وأختمها بالمسألة الثالثة: أحكام التَّعْزِيْرِ بالمَالِ
تحريرُ محلِّ النِّزاعِ في المسألة
اتَّفق أهلُ العِلمِ _رحمهم الله تعالى_ على أصلِ مشروعيَّةِ التَّعْزِيرِ ، فَالتَّعْزِيرُ عندهم: مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِآدَمِيٍّ وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَا فِيهِ حَدٌّ أَمْ لَا, وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْحَدِّ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ, وَحَسَبِ الْجَانِي فِي الشَّرِّ وَعَدَمِهِ. وَهِيَ نَوْعَانِ: تَرْكُ وَاجِبٍ , أَوْ فِعْلُ مُحَرَّمٍ , فَمَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا; فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا.
وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قوله تعالى: { وَاَللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ }[النساء:34] (1).
وَاختلَفوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّعْزِيرِ بِالْمَالِ اختِلافاً كثِيراً، ومؤدَّى اخْتِلافهم راجِعٌ إلى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ، هي كَمَا يَلِي:
القَولُ الأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ.
والقَولُ الثَّانِي: بِجَوَازِ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ، وهَؤلاءِ اختَلفوا فيما بَيْنَهُم على كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ بِالأَمْوَالِ، على النَّحْوِ الآتِي:
* فَمِنْ قَائِلٍ بِهِ إنْ رُئِيَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ.
* وَثَمَّةَ مَنْ رَأَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ.
* وَمِنْ قَائلٍ: يُبَاعُ وَيَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ.
* وَأَفْتَى أَحَدُهُم: بِأَنْ تُحَرَّقَ.
* وَأَفْتَى غَيْرُهُ: بِتَقْطِيعِهَا.
* وَآخَرونَ بِإِمْسَاكِ الْمَالِ أَوْ شَيْءٍ مِنْه مُدَّةً ثُمَّ يُعِيدَهُ.
* وَآخَرونَ بِأَخْذِ الْمَالِ.
* وَآخَرونَ بِإتْلَافِ الْمَالِ.
* وَآخَرونَ بِإتْلَافِ الْمَالِ.
* وَآخَرونَ بِتَغييرِ الْمَالِ.
* وَآخَرونَ بِتَمْلِيْكِ الْمَالِ.
وَجَمِيْعُهَا دَاخِلٌ فِي التَّعْزِيْرِ بِنَوْعَيْهِ: التَّعْزِيْرُ بِالْمَالِ، التَّعْزِيْرُ فِي الْمَالِ، وهمَا يَشْمَلانِ مَاسَبَقَ، كَمَا أَشَارَ النَّاظِمُ المَالِكِيُّ إِلى هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ فِي نَظْمِهِ (2).
القَولُ الثَّالِث: بِمَنْعِ التَّعْزِيْرِ بِأَخْذِ الْمَالِ إلاَّ ما وَرَدَ الدَّلِيْلُ فِيْهِ وَصَحَّ، وقَصْرُهُ على مَحَلِّهِ فَقَط، وهَذا القَولُ وَسطٌ بينَ القَوْلَيْنِ: فكان قَوْلاً ثَالِثَاً، تَوَسَّطَ فِيْهِ قَائِلُوهُ بين طَرَفَيْنِ.
-------------------------------------------------------
(1) أسنى المطالب، شرح روض الطالب، لزكريا الأنصاري_شافعي(4/162-163)، الطرق الحكمية، لابن القيم_حنبلي،ص(94)، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون_مالكي،(2/289-290)، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للطرابلسي_حنفي،ص(196).
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير، بلغة السالك لأقرب المسالك _ مالكي(4/505-506). ونقل في حاشية الصاوي: ((وَفِي نَظْمِ الْعَمَلِيَّاتِ:
وَلَمْ تَجُــزْ عُقُــوبَـةٌ بِالْمَــالِ *** أَوْ فِيهِ عَنْ قَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ))