العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

فقد طرحتُ موضوعًا في آواخر عام (2012 م) جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، ثم أتبعتُه بموضوعٍ في أوائل العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابي الطهارة والصلاة بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)‘‘، ثم طرحتُ بعده موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب البُيُوع (وأتبعته بفوائد طيّبة) وكان بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)‘‘، ثم أضفت موضوعًا من شهور قريبة ذكرت فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحُدُود (ويحوي فوائد نفيسة) وأسميته: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)‘‘، ومن قرابة شهرين طرحتُ موضوعاً آخر تكلمت فيه على أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب النكاح/ الطلاق/ اللعان؛ بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلاقِ وَاللِّعَانِ)‘‘، ..
.. والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من من مختلف الكتب الفقهية اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات 517-564-.
هذا الموضوع يعتبر آخر مواضيع سلسلة "المسائل المنتقدة على الإمام أبي حنيفة" ، التزمت في طرحها بالأقسام المتخصصة في الملتقى، وآثرت أن أطرح هذا الموضوع الأخير في قسم المذهب الحنفي لأنه يحتوي على الكثير من المسائل المتفرقة.
ونظراً لأن هذا الموضوع مسائله متفرقة فسيكون طويلاً نوعاً ما، وبما أنه الموضوع الأخير للسلسلة؛ فسأقوم بتقسيمه بحيث تشمل كل مشاركة مسألة، نزولاً لرغبة بعض الأعضاء لعدم تشتيت القراء، بالرغم من أن هذه ليست عادتي في الطرح :) ،،
وبعد الانتهاء من هذا الموضوع سأجمع كافة روابط المواضيع الخاصة بالسلسلة في موضوع مستقل، وسأطرح معه ملف شامل لمحتوى المواضيع بصيغة (PDF).
قريباً، سأقوم بإضافة فوائد أخرى لكل موضوع من مواضيع السلسلة إن تيسر لي ذلك على فترات متفاوتة.

أولاً: مَسْأَلَةُ سِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ
(1) حَدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ وأَبُو أُسَامَةَ عَن عُبَيْدِاللهِ بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَسَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. أخرجه البخاري (4228)، ومسلم (1762).
(2) حَدَّثنا حَفْصٌ عن غِيَاثٍ عن حَجَّاجٍ عن مَكْحُولٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لَهُ. أبو داود في المراسيل (289).
(3) حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن مَكْحُولٍ قَالَ: أَسْهَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. المراسيل (289).
(4) حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَن أَبِي صَالِحٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ. رواه أبو إسحاق بن راهويه في مسنده كما عزاه إليه الزيلعي في نصب الراية (4/ 276)، وحجاج هو ابن أرطاة، قال الحافظ في التقريب: أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس.
(5) حدَّثنَا أَبُو خَالِدٍ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِمِائَتَي فَرَسٍ لِكُلِّ فَرَسٍ سَهْمَيْنِ. أخرجه عبدالرزاق في المصنف (5/ 186-187).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: سَهْمٌ لِلْفَرسِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِهِ.
***
ذهب جمهور العلماء إلى أن الغنيمة يقسم منها للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وقال أبو حنيفة: للفرس سهم واحد، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فوافقا سائر العلماء.
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/ 87): "اختلف في سهم الفارس فقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللراجل سهم. وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي: للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم.
وروي مثل قول أبي حنيفة عن المنذر ابن أبي حمصة عامل عمر أنه جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً فرضيه عمر ومثله عن الحسن البصري". وراجع الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 492)، والعناية (5/ 493)، ونصب الراية (4/ 273).
قال في المدونة: "قلت: فكم يجب للفرس في الغنيمة؟ قال: سهمان للفرس وسهم لفارسه عند مالك فذلك ثلاثة أسهم". أحكام القرآن لابنا لعربي (2/ 409)، والمدونة (1/ 518)، وراجع مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (4/ 550)، وشرح الخرشي (3/ 108)، ومواهب الجليل (3/ 367)، ومنح الجليل (3/ 193).
