رد: زيارة القبور ايام العيد.
أولا ينبغي أن يُعْلَمَ أن الخلاف هنا ليس خلافا شخصيا ولا نزاعا مذهبيا بين مالكي وشافعية كما يظنه البعض، ولكن الواقع أن هذه مسألة تتعلق بدين المرء وكيفية تعبده لله عز وجل، هذه العبادة التي خلق الله الخلق لأجلها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي لم أخلقهم إلا لعبادتي لا لشئ آخر.
وإذا كان ذلك الأمر كذلك – وهو لاشك كذلك – فهل يُعْقَلُ أن الله عز وجل خلقنا لشئ واحد هو عبادتُه ثم أخفى عنا أمر هذه العبادة؟! وكيفيتها؟! وتركها لعقولنا؟! واستحساناتنا؟! ومذاهبنا؟! هل صحيح أنه يجوز لنا أن نعبد الله سبحانه كيف نشاء نحن، لا كيف يشاء هو؟! هل صحيح أن الحق يمكن أن يتعدد ويختلف اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع؟! هل الواجب على الإنسان طلبُ علمَ ما أنزل الله أو اتباع المذهب في كل صغيرة وكبيرة لايجوز العدول عنه مثقال ذرة وإن خالف الكتاب والسنة؟!
إن مغبة هذا الاعتقاد عظيمة على دين المرء، فلينتبه المرء المسلم لنفسه ولْيَحْتَطْ لدينه
وَلْنُعَرِّجْ الآن على ما ذكره أستاذنا الفاضل محمد بن عبد الله
فقد نقلت فيما سبق عن العلامة المقبلي رحمه الله قوله: "
وأكثر ما رأينا نَفَاقَ هذه البدع في الشافعية مع أنهم أشد الناس أو من أشدهم ممارسة للسنة كما تجد اليوم نِحْلَةَ ملاحدة الباطنية غلبت عليهم من بين الناس" فما جاء من الإخوة جوابا عن ذلك إلا الإنكار المحض والنفي الخالي عن الدليل فذكرت أن الدليل على ذلك هو ما ذكره المقبلي رحمه الله أن هذا أمرا واقعا مُشاهَدًا فهذا دليل على صحة هذا الادعاء، وأما المخالِف فلم يأت ببينة على صحة نفيه فصارت صورة الأمر هكذا:
وجود دعوَى لها طرفان أحدهما يثبتها والآخر ينفيها ومع المثبِتِ دليل إثباته وليس مع النافي شئ فالنتيجة الحتمية أن هذه الدعوى صحيحة
ثم كان الأمر العجيب وهو أن النافي جاء للمثبت بأدلة أخرى تؤيد دليله وتضعف حجة النافي وذلك أن أستاذنا الفاضل نقل من كلام أئمتنا الشافعية رحمهم الله ما يدل على أنهم يستحسنون هذه البدع المذكورة -وغيرها طبعا مما لم يذكر- أو يرون أن هذه البدع لا بأس بها في الدين.
ولا تقل إن هذه دعوى لا دليل عليها فقد نقل لنا أستاذنا الفاضل محمد بن عبد الله من الأدلة على ذلك ما فيه كفاية {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]
فكان ما نقله أستاذنا الفاضل أدلة أخرى تضاف لما ذكره العلامة المقبلي رحمه الله تثبت صحة دعواه
وبالطبع أيضا وبالضرورة أن ما ذكرته هنا ليس المراد به التنقص لسادتنا الشافعية رحمهم الله إذ كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ونحن أمام أمر عظيم جدا يُخافُ منه على دين المرء وعبادته وذلك هو وجود مخالفة صريحة من المذهب للدليل، فانتصر أصحاب المذهب للمذهب وتعصبوا له، ظانين أن الحق لا يخرج عن مذهبهم، وأما الدليل فأمره هين إذ يمكن تأويله وتحريف الكلم عن مواضعه ليوافق المذهب، والزعم بأن الاستنباط من الكتاب والسنة لا يستطيعه إلا المجتهد وأما نحن فمقلدون لا يحل لنا الخروج عن المذهب قيد أُنْمُلَةٍ وكذا أتباع كل مذهب يقولون هذا أفليس الحنفي يقول:
فلعنة ربنا أعداد رمل *** غلى من رد قول أبي حنيفة
والمالكي يقول: لولا مالك لكان الدين هالك
والحنبلي يقول:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت *** فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
أفليس الحق الواجب على المرء المسلم شافعيا كان أو مالكيا حنبليا كان أو حنفيا ظاهريا كان أو غير ذلك أن تكون عصبيته للكتاب والسنة لا لغيرهما؟ وأن يقدمهما على قول كل أحد مهما كان لا أن يقدم قول كل أحد عليهما مادام أن القائل من علماء المذهب.
