رد: بعض الاعتراضات على أهل المذاهب .. (دعوة للمشاركة)
رد: بعض الاعتراضات على أهل المذاهب .. (دعوة للمشاركة)
أحسن الله إليكم دكتورنا الفاضل ، قد استحسنا ما ذكرتم في عامة مشاركاتكم هنا قبل مشاركة الأخ أحمد عيسوي الأخيرة.
ولا يظهر لي في كلام الأخ أحمد عيسوى ما يعارض ما تقدم أصلاً ، ولكنه أعاد الكلام أو نقله إلى الكلام على طلب الفقه خاصة ، وكان رأى أنه لا سبيل إلى طلب الفقه إلا عن طريق التزام مذهب بعينه ، وهو ـ تقريباً ـ ما كنا ذكرناه أو مضمونه في مشاركة لنا سابقة.
ويكفي في تصحيح القصر في كلامه صحته في الأغلب ، إذ ما خرج عن حكم الأغلب إن كان احتوى على مضار ـ كما ذكرتموه أنتم في مشاركاتكم ـ .. كان كافياً للتنكب عنه والتزام ما جرى عليه الأغلب في طريق التحصيل ، وقد اتفقنا على حصول تلك المضار ؛ فلزم التنكب.
فإن قيل : إن ما جرى عليه الأغلب أيضاً تكتنفه عيوب قدمناها أو بعضها.
قلنا : قد قدمنا ذلك ، وأجبنا عنه بما حاصله أن المتعصب المتمذهب لا يضر إلا نفسه من حيث إلزامه بمذهب إمام بعينه ، لكنه لا يضر غيره إذا أفتى .. لالتزامه قول إمام معتبر.
وأيضاً فالمتمذهبة منهم المتعصب ومنهم المعتدل ومنهم المفرط ، وطريقهم في التحصيل واحدة ، فالطريق إلى تحصيل الفقه لا تعلق لها بنفس التعصب وإلا كان كل المتمذهبة متعصبة.
وعليه فالكلام في طريق الطلب لا يحتمل ما قيل من عيوب متقدم ذكرها ، بل ذلك محتمل في الطالب نفسه ، وهو أمر آخر.
فإن قيل : فهلا قلت في تحصيل الفقه من غير طريق التمذهب مثل ما قلت في تحصيله عن طريق التمذهب؟
قلنا : قد قدمنا في مشاركتنا المشار إليها من الأسباب المانعة ما لو أُمْعِنَ فيه النظر ما سُئِلَ هذا السؤال أصلاً.
وبيانه اختصاراً أن طالب العلم حال كونه مبتدئاً هو مقلد لا محالة ، سواءً قلنا هو مقلد لمذهب إمام بعينه ، أو قلنا : هو مقلد لشيخه ومدرسه ، ولا يُتصور طلبه من غير تقليد أصلاً، وعدم التصور إنما هو للاستحالة.
أما قولكم :
دعوى أنّه "لا فكاك لمن أراد دراسة الفقه إلا بدراسة مدرسة فقهية محررة"، مع احترامي وتقديري لأصحاب هذه الدعوى، محلُّ نظر.
لأن الأمر يتوقف على المقصود بالفقه، وهو يُطلق باعتبارين:
أحدهما: باعتباره فعل الفقيه (المجتهد) وهو علمه ـ لا عن تقليد ـ بالأحكام العملية استنباطا لها من أدلتها التفصيلية.
والثاني: باعتباره نتيجة لفعل الفقيه: وهنا يطلق الفقه على الأحكام المستنبطة نفسها لا على عملية استنباطها، كما نقول: "كتاب فقه"، أي كتاب يشتمل على ذكر أحكام فقهية، وكما نقول "فقه المعاملات": أي مجموع الأحكام التي تتعلق بباب المعاملات وهكذا.
أقول كلام الأخ أحمد عيسوى وما ذكره من نقل صريح بأنه الفقه المطلوب بالدرس ، إذ عبارته :
فأكثر العلماء المعاصرون على أنه لا "سبيل" ولا "فكاك" لمن أراد دراسة الفقه ... كالشيخ الألبانى قال :
"لا سبيل لدارس الفقه ... وقال : "ولكن بسبب هذا الزمن المديد الطويل لم يعد بإمكان طالب العلم أن يفهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الا بطريق المذاهب"... وهذا الرأى كذلك هو رأى دار الافتاء المصرية :
"وأما اتباع المذاهب فى اطار الدراسة والتفقه فهذا مما لا فكاك منه؛
والفقه الذي يُحصل بالدراسة وطلب العلم ليس هو نفس الملكة القائمة في نفس الفقيه ، لأنها صفة ذات توهب منه سبحانه ، فقوله سبحانه : (ليتفقهوا في الدين) ليس المقصود به نفس الملكة التي هي صفة للفقيه ، لأن المأمور إن كان فقيه النفس .. كان أمر له بتحصيل الحاصل، وإن كان بليداً .. كان تكليفاً بالمحال ، بل تكليف الفقيه بتحصيل هذه الملكة ـ إن غضضنا النظر عن كونه تكليف بتحصيل الحاصل ـ ممتنع ؛ إذ الفقيه لا يكسب نفسه صفات ذات ، والفقه بالتفسير المتقدم إنما هو علم مخصوص متعلق بقدرة مخصوصة ، والعلم والقدرة من صفات الذات التي لا يدخل تحصيلها تحت مشيئة العبد.