قال الشافعي في الأم (4/ 152، 7/ 355): "ثم يعرف عدد الفرسان والرجالة من بالغي المسلمين الذي حضروا القتال، فيضرب للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً، فيُسوي بين الراجل والراجل فيعطيان سهمًا سهمًا ويفضل ذو الفرس". وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 147)، مغني المحتاج (4/ 168)، نهاية المحتاج (6/ 149).
قال في المغني (6/ 322): "ذهب جمهور أهل العلم إلى أن للراجل سهمًا وللفارس ثلاثة أسهم. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان، وخالفه أصحابه فوافقوا سائر العلماء". وراجع: الفروع (6/ 226)، والإنصاف (4/ 173).
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر المخرّج في الصحيحين، ولكن الاختلاف الواقع فيه جعل الحنفية ينازعون الجمهور في الاستدلال به.
هذا الحديث رواه عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، واختلف عليه فيه، فرواه أغلب الرواة عنه بألفاظ متقاربة يُستدل بها لمذهب الجمهور، وخالف بعضهم فرواه بألفاظ يستدل بها لمذهب الحنفية.
فرواه البخاري (2863) من طريق أبي أسامة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. والحديث بهذا اللفظ دليل للجمهور لا اختلاف فيه.
ورواه البخاري من طريق زائدة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا. قال: وفسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم -سبق تخريجه في أول حديث بالمسألة-.
ورواه مسلم (1762)، والترمذي (1641) من طريق سليم بن أخضر عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهمًا.
ورواه أحمد في مسنده (2/ 143)، ومن طريقه أبو داود (2735) عن أبي معاوية عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهمًا له وسهمين لفرسه. ورواه أحمد في مسنده (2/ 2) عن ابن نمير عنه بلفظ: قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا.
ورواه أحمد (2/ 08، 251) عن عبدالرزاق عن سفيان الثوري عنه به مثله. ورواه الدارقطني في سننه (4/ 104) من طريق النضر بن محمد عن حماد بن سلمة عنه به نحوه.
ثم خالف بعض الرواة عن عبيدالله بن عمر فرووه بألفاظ توافق مذهب أبي حنيفة، ومن ذلك:
قال الدارقطني في سننه (4/ 106): حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة وابن نمير قالا: حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً.
قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي؛ لأن أحمد ابن حنبل وعبدالرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا، ورواه ابن كرامة وغيره عن أبي أسامة خلاف هذا أيضاً". ورواية ابن بشر وابن كرامة رواهما الدارقطني (4/ 102).
قلتُ: والوهم في ذلك عندي من الرمادي أحمد بن منصور أبي بكر، ولا شك في ذلك؛ لأن الحديث في مصنف ابن أبي شيبة كرواية الجماعة المؤيدة لمذهب الجمهور كما في صدر المسألة، وهو ما يتفق مع إيراد ابن أبي شيبة لها على أبي حنيفة.
ومن الروايات المخالفة: ما رواه الدارقطني في سننه (4/ 106) قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أسهم للفارس سهمين وللراجل سهمًا.
وجميع رجال الإسناد ثقات، وهو أصح ما يستدل به لمذهب الحنفية، لولا ما فيه من المخالفة لرواية الجماعة عن عبيدالله بن عمر، وكانت الجادة أن يتهم بها عبدالله ابن المبارك، ولكن لجلالته اتهم بها نعيم بن حماد الراوي عنه، كما قال أبو بكر النيسابوري: ولعل الوهم من نعيم؛ لأن ابن المبارك من أثبت الناس. [سنن الدارقطني (4/ 106)].
ورواه الدارقطني في سننه أيضاً (4/ 107) قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن ملاعب حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين وللراجل سهمًا.
قال الدارقطني: "كذا قال وخالفه النضر بن محمد عن حماد وقد تقدم ذكره".
إذن فالمحفوظ في حديث ابن عمر هذه الألفاظ التي تؤيد مذهب الجمهور، وأما الروايات الأخرى فهي شاذة لمخالفتها ما رواه الجماعة.
