لحق صدقكم ومبلغ نفس عذرها مثل منجم إلى غير ذلك مما تضمنه


كتابكم من الفوائد والنصح.

وتضمن الكتاب المذكور عود السؤال في مراعاة الخلاف، وقلتم: إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى إن اقتضى تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداء وبعد الوقوع يقول بجوازه لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا وقلتم : إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم.. إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة.
وكلها إيرادات سديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: من استحسن فقد شرع.
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه: أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه، فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه فكيف ما يبنى عليه ؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق.
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني عليه ولولا أنه اعتضد وتقوى بوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير فتقوى ذلك عندي غاية وسكنت إليه النفس وانشرح إليه الصدر ووثق به القلب فلأمر باتباعهم والاقتداء بهم رضي الله عنهم.
فمن ذلك:
المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره عليه إلا بعد البناء فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم.
وكل ما أوردتم في قضية السؤال وارد عليه:
فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره فكيف يكون غلطة على زوج غيره مبيحا لوطئها على الدوام ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟
وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة، لا إباحة زوج غيره دائما ومنع زوجها منها.
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود:
أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان.
فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول:
1- إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها.
2- أو ليس بقاطع للعصمة فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود ؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا :
إذا قدم المفقود يخير بين امرأته أو صداقها فإن اختار صداقها بقيت للثاني فأين هذا من القياس ؟
وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بمثل ذلك أو أمضى الحكم به وإن كان الأشهر عنه خلافه ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك .
ومن ذلك: قال ابن المعذّل:
لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا وقعد الآخر حتى خرج الوقت ثم صلاها بثوب طاهر ما استوى حالهما عند مسلم ولا تقاربت، يعني أن الذي صلى في الوقت بالنجاسة عامدا أجمع الناس على أنه لا يساوي مؤخرها حتى خرج الوقت ولا يقاربه
مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب مجانبة النجاسة حال الصلاة...
وعلى الطريقة التي أوردتم:
أن المنهي عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعذل لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه والآخر لم يعمل كما أمر ولا قضى شيئا وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ] وأخرج أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها : [ أيما امرأة نكحت بغيرإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها ] فحكم أولا ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثا وسماه زنا وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة لكنه صلى الله عليه و سلم عقبة بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : [ ولها مهرها بما أصاب منها ومهر البغي حرام ]
وقد قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى الذي لا يصح معه عبادة ولا يقبل عمل وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى
ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه : (وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له.)
ولهذا لا يسبى الراهب ويترك له ماله أو ما قل منه على الخلاف في ذلك وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك
وإنما ذلك:
لما زعم أنه حبس نفسه له وهي عبادة الله تعالى وإن كانت عبادته أبطل الباطل فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا وتتبع مثل هذا يطول.
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع:
هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم فكيف بهذا ؟

وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه فقد خرجت عن حيز الإشكال ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة.

-------------------------------------------
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
نتائج النقولات السابقة في سؤال الشاطبي في الإشكالات التي عرضت له في مسألة مراعاة الخلاف وأجوبة شيوخه عليه، ثم مراجعته لبعضهم، وهي تنحصر في ست نتائج:

أولاً: محل الإشكال:
أن مالكا وأصحابه رحمهم الله يجري كثيرا في فتاويهم ومسائلهم مراعاة الخلاف ويبنون عليها فروعا ويتم بها التعليل والاحتجاج.

======================================

ثانياً: وقع للشاطبي الإشكال من ثلاث جهات:

الأول:


أنها إن كانت صحيحة جارية على أصول الشريعة:وجب اعتبارها على الإطلاق.


وإن كانت غير صحيحة:وجب إلغاؤها على الإطلاق.


وأما اعتبارها في بعض المسائل دون بعض:فإن ذلك خلاف ما يعقل في بادي الرأي.


وإن سلم اعتبارها في بعض دون بعض:فذلك يفتقر إلى ضابط.


الثاني:


على فرض صحة مراعاة الخلاف:


فما أصلها من الشريعة؟


وعلى ما تبنى من أصول الفقه؟


فقد عدَّ الناس أصول الدلالة، ولم ير الشاطبي من عدَّ مراعاة الخلاف أصلا منها.


والثالث:


إن الواجب على المجتهد اتباع دليله إن اتحد، وراجحه إن تعدد فقوله بقول غيره إعمال لدليل غيره أو ترك لدليله.


وذلك على خلاف القواعد، وقد نبه ابن عبد البر على الإشكال في مراعاة الخلاف في الاستذكار، وأشار إليه الخطابي في أعلام الحديث.


======================================


ثالثاً: جواب شيخه ابن عرفة:


1- لخص أولاً سؤال الشاطبي بشكل دقيق حتى إنه استدرك عليه في عدِّ إشكالاته، فقد حسبها الشاطبي اثنين وعدَّها ابن عرفة ثلاث.


2- ابتدأ جوابه بالتنبيه على أن:


تصور رعي الخلاف سابقٌ على مطلق الحكم عليه.


3- بناء على هذا التنبيه عرَّف ابن عرفة الذي له من اسمه نصيب: مراعاة الخلاف بأنها: عبارة عن إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر.


4- أجاب ابن عرفة عن أول إشكالات الشاطبي بالقول بأن:


مراعاة الخلاف حجة فيموضع دون آخر.


5- ضابط مراعاة الخلاف بناء على هذا الحد هو:


رجحان دليل المخالف في ثبوت الإرث عند مالك على دليل مالك في لازم مدلوله عليه، وهو نفي الإرث.


6- ثبوت الرجحان ونفيه:


هو بحسب نظر المجتهد وإدراكه في النوازل، فمن هنا كان رعي الخلاف في نازلة معمولا به وفي نازلة غير معمول به.


7- منع ابنُ عرفة أن يكون القول بمراعاة الخلاف بناء على هذا الحد:


يوجب القول بإثبات الملزوم مع نفي لازمه لوجهين اثنين:

الأول:
أنه في بعض المسائل ليس كذلك، ومنه هذه المسألة.
وبيانه:
1- أنه لا يلزم من نفي الملزوم نفي لازمه.
2- أنه لا يلزم من إثبات اللازم إثبات الملزوم.

الثاني:

إثبات الملزوم مع نفي لازمه، إنما هو باطل مطلقا في اللوازم العقلية، وأما الظنية الجعلية فلا، فقد يكون هناك مانع يمنع من ثبوت اللازم مع وجود ملزومه فلا يثبت.
8- دليله شرعا من وجهين:
الأول: الدليل الدال على وجوب العمل بالأرجح..
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة".
9- الجواب عن إلزام الشاطبي بأن في مراعاة الخلاف إعمال لدليل غيره وترك لدليله:

أن إعمال دليله إنما هو من وجه هو فيه أرجح، وإعمال دليل غيره فيما هو عنده أرجح،


والعمل بالدليلين فيما كل واحد منهما هو فيه أرجح، ليس هو إعمالا لأحدهما وتركا للآخر، بل هو إعمال للدليلين معا.


======================================


رابعاً: جواب شيخه أبي العباس أحمد بن القباب:

1- أن مراعاة الخلاف من محاسن المذهب المالكي.
1- أن سبب عيبه هو عدم فهمه.
2- من راعى الخلاف مطلقا لم يثبت له مذهب بوجه.
3- إذا تبين للناظر صحة أحد الدليلين فلا وجه لمراعاة الخلاف.
4- أن حقيقة مراعاة الخلاف: هو إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه: فيقول ابتداء بالدليل الذي يراه أرجح ثم إذا وقع العمل على مقتضى الدليل الآخر راعى ما لهذا الدليل من القوة التي لم يسقط اعتبارها في نظره جملة، فهو توسط بين موجب الدليلين.
5- يرى بعض الناس أن مراعاة الخلاف لا تتمكن إلا على القول بالتصويب، وليس كذلك بل تتمشى على المذهبين معا، ولكنها على التصويب أسهل.

======================================


خامساً: مراجعة الشاطببي لشيخه أبي العباس القباب:


1- استدرك عليه تقسيم الأدلة الشرعية باعتبار مسألة مراعاة الخلاف:


2- إلى ما يجزم الناظر فيه بترجيح أحد الدليلين من غير تردد.


3- وإلى ما يبقى له في ترجيحه تردد.

لأن جعل مراعاة الخلاف في القسم الأول لا معنى له.

وفي الثاني لها اعتبار كما في الدليل المرجوح عند الناظر من الاعتبار.


