السلام عليكم
ب- المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الحَنَفِيَّةِ (مِنْ كِتَابِ الصَّلاَةِ)
...
***
الرابع عشر/ مَسْأَلَةٌ فِي الجَمَاعَةِ
ذهب جمهور الفقهاء -الحنفية والمالكية والشافعية- إلى كراهة تكرار الجماعة في مسجد الحي الذي له إمام راتب وجماعة معلومون بغير إذن الإمام. وقال أحمد وإسحاق وادود وابن المنذر: لا تكره. أما إذا لم يكن له إمام راتب، أو كان المسجد في قارعة الطريق، فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة وأكثر بالإجماع.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): إن كان مسجدًا له أهل معلوم، فإن صلَّى فيه غير أهله لا يُكره لأهله أن يُعيدوا الجماعة، وإن صلَّى فيه أهله أو بعض أهله، يُكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يُعيدوا الجماعة، وإن كان مسجدًا ليس له أهل معلوم بأن كان على شوارع الطريق لا يُكره تكرار الجماعة فيه. اهـ. وراجع: المبسوط (1/ 135)، والموسوعة الفقهيّة (27/ 175).
وقال مالك في المدونة (1/ 181): لا يجمع الصلاة في مسجد مرتين، إلا أن يكون مسجدًا ليس له إمام راتب فلكل من جاء أن يجمع فيه. اهـ. وراجع: المنتقى (1/ 232)، ومختصر خليل وشروحه: والتاج والإكليل (2/ 437)، ومنح الجليل (1/ 367)، ومواهب الجليل (2/ 109)، وشرح الخرشي (2/ 30).
وقال النووي في المجموع (4/ 119): إن كان للمسجد إمام راتب، وليس هو مطروقًا، كره لغيره إقامة الجماعة فيه ابتداءً قبل فوات مجئ إماممه، ولو صلَّى الإمام كُرِهَ أيضًا إقامة جماعة أخرى فيه بغير إذنه؛ لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد، هذا هو الصحيح المشهور به قطع الجمهور، وإن كان المسجد مطروقًا أو غير مطروق وليس له إمام راتب، لم تُكره إقامة الجماعة الثانية فيه؛ لأنه لا يحتمل الأمر فيه على الكياد. اهـ. وراجع: المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (2/ 277)، ونهاية المحتاج (2/ 162).
وقال ابن قدامة في المغني (2/ 5): ولا يُكره إعادة الجماعة في المسجد، ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي، وحضر جماعة أخرى، استحب لهم أن يُصلُّو جماعة، وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي وقتادة وإسحاق. وقال سالم وأبو قلابة وأيوب وابن عون والليث والبتي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي: لا تُعاد الجماعة في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس، فمن فاتته الجماعة صلى مُنفردًا. اهـ. وراجع: الفروع (1/ 483).
-أدلة الحنابلة:
1- اتسدل الحنابلة بعموم حديث ابن عمر في الصحيحين -عند البخاري (645)، ومسلم (1509)- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرينَ درجة).
2- وبحديث أبي سعيد السابق في أول المسألة.
3- وبما رواه أحمد في مُسنده (5/ 254) عن أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي فقال: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيُصلي معه). فقام رجل فصلى معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذان جماعة).
4- وبأنه قادرٌ على الجماعة فاستُحب له فعلها، كما لو كان المسجد في ممر الناس.
-أدلة الجمهور:
استدل الحنفية على كراهة الجماعة بما رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 51) من طريق الوليد بن مُسلم عن معاوية بن يحيى عن خالد الحذاء عن عبدالرحمن ابن أبي بكرة عن أبيهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من بعض نواحي المدينة يُريد الصلاة، فوجد الناس قد صلّوا، فذهب إلى منزله فجمع أهله ثم صلَّى بهم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 45): رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات. اهـ. وبحثت عنه في المعجم الكبير فلم أجده، ومعاوية بن يحيى أبو مُطيع الأطرابلسي قال عنه أبو حاتم وأبو زُرعة: صدوق مُستقيم الحديث. وقال أبو زُرعة: وأبو علي النيسابوري: ثقة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وفي رواية: صالح ليس بذاك القوي. وقال أبو داود والنسائي: لا بأس به. راجع: تهذيب الكمال (28/ 224)، وميزان الاعتدال (4/ 139).
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): ولو لم يُكره تكرار الجماعة في المسجد لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ونُعِقِّبُ بأن الحديث ليس بنصٍّ على أنه صلى الله عليه وسلم جمع أهله فصلَّى بهم في منزله؛ بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد، وكان ذهابه إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، ومع هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال به. راجع: تحفة الأحوذي (2/ 9).
وأَوْلَى مما استدل به الكاساني أن يُقال: إن جمهور العلماء كره تكرار الجماعة لأمرين:
1- لأنه يُفضي في الغالب إلى الاختلاف والفُرقة بين المسلمين، وقد أعرب الإمام الشافعي عن هذا المعنى بأحسن بيان فقال -كما في الأم (1/ 180)-: وأحسبُ كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام جماعة، فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرُّق كلمة وفيهما المكروه. وإنما أكرهُ هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بُنِيَ على ظهر الطريق، أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم، ويُصلي فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة. اهـ.
2- ولأنه يُؤدي إلى تقليل الجماعة؛ لأن الناس إذا علموا أنهم تفوتهم الجماعة فيستعجلون فتكثر الجماعة، وإذا علموا أنها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه بخلاف الماسجد التي على قوارع الطرق؛ لأنها ليست لها أهل معروفون، فأداء الجماعة فيها مرة بعد أخرى لا يؤدي إلى تقليل الجماعات، وبخلاف ما إذا صلَّى فيه غير أهله؛ لأنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة؛ لأن أهل المسجد ينتظرون أذان المؤذن المعروف فيحضرون حينئذ -وراجع: بدائع الصنائع (1/ 153)-. ومتى تعينت المفسدة من أمر مُنِعَ ولو كان في أصله جائزًا؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا شك أن تعدد الجماعات يسبب فتنًا شديدة بين المسلمين كما هو معلوم.
هذا كله كله إذا كانت الجماعة الثانية كبيرة أو يُدعى إليها، أما إذا كانت هيئتها كالمذكورة في الحديث فقد أجازها طائفة ممن منع تكرار الجماعة على الهيئة المكروهة.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/ 153): ورُوي عن أبي يُوسف أنه إنما يُكره إذا كانت الجماعة الثانية كثيرة، فأما إذا كانوا ثلاثة أو أربعة فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلوا بجماعة لا يكره. ورُوي عن مُحمد أنه إنما يُكره إذا كانت الثانية على سبيل التداعي والاجتماع، فأما إذا لم يكن فلا يُكره. اهـ.
وقال النووي في المجموع (4/ 119): أما إذا حضر واحد بعد صلاة الجماعة فيُستحب لبعض الحاضرين الذين صلُّوا أن يُصلِّي معه لتحصل له الجماعة، ويُستحب أن يشفع له من له عُذر في عدم الصلاة معه إلى غيره ليُصلي معه لحديث أبي سعيد الخدري. اهـ.
يتضح من ذلك أن مذهب الجمهور ليس فيه مُخالفة للحديث؛ فالمكروه عندهم تلك الجماعة التي يترتب عليها مفسدة بين المسلمين، وهذا أمر ينبغي أن يكون محل اتفاق بين أهل العلم، وليس سببًا في اتهام الجمهور بمُخالفة الحديث كما فعل ابن أبي شيبة.
***
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وجزاكم الله خيرًا.
والله أعلم.