وقد روى الدارقطني في سننه (4/ 106) من طرق عبدالله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر بلفظ الشك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للفارس أو للفرس سهمين وللراجل سهمًا. وهي تؤيد مذهب أبي حنيفة لولا ضعف عبدالله بن عمر العمري -عبدالله العمري قال عنه أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال ابن معين: صويلح. وفي رواية: ليس به بأس. وقال ابن المديني والنسائي: ضعيف. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (15/ 327)-. مع ما فيها من مخالفة لرواية أخيه عبيدالله فتعتبر هذه الروايات منكرة.
حديث آخر: ومما يصلح للاحتجاج به للجمهور ما رواه أحمد وأبو داود في سننه (2736) من طريق أبي عبدالرحمن المقرئ عن المسعودي عن ابن أبي عمرة قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس، فأَعطى كل إنسان منا سهمًا وأعطى الفرس سهمين.
والمسعودي هو عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة، وثقه أحمد ويحيى بن معين وعلي ابن المديني وقال النسائي: ليس به بأس. وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث إلا أنه اختلط في آخر عمره ورواية المتقدمين عنه صحيحة. قال أحمد: إنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه في الكوفة والبصرة فسماعه جيد، وتُوفي المسعودي ببغداد سنة ستين ومائة. انظر: تهذيب الكمال (17/ 219).
والراوي عنه عبدالله بن يزيد أبو عبدالرحمن المقرئ ثقة فاضل من المتقدمين، أقرأ القرآن نيفًا وسبعين سنة، توفي بمكة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقد قارب المائة، أصله من البصرة أو الأهواز، وليس له ذكر في تاريخ بغداد [تهذيب الكمال (61/ 320)]. فَسِلم الحديث بذلك من علة اختلاط المسعودي وصلح بذلك للاحتجاج.
حديث آخر: روى البيهقي في دلائل النبوة (4/ 24) في باب غزوة بني قريظة بسنده عن ابن إسحاق قال: حدثني عبدالله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: لم تقع القسمة ولا السهم إلا في غزوة بني قريظة، كانت الخيل يومئذ ستة وثلاثين فرسًا، ففيها أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل، وسهمان الرجال، فعلى سننها جرتْ المقاسم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ للفارس وفرسه ثلاثة أسهم: له سهم ولفرسه سهمان وللراجل سهمًا. قال البيهقي: "وهذا هو الصحيح المعروف بين أهل المغازي". وتعليق البيهقي في آخر الحديث لم أجده في مطبوعة الدلائل، ونقله الزيلعي في نصب الراية (4/ 277).
أضف إلى ذلك ما ذكره ابن أبي شيبة من أحاديث في صدر المسألة، وذكر الزيلعي في نصب الراية (4/ 276) أحاديث أخرى لا تنهض للاحتجاج، ومن أراد الوقوف عليها فلينظرها هناك.
-أدلة الحنفية:
استدل الحنفية بأدلة نقلية وعقلية:
أولاً: الأدلة النقلية:
1- استدل الحنفية بتلك الروايات من حديث ابن عمر التي جاءت مخالفة لأغلب روايات الحديث؛ كرواية ابن المبارك وحجاج بن منهال وعبدالله بن عمر العمري.
2- أخرج أحمد وأبو داود عن مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عنه عمه عبدالرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع ابن جارية الأنصاري، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يَهُزُّون الأباعر -الأباعر: جمع بعير، والمعنى يحركون ويسرعون رواحلهم. كما في عون المعبود (7/ 289)-، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نُوجِفُ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا على راحلته عند كُرَاعٍ الغَمِيم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: (نعم، والذي نفس محمد بيده إنه لفتح)، فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهمًا.
قال أبو داود في سننه (2738): "حديث أبي معاوية -يعني حديث ابن عمر- أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس وكانوا مائتي فارس". وانظر: مسند أحمد (3/ 420).