لكن لم يتبين للشاطبي وجه هذه التفرقة بالنسبة لمراعاة الخلاف وذلك:


لأن الأمارة إذا ترجحت: لحقت في الحكم بالقسم الأول الذي لا تردد فيه ولا يسوغ أن يقول المفتي: هذا لا يجوز مع التردد في عدم الجواز وقوة إمكان الجواز ولا أن يقال: إنه قبل الوقوع لا يجوز، وبعد الوقوع جائز، فإن هذا شنيع أن يكون الممنوع، إذا فعل صار جائزا.


فلم يتصور في اعتبار الدليلين مع ترجيح أحدهما لأن هذا تضاد.

2- أجاب الشاطبي عن قول القباب:
كيف أرده؟ وهو قد عمل بأمارة لها اعتبار.

بالقول بأن:


لها اعتبار عند غيرك وليس عندك، وهو إنما سألك، فكيف تفرع له على مذهب غيرك.


3- لم يتبين للشاطبي جريان مراعاة الخلاف على قول المصوبين، كما لم يتبين لبعض الناس جريانها على قول المخطئين.


4- لا يقال: إنمراعاة الخلاف تجري على جواز إفتاء المجتهد بمذهب مجتهد آخر مخالفا له لأن الأصوليين نقلوا الإجماع على منع ذلك على المجتهد في المسألة التي اجتهد فيها.


5- المسألة مشكلة عل الشاطبي من أصلها كما أشكلت على ابن عبد البر وغيره.


6- ذكر الشاطبي أن القاضي أبو عبد الله الفشتالي حاول الجواب عن الإشكال بتقرير:


أن دليل المخالف بعد الوقوع صار عند مالك أقوى من دليله الذي منع به الإقدام بتداء بدليل مقوِّ خارجي


وهو أنه:

إذا وقع الفعل الممنوع وأردنا أن نرتب على المنع آثاره من عدم الإجزاء في العبادات وعدم ترتيب آثار العقود عليها في المعاملات عارضنا دليل المنع من إبطال العمل في العبادات
وعارضنا في المعاملات استثقال الإمام رحمه الله لنقض صفقة المسلم.
7- ذكر الشاطبي أن كلام القاضي لا يزال مشكلا للاعتبارات السابقة.

======================================



سادساً: جواب شيخه القباب على جواب الشاطبي:


1- أن ما ذكره تلميده الشاطبي كله إيرادات سديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار


2- أنه كان يقول بطرح الاستحسان وما بني عليه لولا أنه اعتضد وتقوى بوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير فتقوى ذلك عنده وسكنت إليه نفسه وانشرح إليه صدره ووثق به القلب للأمر باتباعهم والاقتداء بهم.


3- ثم ذكر جملة وافرة من الآثار والأحكام في اعتبار الاستحسان والخروج عن القواعد القياسية.


4- أنه قد جاء النص القرآني في مطلع سورة المائدة بالنهي عن استحلال شعائر الله وعلل النهي بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى الذي لا يصح معه عبادة ولا يقبل عمل فإنه وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا فإن ذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى.


5- كما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه النهي عن سبي الراهب ...لمجرد أنه زعم أنه حبس نفسه في عبادة الله تعالى وإن كانت عبادته أبطل الباطل

فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا وتتبع مثل هذا يطول.

6- ثم نبه أبو العباس القباب إلى الخلاف في ما نهي من الشارع: هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وأن فيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى فكيف بهذا ؟

7- كما نبه إلى أن المسألة المختلف فيها إذا خرجت إلى أصل مختلف فيه فقد خرجت عن حيز الإشكال ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له.
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
المطلب الثاني: مرحلة النضج " مراعاة الخلاف في كتب الشاطبي المحررة":

يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات:
المسألة الثالثة:
الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فيها غير ذلك([1])......والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إلى الشريعة كثير كله، قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد([2])
ثم بعد أن انتهى الشاطبي من تقرير هذه المسألة:
أثار بعض الإشكالات والقواعد التي يمكن أن يعترض بها على تقريره لهذه المسألة
فذكر جوابا مجملا وهو:
"أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة؛ فإنها من المواضع المخيلة"([3])
ثم انتقل رحمه الله:
إلى الجواب المفصَّل عن كل اعتراض يرد على هذه المسألة.
وكان من جملة هذه الاعتراضات هو القول بمراعاة الخلاف، فقال رحمه الله:
"فإن قيل:
فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي؟
فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف
فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها.
فإن كانت مختلفًا فيها؛ روعي فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي؛
فلمَ يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها
ألا تراهم يقولون:
1- كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق.
2- وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام؛ فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام.
3- وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع.
بخلاف المسائل المتفق عليها:
فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها، ومثله جار فى عقود البيع([4]) وغيرها؛ فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف؛ فأنت تراهم يعتبرون الخلاف، وهو مضاد لما تقرر في المسألة.
فاعلم:
أن المسألة قد أشكلت على طائفة:
منهم ابن عبد البر؛ فإنه قال: "الخلاف لا يكون حجة في الشريعة"
وما قاله ظاهر؛ فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم.
وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم:
فمنهم من تأول العبارة:
ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها([5]) بناء على أنها لا أصل لها.
ذلك بأن يكون:
دليل المسألة يقتضي المنع ابتداءً، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف؛ فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر؛ فالأول فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان؛ فليس جمعًا بين متنافيين ولا قولًا بهما معًا.
هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس.
وحكى لي بعضهم:
أنه قول بعض من لقي من الأشياخ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي.
وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف، وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعد، إن شاء الله.([6])
يقول الشيخ عبد الله دراز معلقا على كلام الشاطبي:
فحالة ما بعد الوقوع ليست كحالة ما قبله:
لأنه بعده تنشأ أمور جددة تستدعي نظرًا جديدًا، وتجد إشكالات لا يتفصى عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعيًا بالنظر لقول المخالف وإن كان ضعيفًا في أصل النظر، لكن لما وقع الأمر على مقتضاه، روعيت المصلحة، وتجدد الاجتهاد في المسألة من جديد بنظر وأدلة أخرى.
وعليه:
فبعد الوقوع تكون مسألة أخرى غيرها باعتباره ما قبله، وهو تأويل قوي جدًا كما ترى، وعليك باختيار مسائله، ولعلك لا تجد صورة يصعب فيها التطبيق كما أشرنا إليه في المسائل التي ذكرها؛ إلا في الشاذ؛ كما في ندب التسمية للمالكي في قراءة الفاتحة خروجًا من خلاف الشافعي، وسيأتي في هذا توقف المؤلف واعتراضه في تقريره الآتي، نعم، يوجد في مذهب مالك عبارة "هذا مشهور مبني على ضعيف"، ولكنه ليس من موضوع مراعاة الخلاف بعد الوقوع، الذي هو موضوع الكلام، بل هذا طريق آخر، يرشدك إلى هذا أنه ليس كل مشهور قويًا ومعتمدًا، فكثيرًا ما يقابل المشهور بالراجح.
ثم يقول الشاطبي رحمه الله مستأنفا كلامه:
على أن الباجي حكى خلافًا:
في اعتبار الخلاف في الأحكام، وذكر اعتباره عن الشيرازي.
واستدل على ذلك:
بأن "ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط
ولو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ
لكان ذلك صحيحًا
فكذلك: إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط".
وما قاله غير ظاهر لأمرين:
أحدهما:
أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب على المستدل به:
إذ لقائل:
أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط
ثم يقول:
لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله، فإن جلده لا يطهر بالدباغ
لكان ذلك صحيحًا.
فكذلك:
إذا علق الحكم [عليه] بالاستنباط، ويكون هذا القلب أرجح؛ لأنه مائل إلى جانب الاحتياط.
وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه.
والثاني:
أنه ليس كل جائز واقعًا، بل الوقوع محتاج إلى دليل، ألا ترى أنا نقول: يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء السخن يفسد الحج، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين، وما أشبه ذلك، ولا يكون هذا التجويز سببًا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالاستنباط؛ فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال.
فإن قال:
إنما أعني ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل.
قيل:
لم تفصل أنت هذا التفصيل
وأيضًا:
فمن طرق الاستنباط: ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه؛ كالاطراد والانعكاس ونحوه.
ويمكن أن يكون الباجي:
أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى.
واحتج المانعون:
بأن الخلاف متأخر عن تقرير، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته.
قال الباجي:
"ذلك غير ممتنع، كالإجماع، فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا".
وأيضًا: "فمعنى قولنا: "إنه مختلف فيه" أنه يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا كان حاله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتقدم على علته".
والجواب عن كلام الباجي:
أن الإجماع ليس بعلة للحكم، بل هو أصل الحكم.
وقوله:
"إن معنى قولنا مختلف فيه كذا"
هي عين الدعوى.
فصل:
ومن القواعد المبنية على هذه المسألة أن يقال:
هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركًا كما يفعله المتورعون في التروك، أم لا؟
1- أما في ترك العمل بهما معًا: مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما، وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح.
2- وأما في العمل: فإن أمكن الجمع بدليله؛ فلا تعارض، وإن فرض التعارض؛ فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة، وقد مر إبطاله، وهكذا يجري الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه، ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله.

=====================================

1- الموافقات - (ج 5 / ص 59)

2- الموافقات - (ج 5 / ص 61)

3- الموافقات - (ج 5 / ص 69)
4 - يقول الشيخ عبد الله دراز: "البيع بيعًا فاسدًا مجمعًا على فساده يجب رده إن لم يفت؛ فإن فات مضى بقيمته إن كان مقومًا ومثله إن كان مثليًا، أما المختلف في فساده، فيجب رده إن لم يفت أيضًا بفسخ الحاكم أو من يقوم مقامه، فإن فات مضى بالثمن؛ فمحل الفرق بينهما عند الفوات؛ لأنه إذ ذاك يتعلق به حق لكل من المتبايعين، وهو يقوي النظر في اعتبار دليل مصحح البيع المختلف فيه والبناء عليه، فيمضي بالثمن نفسه."الموافقات (5/107)

5- هذه العبارة مشكلة من الشاطبي لذا يقول الشيخ دراز:لعل مراده بالأول تأويلها وحملها على غير ظاهرها، وبالآخر إنكار مقتضاها، وإلا؛ فحق العبارة العكس."

6- الموافقات - (ج 5 / ص 106)
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
الخلاصة [خلاصة المطلب السابق]:
قرر الشاطبي أن الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك؛ ولا يصلح فيها غير ذلكوأن الآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إلى الشريعة قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد.
ثم بعد أن انتهى الشاطبي من تقرير هذه المسألة:
أثار بعض الإشكالات والقواعد التي يمكن أن يعترض بها على تقريره لهذه المسألة، فذكر جوابا مجملا وهو:
"أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة؛ فإنها من المواضع المخيلة.
ثم انتقل رحمه الله:
إلى الجواب المفصَّل عن كل اعتراض يرد على هذه المسألة.
وكان من جملة هذه الاعتراضات هو القول بمراعاة الخلاف، فقال رحمه الله:
فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف وهو مضاد لما تقرر في المسألة، بينما المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها.
فأجاب الشاطبي عن هذا السؤال بالتسليم والمنع:
بالتسليم بوقوع الإشكال من هذه القاعدة:
وأنه قد أشكلت بالفعل على طائفة:منهم ابن عبد البر؛ فإنه قال: "الخلاف لا يكون حجة في الشريعة"، واستظهر الشاطبي هذا الجواب.
وذلك:
لأن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين.
وحاصل هذا الجواب:
هو التسليم بإشكال هذه القاعدة على الأصل في الباب واستظهار ضعفها.
الجواب الثاني بالمنع من هذا الاعتراض:
وهو جواب بعض الشيوخ الذين أدكهم:
1- وهو أن دليل المسألة يقتضي المنع ابتداءً، ويكون هو الراجح.
2- ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف.
فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر:
فالأول: فيما بعد الوقوع.
والآخر: فيما قبله.
وهما مسألتان مختلفتان؛ فليس جمعًا بين متنافيين ولا قولًا بهما معًا.
وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف.
وقرر الشيخ عبد الله دراز هذا الوجه وقواه.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
يقول الشاطبي رحمه الله في موضع من الموافقات:
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية:
حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمد وما ليس بحجة حجة.
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
مرحلة النضج:

وهو يقوم عند الشاطبي على نظرين اثنين:

النظر الأول: [عدم الاعتداد بقاعدة مراعاة الخلاف، والصيرورة إلى حيث صار الدليل]