فإذا كان القائل من المذهب اتبعناه وإن خالف الدليل
وإن كان من غير أهل المذهب احتججنا عليه بالدليل وقلنا: مذهبنا كذا وقال أبو حنيفة كذا، لنا قوله تعالى أو قوله صلى الله عليه وسلم
فيا عجباه أن يكون هذا حالنا مع الكتاب والسنة
وهذه المسألة التي نحن بصددها من أظهر الأدلة على ذلك فدعنا الآن من قول فلان وفلان ولننظر في تعريف البدعة كيف عرفها رسول صلى الله عليه وسلم؟
قال صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" زاد في حديث آخر: "وكل ضلالة في النار" [حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم]
فالرسول صلى الله عليه وسلم عرَّف البدعة بأنها: كل مُحْدَثَةٍ، يعني في الدين طبعا وإلا فالمخاطَبون عرب يعرفون معنى البدعة في اللغة
فانظر معي رحمك الله إلى هذه العجائب:
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم ومحدثات الأمور)
والبعض يقول: من المحدثات ما هو نافع
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل محدَثة بدعة)
والكل يقول: نعم كل محدثة بدعة
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كل بدعة ضلالة
والبعض يقول: لا، ليس كل بدعة ضلالة بل من البدع ما هو واجب ومنها ماهو مستحب ومنها ما هو جائز
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: وكل ضلالة في النار
والبعض يقول بلسان الحال: لا ليس الأمر كذلك فالبدع الواجبة والمستحبة تُدخِل الجنة
فأي ضلال أبعد من هذا
وليس أمام مَنْ يتبع هذا القول (أعني تقسيم البدعة على الأحكام التكليفية) إلا أحد أمرين:
الأول: أن يعمد إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤوله ويلوي عنق النص حتى يوافق مذهبه
الثاني: أن يعترض على المخالف بأن هذا القول قال به فلان وفلان فيرد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول العلماء، ويعترض على قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول العلماء
وهو في كلا الأمرين على خطر عظيم
ألم يسمع هذا المعترض قول ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء
أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر.
وقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟
الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك.
وها هنا عجيبة أخرى – والعجائب جَمَّةٌ – أحب أن أدلك عليها وهي:
أن مسألة تخصيص العبادة المطلقة بزمان كتخصيص زيارة القبور في العيد
بدعة عظيمة عند المالكية، عبادة مستحبة عند الشافعية، وأنت أيها الأخ الكريم لاشك أنك تعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا»[1] وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ»[2]
فقل لي بربك إذا هم العبد المسلم بهذه البدعة (يعني زيارة القبور في العيد
ملتزما إياها لا مجرد الزيارة في العيد اتفاقا) فكيف يكتب الملك هذا الهم؟!
هل إذا كان العبد المسلم شافعيا كتب له الملك هذا الهم حسنة فإن زار فعلا كتبها له حسنة مضاعفة إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف.
وإن كان العبد المسلم مالكيا فَهَمَّ بهذه البدعة نفسها رَقَبَهُ الملك فإن عملها كتبها له الملك سيئة مضاعفة لأن البدعة أعظم من المعصية.
يعني يكون الفعل الواحد من الجهة الواحدة حسنة سيئة واجبا حراما أو مستحبا مكروها، يعني يكون هذا بدون انفكاك الجهة
إلا أن الفاعل إذا كان شافعيا فهو مثاب وإن كان مالكيا فهو معاقب!!
إن كان شافعيا فقد تعبد لله بما هو مستحب وفعل ما يقربه من الجنة، وإن كان مالكيا وفعل نفس الفعل بدون أن يترك منه شيئا فقد تعبد لله بما هو مكروه أو حرام وفعل ما يقربه إلى النار
أخيرا أقول: إنه ينبغي للمسلم الناصح لنفسه أن يكون الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما، وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا جميعا: "إِنَّهُ من يَعش مِنْكُم
يرى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ
تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»
[3]
[1] صحيح: رواه البخارى ( 7501) ومسلم (128)
[2] صحيح: رواه مسلم (129)
[3] صحيح: رواه أحمد وغيره كما تقدم