ويعقوب بن مجمع ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر: مقبول. انظر: تهذيب الكمال (32/ 363)، والثقات (7/ 642)، والتقريب (7832).
وذكر الزيلعي أحاديث أخرى لا تخلو أسانيدها من مقال. راجع: نصب الراية (4/ 278).
وبالنظر في أحاديث الباب مجتمعة نجد أنها متعارضة، فذهب الجمهور إلى ترجيح الروايات التي أثبتت وجوب ثلاثة أسهم للفارس: سهمين لفرسه وسهم له، أما الحنفية فجمعوا بينها؛ لأن الجمع أَوْلَى من إبطال أحدها، فقالوا: تحمل الروايات المثبتة للثلاثة الأسهم على التنفيل، كما نفل النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع سهم الفارس مع سهم الراجل، وتحمل روايات السهمين على الوجوب -مسلم (4779)-.
ثانيًا: الأدلة العقلية:
إن استحقاق الغنيمة يكون بالغناء في القتال والفارس يقاتل بنفسه وبفرسه، والراجل يقاتل بنفسه، فكان النظر أن يُعطى الفارس ضعف الراجل. راجع: الهداية (5/ 495).
ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال: لا أجعل سهم الفرس أفضل من سهم الرجل المسلم [شرح السير الكبير (3/ 885)]؛ لأن الثابت عند أبي حنيفة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أسهم للفرس سهمًا ولصاحبه سهمًا؛ ولذلك فإن أبا حنيفة سَاوَى بين الرجل والفرس في الاستحقاق، لثبوت السنة به عنده، ولم يجوز التفضيل في الاستحقاق لعدم ثبوته عنده.
ومن جهة النظر فإن غناء الرجل في القتال أظهر منه في الفرس، ألا ترى أن الفرس لا يقاتل بدون الرجل، والرجل يقاتل بدون الفرس، فلا وجه بذلك لتفضيل الفرس. ولو فُهم هذا الكلام في ضوء ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما شنع عليه أحد بكلامه هذا.
وقال السرخسي: "وإذا أصاب المسلمون الغنائم فأحرزها وأرادوا قسمتها فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يُعطى الفارس سهمين، سهمًا له وسهمًا لفرسه، والراجل سهمًا. وقال: لا أجعل سهم الفرس أفضل من سهم الرجل المسلم، وهو قول أهل العراق من أهل الكوفة والبصرة. وعلى قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه. وهو قول أهل الحجاز وأهل الشام.
قال محمد بن الحسن: وليس في هذا تفضيل البهيمة على الآمدي، فإن السهمين لا يعطيان للفرس، وإنما يعطيان للفارس، فيكون في هذا تفضيل الفارس على الراجل، وذلك ثابت بالإجماع، ثم هو يستحق أحد السهمين بالتزام مؤنة فرسه والقيام بتعاهده والسهم الآخر لقتاله على فرسه، والسهم الثالث لقتاله ببدنه. وقال: أرجح هذا القول؛ لأنه اجتمع عليه فريقان". انظر: شرح السير الكبير (3/ 885)، وراجع: المبسوط (10/ 41)، وتبيين الحقائق (3/ 254)، والبحر الرائق (5/ 96).
وفي نهاية المطاف نجد أن أدلة الجمهور أكثر مخرجًا وأصح إسنادًا، فمذهبهم أرجح؛ بل أصوب من مذهب أبي حنيفة، ولعل عذر أبي حنيفة أنه لم تبلغه أحاديث الثلاثة الأسهم من وجه معتبر عنده، فلما بلغت صاحبيه رجعا عن مذهبه وقالا بمذهب الجمهور.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

ثانياً: مَسْأَلَةُ السَّفَرِ بِالْقُرْآنِ إِلَى الْعَدُوِّ
(1) حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (4946).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا بَاْسَ بِذَلِكَ.
***
اتفق الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم؛ لما في ذلك من تعريضه لاستحقاقهم به وهو حرام، فما أدرى إلى ذلك فهو حرام.