يقول الشاطبي رحمه الله في كتابه "الاعتصام":
من جملة أنواع الإستحسان:
مراعاة خلاف العلماء وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة:
منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت ولم يعد بعد الوقت.
وإنما قال: يعيد في الوقت:
مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء.
وكان قياس هذا القول:
أن يعيد أبدا إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم
ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق ويكون فيه الميراث ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق
ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى لقول من قال : إن ذلك يجزئه فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم
وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه:
أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال لأنه ترجح عنده ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف:
1- إلى بلاد المغرب.
2- وإلى بلاد أفريقية.
لإشكال عرض فيها من وجهين :
أحدهما :
مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها وهو: ما أصلها من الشريعة؟ وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه ؟
فإن الذي يظهر الآن:
أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول.
فإذاً رجوعه ـ أعني المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد.
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد إلا أني راجعت بعضهم بالبحث وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمه الله عليه فكتب إلي بما نصه : .....
قال أبو فراس:
[وقد سبق سياق الجواب بتمامه، وهو الجواب المتعلق بأن إيرادت الشاطبي سديدة صادرة عن قريحية قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وأنه كان يقول بذلك لولا أنه وقف على اعتبار الاستحسان في فتاوى الخلفاء وعلماء الصحابة من غير نكير.....]
ثم قال الشاطبي بعد إيراده للجواب بتمامه [الجواب مذكور في المعيار المعرب وفي الاعتصام، وما هنا نقل عن كتابه الاعتصام]:
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا.
=============================================
ملخص النقل السابق من كتابه "الاعتصام":
قال أبو فراس:
تدلى كلام الشاطبي في هذا الموضع من كلامه عن أنواع الاستحسان وذلك في معرض الجواب المفصل على من يستدل بدليل الاستحسان على طريقة أهل الأهواء في الإحداث والابتداع.
فكان من أنواع الاستحسان التي ذكر "مراعاة الخلاف"
فبين لهم الشاطبي:
وجهه وحقيقته وأنه ليس من حيز الإشكال في شيء ولا يمت إلى الابتداع بسبب، وإنما هو طريقة ارتضاها جماعة من أهل العلم وقد أقاموا على اعتبارها الدليل العلمي والتطبيق العملي.
وبين الشاطبي أيضاً:
أن هذه المسألة كانت مشكلة عليه فكاتب بها بعض علماء المغرب وإفريقية فأجابوه بما لم ينشرح له صدره ، وأن الذي يظهر له الآن هو اتباع الدليل حيث صار وإلغاء ما سواه.
------------
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
مرحلة النضج:


النظر الثاني:

تبين لنا في مرحلة النضج السابقة والتي وسمناها بالنظر الأول:
أن استدراك الشاطبي رحمه الله على جواب شيخه القباب في كتابه المحرر "الاعتصام" يؤكد لنا أنه ما زال متمسكا بإشكالاته التي كاتب بها شيوخه، وأنها لم تنحل بعد ولذا لم يعتبر بهذا الأصل من مراعاة الخلاف وأن الأصل المتبع هو الدليل وحيث صار صير إليه وإلغاء ما سواه.
وفي النظر الثاني هنا :
سنبين بمشيئة الله وجها آخر للشاطبي في تناول هذه المسألة حيث يشتمل على تفصيل أوفى في ما انتهى إليه من مرحلة النضج في تحرير هذه المسألة التي عاش في تضاعيف إشكالاتها ردحا من الزمن وواصل في معالجتها أقطارا عديدة من الأرض، وإليك النقل الذي يفيد ما ذكرتُ لك:

يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات:


المسألة العاشرة([1]):


النظر في مآلات الأفعال:


معتبرٌ مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة.


وذلك:


أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل:


[فقد يكون]([2])مشروعًا:


1- لمصلحة فيه تستجلب.


2- أو لمفسدة تدرأ.


ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه.


وقد يكون غير مشروع:


لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به.


ولكن له مآل على خلاف ذلك.


فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية:

فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية.

وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية:

ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية.

وهو مجال للمجتهد صعب المورد.


إلا أنه:


1- عذب المذاق.


2- محمود الغب([3]).


3- جار على مقاصد الشريعة.



ثم بنى الشاطبي على هذا الأصل جملة من القواعد، منها قاعدة "مراعاة الخلاف"، وفي ذلك يقول رحمه الله:


وهذا الأصل ينبني عليه قواعد....


منها: قاعدة مراعاةالخلاف:


وذلك:

أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها:
كالغصب مثلًا:
إذا وقع، فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله، وكان ذلك من غير زيادة، صح
فلو قصد فيه حمل على الغاصب، لم يلزم؛ لأن العدل هو المطلوب، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة.
وكذلك الزاني:
إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته؛ لأنه ظلم له، وكونه جانيًا لا يجني عليه زائدًا على الحد الموازي لجنايته.
إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي [على المتعدي]:
أخذًا من قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

ونحو ذلك.

وإذا ثبت هذا([4]):
فمن واقع منهيا عنه:
فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام:
1- زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة.
2- أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي.
فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل
نظرًا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلًا على الجملة، وإن كان مرجوحًا
فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي.
فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن [به] من القرائن المرجحة
كما وقع التنبيه عليه([5]):
1- في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم.
2- وحديث [ترك] قتل المنافقين.
3- وحديث البائل في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك، فالذي ينجسه موضع واحد.
4- وفي الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل" ، ثم قال: "فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل منها"
هذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح.
وهذا كله:
نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة [مقتضى] النهي أو تزيد.
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد:
وهو أن العامل بالجهل مخطئًا في عمله له نظران:
1- نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي، وهذا يقتضي الإبطال.
2- ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة؛ لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام؛ لأنه مسلم لم يعاند الشارع، بل اتبع شهوته غافلًا عما عليه في ذلك، ولذلك قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة} الآية [النساء: 17].
وقالوا: إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل، فجرى عليه حكم الجاهل، إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح، فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد، فإذ ذاك لا نظر في المسألة، مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب.
يقول الشيخ عبد الله دراز في إحدى تعاليقه على هذا الفصل:
مثاله:
استحقاق المرأة المهر، وكذا الميراث مثلًا عند مالك فيما إذا تزوجت بغير ولي، فمالك -مع كونه يقول بفساد النكاح بدون ولي- يراع في ذلك الخلاف عندما ينظر فيما ترتب بعد الوقوع، فيقول: إن المكلف واقع دليلًا على الجملة وإن كان مرجوحًا، إلا أن التفريغ على البطلان الراجح في نظره يؤدي إلى ضرر ومفسدة أقوى من مقتضى النهي على ذلك القول، وهذا منه مبني على مراعاة المآل في نظر الشارع، فالمراد مراعاة الخلاف الواقع بين المجتهدين، والتعويل بعد وقوع الفعل من المكلف على قول وإن كان مرجوحًا عند المجتهد، ليقر فعلًا حصل منهيًا عنه على القول الراجح عنده، وأن له بعد الوقوع حكمًا لم يكن له قبله، وذلك نظر إلى المآل، وأنه لو فرع على القول الراجح بعد الوقوع، لكان فيه مفسدة تساوي أو تزيد على مفسدة النهي، فينظر المجتهد في هذا المآل، ويفرع على القول الآخر المرجوح باجتهاد ونظر جديد، لولا المآل الطارئ بعد الوقوع بالفعل ما كان له أن يفرع عليه وهو يعتقد ضعفه، ويدل على أن هذا غرضه لاحق الكلام، أما تمثيله بالغضب والزنا، فمن باب التمهيد والتوطئة لغرضه، ولا يتعلق به مقصوده.

===============================================

1- الموافقات - (ج 5 / ص 177)


2- يقول الشيخ دراز: هنا سقط لا يستقيم الكلام بدونه، وهو ما أثبته بين معكوفتين.


3- أي العاقبة، وفيه "غب الصباح يحمد القوم السرى".


4- يقول الشيخ عبد الله دراز: من هذا يفهم أن الكلام في الغصب والزنا تمهيد ليقاس عليه الكلام في مراعاة الخلاف، فكأنه يقول: إذا كان ما وقع ممنوعًا باتفاق لا يصح أن يكون سببًا للحيف، فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالفًا لغيره في منعه من باب أولى أن يراعي دليل صحته، وإن كان مرجوحًا عند هذا المجتهد، فلا يكون سببًا للحيف، بل ينظر للأمر الواقع وللمآل. الموافقات (5/190).