وقد يراد بالفقه نفس عملية استنباط الأحكام ، وهو مبني حينئذٍ على وجود الفقه في من يقوم بهذه العملية ، فهو فقه بالفعل والأول فقه بالقوة ، كما يقال : متكلم بالفعل ومتكلم بالقوة.
وهذا أيضاً غير داخل في الأمر في قوله جل وعلا (ليتفقهوا في الدين) لانبنائه من جهة على غير المقدور ، ولأنه لا فائدة منه أصلاً فلا يؤمر به ، وإنما تحصل الفائدة في نتيجة هذه العملية ، وتحصل النذارة بالإخبار بهذه النتيجة.
فلو أخبر الفقيه قومه بكيفة تعرفه عقوبة الربا وكيفية تعرفه على الأفعال التي تدخل تحت اسم الربا، لم يكن منذراً ، وإن أخبرهم بنفس العقوبة وحذرهم من الأفعال الداخلة في الربا .. كان منذراً ، إذاً المطلوب في الآية هو التعرف على الأحكام الشرعية وتبليغها للناس.
وعليه فالتفقه المقصود به التعرف على الأحكام الشرعية من طرقها بالاجتهاد .
فهل يختص الحكم بالفقيه لأنه هو القادر على التفقه؟
ممكن ، ولا تعلق له بالمسألة موضع البحث، ولكن القاعدة المعروفة أن المقدور الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما قاله بعضهم ، أو يلزم الإتيان به، كما عبر آخرون يلزم به تعلم كيفية استنباط الأحكام الشرعية ، حتى يؤدي فرض التعرف على الأحاكم وفرض النذارة.
فما الطريق؟
قدمناه.
على القواعد ..."
وكثير منها مبني على عادات وأعراف قديمة تغيرت فأصبحت غير ذات قيمة في زمننا،
وكثير منها افتراضي أو نادر الحدوث،
وكثير منها لن أحتاج إليه في حياتي العملية لا في نفسي ولا في أهلي ولا فيما يتوقع أن يسألني عنه الناس.
وفوق كل ذلك لماذا أضيّع عمري في فك طلاسم المتون والشراح ومعاناة كثير من كتبهم،
قول فضيلتكم (فكثير منها) ظاهره أن المراد القواعد ، وهذه القواعد إن كان الحكم عليها مبني على التقليد .. فلا كلام ، وخير من تسطير الحروف السلام.
وإن كان مبني على الاجتهاد ، فنعم من حقك أن ترجع إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله وكلام السلف البليغ الوجيز في عبارته.
أما الإكتفاء في طلب الفقه بمعرفة رؤوس المسائل كما يعرضه ابن المنذر وغيره ، فإن أريد به الإكتفاء بهذه القراءة السطحية لبلوغ درجة الإجتهاد أو رتبة الفتوى التي يعرف صاحبها بالفقيه .. فيمنع منه أن التفقه كما تقدمنا هو معرفة الفقيه بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية على ما تقدم ، وهذا لا يحصل بالإطلاع على المذكور ، لذا صنف فيه الناس ما يعرف بأصول الفقه الذي هو مجال تخصصكم ، وابن المنذر ذكر الموجز البليغ لمعرفته بالطويل العويص من شروط الإجتهاد ، لكنه إذا تكلم في الطهارة مثلاً لا يقصد تعريف الناس بطرق الإجتهاد ، بل بنتائجه ، فالماء الكثير طهور لقوله سبحانه (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، ولا حاجة لتسطير صفحات يبين فيها أن الدليل هو مفهوم المخالفة ، وأنه هنا مفهوم عدد أو شرط أو غاية وأنه حجة ، وأن الخبث يطلق في اللغة على كيت وكيت ، والمقصود بالحمل إما الإحالة أو عدم التغير ودليل كل واحد منها كيت وكيت ، وغير ذلك مما ألم به ابن المنذر وغيره ممن ذكر ولا يعيه من يريد الإقتصار على أقوالهم.
فمن أراد أن يعرف الفقه كما يعرفه ابن المنذر وغيره ممن تقدم ، لا بد أن يلم بما ألموا به من شروط الإجتهاد مع كونه ذكياً فقيه النفس، لا أن يقتصر على كلامهم وكلام السلف الوجيز البليغ.
بل لو جاء الطالب في أول الطلب وقال : كلامهم وجيز بليغ ، لكان عجباً إذ كيف عرف أن كلامهم موجزاً بليغاً قبل تحصيل علم البيان والمعاني وغيرها من علوم اللغة؟
أما إن أراد أن يعرف رؤوس المسائل وأحكامها وأدلتها الجملية ليعمل بها في خاصة نفسه ، أو ينقلها لغيره ، ولو لم يوصله ذلك إلى رتبة الاجتهاد، فلا أعرف من يسمي هذا متفقهاً، ولا من يحرج عليه ما يدام لا يتبع في شيء من ذلك هواه ، ولا هو ـ في ظني ـ مقصود الأخ أحمد عيسوي.
ولعل هذا يكفي فيما يتعلق بنفس المسألة.
وأنا أرجو من الله سبحانه أن أتمكن من الفقه كما تمكنتم ، وأتحرر كما تحررتم ، وأذوق ما ذقتم، ولكن إذا بلغتُ رتبة الاجتهاد ، لا إذا ادعيتُ ذلك.
وأعتذر بأن الوقتَ لا يسعفني بأكثر مما تقدم
أسأل الله أن يمن علي وعلى جميع الإخوان بالفقه في دينه
والله سبحانه أعلم