واختلفوا في حالة الأمن من ذلك، فذهب الحنفية والشافعية إلى جوازه، وذهب المالكية والحنابلة والظاهرية إلى المنع من مطلقًا.
وقد نصَّ الحنفية على أن الأمن يكون في حالتين:
الأولى: أن يسافر بالمصحف في عسكر عظيم، وأقله عند الإمام أبي حنيفة أربعة آلاف، واختار الكمال بن الهمام أن أقله اثنا عشر ألفًا.
الثانية: أن يسافر المصحف إليهم بأمان إذا كانوا قومًا يوفون بالعهد.
ومذهب الحنفية على هذا التفصيل يتفق تمامًا مع حديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو؛ إذ نصَّ في آخره على علة النهي وهي مخافة أن يناله العدو، فإذا زال ذلك الخوف جاز عندئذ السفر به إلى أيِّ مكان؛ فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، نفيًا وإثباتًا، والعلة في هذا الحديث منصوصة وهي أعلى أنواع العلل.
ومذهب الحنفية يعتبر في هذه المسألة أصح المذاهب وأقربها إلى تحقيق مصالح العباد التي راعتها الشريعة، فلو لم يجوِّزْ الحنفية ذلك ماذا كان يفعل المسلمون اليوم الذين يعيشون في ديار غير المسلمين لأيِّ سببٍ من الأسباب، ماذا يفعلون وقد حرم المالكية والحنابلة والظاهرية أخذهم لكتاب ربهم، وهكذا نجد أن أبا حنيفة سبق عصره بفكره وفطنته، وبمعرفته لعلل الأحكام ومراعاة المقاصد الشرعية.
قال السرخسي: "ولا بأس بإدخال المصاحف في أرض العدو لقراءة القرآن في مثل هذا العسكر العظيم، ولا يستحب له ذلك إذا كان يخرج في سرية؛ لأن الغازي ربما يحتاج إلى القرءة من المصحف إذا كان لا يحسن القراءة عن ظهر قلبه، أو يتبرك بحمل المصحف ويستنصر به؛ فالقرآن حبل الله المتين من اعتصم به نجا، إلا أنه منهي عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو به؛ ولهذا لو اشتراه ذمي أجبر على بيعه، والظاهر أنه في العسكر العظيم يأمن هذا لقوتهم، وفي السرية ربما يبتلي به لقلة عددهم، فمن هذا الوجه يقع الفرق. والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يسافر بالقرآن في أرض العدو. تأويل هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم، هكذا ذكره محمد.
وذكر الطحاوي أن هذا النهي كان في ذلك الوقت؛ لأن المصاحف لم تكثر في أيدي المسلمين، وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أرض العدو أن يفوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين، ويؤمن إذا وقعت من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء.
قال الطحاوي: ولو وقع مصحف في يدهم لم يستخفوا به؛ لأنهم وإن كانوا لا يقرون بأنه كلام الله، فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات وأبلغ المعاني، فلا يستخفون به كما لا يستخفون بسائر الكتب، لكن ما ذكره محمد أصح، فإنهم يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين". انظر: شرح سير الكبير (1/ 205)، وراجع: المبسوط (10/ 30).
وقال في الهداية: "(ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كانوا عسكرًا عظيمًا يؤمن عليه) لأن الغالب هو السلامة والغالب الكمتحقق (ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها) لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف، فإنهم يستحقون بها مغايظة للمسلمين، وهو التأويل الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو. ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قومًا يفون بالعهد؛ لأنا لظاهر عدم التعرض". راجع الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 450)، والعناية (5/ 450)، ونصب الراية (4/ 232)، وراجع: بدائع الصنائع (7/ 102)، والبحر الرائق (5/ 83).