5- يقول الشيخ عبد الله دراز: أي: على الترك أو التصحيح وإن لم يكن مما نحن فيه مما فيه مراعاة الخلاف؛ لأن المواضع الثلاثة ليست منه، وإنما هي مما وقع مخالفًا للمطلوب وترك كما في بناء البيت على غير قواعد إبراهيم، أو وقع منهيا عنه قطعًا، كمسألة البائل في المسجد، وكترك قتل الكافر المنافق المؤذي للمسلمين، وقد تركه الجميع خشية حصول ضرر أشد من إزالة هذه الثلاثة. الموافقات (5/191).
 
التعديل الأخير:
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
ملخص البحث الأخير:


مرحلة النضج: النظر الثاني:

تبين لنا في مرحلة النضج السابقة والتي وسمناها بالنظر الأول: أن استدراك الشاطبي رحمه الله على جواب شيخه القباب في كتابه المحرر "الاعتصام" يؤكد لنا أنه ما زال متمسكا بإشكالاته التي سبق أن كاتب بها شيوخه، وأنها لم تنحل بعد ولذا انتهى إلى عدم اعتبار بهذا الأصل أعني مراعاة الخلاف وأن الأصل المتبع هو الدليل وحيث صار صير إليه وإلغاء ما سواه.
وفي النظر الثاني هنا :
سنبين بمشيئة الله وجها آخر للشاطبي في تناول هذه المسألة حيث يشتمل على تفصيل أوفى في ما صار من مرحلة النضج في تحرير هذه المسألة التي عاش في تضاعيف إشكالاتها ردحا من الزمن وواصل في معالجتها أقطارا عديدة من الأرض.
فإن الشاطبي رحمه الله في هذا الموضع قد تعرض لمسألة مراعاة الخلاف تفريعا على الكلام في النظر في مآلات الأفعال
فبين رحمه الله أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل:

فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه.


وقد يكون غير مشروع: لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به. ولكن له مآل على خلاف ذلك.


فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية: فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية.


وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية: ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية.


وبين الشاطبي أن هذا للمجتهد مجال صعب المورد إلا أنه: عذب المذاق. محمود الغب جار على مقاصد الشريعة.


ثم بنى الشاطبي على هذا الأصل جملة من القواعد، منها قاعدة "مراعاة الخلاف"،


ومهَّد الشاطبي لكلامه على هذا التفريع [أي تفريع قاعدة مراعاة الخلاف من القاعدة الكبيرة في النظر في مآلات الأفعال]


بتقرير:


أن في الممنوعات الشرع إذا وقعت، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها.


فإذا ثبت هذا: [وهو أن ما وقع مما كان ممنوعًا باتفاق لا يصح أن يكون سببًا للحيف]


فما وقع ممنوعا عند المجتهد مخالفًا لغيره في منعه من باب أولى أن يراعي دليل صحته، وإن كان مرجوحًا عند هذا المجتهد، فلا يكون سببًا للحيف، بل ينظر للأمر الواقع وللمآل.

وذلك:
لأن من واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام:
1- زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة.
2- أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي.
فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل.
نظرًا إلى:
أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلًا على الجملة، وإن كان مرجوحًا.
فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي.
فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن به من القرائن المرجحة
وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح.
وهذا كله:
نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة مقتضى النهي أو تزيد.
قال أبو فراس:
الجملة الأخيرة من الشاطبي هي بيان وجه تفريع قاعدة مراعاة الخلاف على قاعدة النظر في مآلات الأفعال.
ثم يقول الشاطبي:
ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد:
وهو أن العامل بالجهل مخطئًا في عمله له نظران:
1- نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي، وهذا يقتضي الإبطال.
2- ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة؛ لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام؛ لأنه مسلم لم يعاند الشارع، بل اتبع شهوته غافلًا عما عليه في ذلك، إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح، فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد، فإذ ذاك لا نظر في المسألة، مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب.
 
إنضم
22 يونيو 2008
المشاركات
1,566
التخصص
الحديث وعلومه
المدينة
أبوظبي
المذهب الفقهي
الحنبلي ابتداءا
واصل أبا فراس ... فلمثل هذا الكلام يطرب عقل اللبيب !!
 
إنضم
29 أكتوبر 2007
المشاركات
9,059
الكنية
أبو فراس
التخصص
فقه
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
أعلى