وقال الكمال بن الهمام في فتح القدير (5/ 450): "قال أبو حنيفة: أقل السرية أربعمائة وأقل العسكر أربعة آلاف. والذي يؤمن عليه في توغله في دار الحرب ليس إلا العسكر العظيم، وينبغي كونه اثنى عشر ألفًا، لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة) -رواه أبو داود (2613) من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ: (خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة). وقال: والصحيح أنه مرسل. ورواه في المراسيل (1/ 238) عن الزهري به مرسلًا. ورواه ابن ماجه (2934) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا-. وهو أكثر ما روي فيه هذا باعتباره أحوط".
وقال أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 162): "وقد اختلف أهل العلم في السفر به إلى أرض العدو فذهب بعضهم إلى إباحة ذلك؛ منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، كما حدثنا محمد ابن العباس قال: حدثنا علي بن معبد عن محمد بن الحسن عن يعقوب عن أبي حنيفة ولم يحك خلافًا بينهم، وذهب بعضهم إلى كراهة ذلك، وقد روي هذا القول عن مالك بن أنس، وذهب محمد بن الحسن بآخره في سيره الكبير إلى أنه كان مأمونًا عليه من العدو فلا بأس بالسفر به إلى أرضهم، وإن كان مخوفًا عليه منهم فلا ينبغي السفر به إلى أرضهم، ولم يحك هناك خلافًا في ذلك بينه وبين أحد من أصحابه، فاحتمل أن يكون ما في الرواية الأولى التي رويناها من إباحة السفر به إلى أرض العدو عند الأمان عليه من العدو، وهذا القول أحسن ما قيل في هذا الباب والله تعالى نسأله التوفيق".
ولعل ما نقله الطحاوي في صدر كلامه مذهبًا لأبي حنيفة هو ما دعا ابن أبي شيبة لإيراد حديث الباب عليه، وإلا فمذهب أبي حنيفة على التفصيل المذكور ليس فيه مخالفة للحديث كما سبق تقريره.
قال ابن عبدالبر في التمهيد (15/ 254): "أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه. قال مالك: لا يسافر إلى أرض العدو. ولم يفرق بين الصغير والكبير، وقال أبو حنيفة: يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، إلا في العسكر العظيم فإنه لا بأس بذلك". وراجع: المنتقى شرح الموطأ (3/ 153)، وشرح مختصر خليل (3/ 92).
قال النووي في المجموع شرح المهذب (2/ 77): "اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خِيفَ وقوعه بين أيديهم لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو). واتفقوا على أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتين وشبههما في أثناء كتاب لحديث أبي سفيان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابًا فيه: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران: 64]". وراجع: حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 41).
قال ابن قدامة في المغني (1/ 97): "ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب". وراجع: كشاف القناع (3/ 62)، ومطالب أولي النهي (1/ 155).
قال ابن حزم في المحلى بالآثار (5/ 418): "ولا يحل السفر بالمصحف إلى أرض الحرب لا في عسكر ولا في غير عسكر. وقال مالك: إن كان عسكر مأمون فلا بأس به. قال أبو محمد: وهذا خطأ وقد يهزم العسكر المأمون، ولا يجوز أن يعترض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخص بلا نص".
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

ثالثًا: مَسْأَلَةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الأَوْلَادِ
(1) حَدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن حُمَيْدِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَاهُ نَحَلَهُ غُلامًا، وَأَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ فَقَالَ: (أَكُلَّ وَلَدَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟). قَالَ: لا. قَالَ: (فَارْدُدْهُ). أخرجه البخاري (2586)، ومسلم (4262).
(2) حَدَّثنَا عَبَّادٌ عَن حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةٌ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَي حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ. قَالَ: (أَعْطَيْتَ كُلَّ وَلَدِك مِثْلَ هَذَا؟). قَالَ: لا. قَالَ: (فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ). أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (4268).
(3) حَدَّثنَا ابنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ). أخرجه البخاري (2650)، ومسلم (4269).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ.
***
اختلف العلماء في وجوب التسوية بين الأولاد في العطية؛ فذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن التسوية بينهم في العطايا مستحبة، وليست واجبة. وذهب الحنابلة والظاهرية وهو قول ابن المبارك وطاوي إلى وجوب التسوية بين الأولاد في الهبة. فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين؛ إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 84، 88): "فذهب قوم إلى أن الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض أن ذلك باطل. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: قد كان النعمان في وقت ما نحله أبوه صغيرًا فكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض لنفسه. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اردده) بعدما كان في حكم ما قبض، دلَّ أن النحلى من الوالد لبعض ولده دون بعض لا يملكه المنحول ولا ينعقد له عليه هبة.
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: ينبغي للرجل أن يسوي بين ولده في العطية ليستووا في البر، ولا يفضل بعضهم على بعض فيوقع ذلك له الوحشة في قلوب المفضولين منهم، فإن نحل بعضهم شيئًا دون بعض وقبضه المنحول لنفسه إن كان كبيرًا، أو قبضه له أبوه من نفسه إن كان صغيرًا لإعلامه إياه والإشهاد به فهو جائز، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين".
قال ابن قدامة في المغني (5/ 387): "وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده كأمر النبي صلى الله عليه وسلم وجملة ذلك: أنه يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية، وإذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها أَثِمَ ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاوس: لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق. وبه قال ابن المبارك ورُوي معناه عن مجاهد وعروة، وكان الحسن يكرهه، ويجيزه في القضاء، وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي: ذلك جائز، ورُوي معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح". وراجع: إعلام الموقعين (4/ 255).
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى بالآثار (8/ 59): "ولا يحل لأحد أن يهب، ولا أن يتصدق على أحد من ولده حتى يطعى أو يتصدق على كل واحد منهم بمثل ذلك. ولا يحل أن يفضل ذكرًا على أنثى ولا أنثى على ذكر، فإن فعل فهو مفسوخ مردود أبدًا ولا بد. وإنما هذا في التطوع وأما في النفقات الواجبات فلا، وكذلك الكسوة الواجبة. لكن ينفق على كل امرئ منهم بحسب حاجته ويتفق على الفقير منهم دون الغني".
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على أن التسوية بين الأولاد في العطية مستحبة بأدلة؛ منها:
1- حديث النعمان بن بشير الذي أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة، وهذا الحديث قد تنازعه الفريقان؛ فالجمهور استدل به على الاستحباب من جهة، واستدل به الآخرون على الوجوب من جهة أخرى.
فأما الجمهور فاستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى روايات الحديث -مسلم (4272)-: (فأشهد على هذا غيري). فدلَّ على أن فعل والد النعمان لم يكن حرامًا أو باطلًا، وإنما أمره بالرد لما يستحب من التسوية بين الأولاد.
قال النووي في شرح مسلم (11/ 66، 67): "فإن قيل قاله تهديدًا. قلنا: الأصل في كلام الشارع غير هذا. ويحتمل عند إطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب، فإن تعذر ذلك فعلى الإباحة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أشهد على جور). فليس فيه أنه حرام لأن الجور هو الميل عن الاستواء والاعتدال، وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور، سواء كان حرامًا أو مكروهًا، وقد وضح بما قدمناه أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري). يدل على أنه ليس بحرام، فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه.
وفي هذا الحديث أن هبة بعض الأولاد دون بعض صحيحة، وأنه إن لم يهب الباقين مثل هذا استحب رد الأول، قال أصحابنا: يستحب أن يهب الباقين مثل الأول، فإن لم يفعل استحب رد الأول ولا يجب".
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 85) -في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري)-: "هذا دليل على أن الملك ثابت؛ لأنه لو لم يصح لا يصح قوله، ولا يدل على فساد العقد الذي كان عقده النعمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يتوقى الشهادة على ماله أن يشهد عليه. فيكون قوله: (أشهد على هذا غيري). أي: إني أنا الإمام والإمام ليس مِنْ شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم وفي هذا دليل على صحة العقد". وراجع: المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (3/ 567)، تحفة المحتاج (6/ 307)، ونهاية المحتاج (5/ 415).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فاردده). وفي رواية: (فارجعه). فقد استدل به الشافعي على جواز إعطاء الرجل بعض بنيه، فقال وهو يذكر ما يدل عليه الحديث: "ومنها أن إعطاءه بعضهم جائز، ولولا ذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (فارجعه). فلو كان لا يجوز كان يقال: إعطاؤك إياه وتركه سواء؛ لأنه غير جائز، فهو على أصل ملكك الأول، أشبه من أن يقال: ارجعه". انظر: اختلاف الحديث مع الأم (8/ 630)، وراجع: مختصر المزني (8/ 34).
ونُقِلَ عن مالك في قوله صلى الله عليه وسلم (فارجعه): أن ذلك فيما أرى لم يكن له مال غيره.
قال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (6/ 92): "وعندي أنه إذا أعطى البعض على سبيل الإيثار أنه مكروه، وإنما يجوز ذلك ويعرى من الكراهية إذا أعطى البعض لوجه ما من جهة يختص بها أحدهم كغرامة تلزمه، أو خير يظهر منه فيخص بذلك خيرهم على مثله، والله أعلم".
2- واستدل الجمهور بتفضيل الصحابة بعض أولادهم على بعض في العطايا.
ومن ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت: إن أبا بكر الصديق نحلها جداد -الِدَاد بالفتح والكسر: صِرَام النخل، وهو قطع ثمرتها. راجع: النهاية (1/ 244)- عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من أحد من الناس أحب إليَّ غِنًا منك، ولا أعز -أعز: أي أشد وأشق عليّ فقرًا- الناس عليَّ فقرًا من بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه وأحرزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخوك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله. فقالت عائشة: والله يا أبت لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى. قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 88).
ومن ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب أنه فضل ابنه عاصمًا بشيء من العطية على غيره من أولاده. ذكره الشافعي في اختلاف الحديث (8/ 630).
ومن ذلك أن عبدالرحمن بن عوف فضل بني أم كلثوم بنحل قسمه بين ولده. رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 88).
فهؤلاء الصحابة فضلوا بعض أولادهم على بعض بالعطية، ورأوا ذلك جائزًا، ولم ينكر عليهم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز لأحد أن يحمل فعل هؤلاء على خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان قوله صلى الله عليه وسلم على الاستحباب.
3- استدل الجمهور أيضًا بالإجماع على جواز هبة المرء لماله للغريب، فإن أعطاه بعض ولده كان جائزًا أيضًا. انظر: النكت الطريفة (ص 22).
- أدلة الحنابلة والظاهرية:
تمسك القائلون بوجوب التسوية بين الأولاد في العطية بحديث النعمان أيضًا.
قال ابن قدامة في المغني (5/ 387): "وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماء جورًا وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب؛ ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأشهد على هذا غيري) ليس بأمر؛ لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده مع أمره برده، وتسميته إياه جورًا، وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض والتضاد، ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل بشير أمره ولم يرد، وإنما هذا تهديد له على هذا فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه. والله أعلم". وراجع: إعلام الموقعين (4/ 255).
بعد هذا البيان لمذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم، يتضح أن جمهور أهل العلم قد اتفق مع الحنفية فيما ذهبوا إليه وعولوا عليه، وأن السبب في خلاف العلماء في المسألة يرجع إلى تباين اجتهاداتهم فيما يدل عليه حديث النعمان، وما كان هذا شأنه لا يقال فيه إن أحد الفريقينِ قد خالف الحديث؛ ومن ثَمَّ فلا وجه لاتهام ابن أبي شيبة لأبي حنيفة بمخالفة الحديث في هذه المسألة.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

رابعًا: مَسْأَلَةُ الْعِتْقِ مَا فَوْقَ الثُّلُثِ
(1) حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَعْبُدٍ فَأَعْتَقَهُمْ عِنْدَ مضوْتِهِ، فَأَقْرَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. أخرجه مسلم (4425).
(2) حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ المُخْتَارِ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوَهُ أَوْ مِثْلَهُ. أخرجه النسائي في السنن الكبرى (4979).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيءٍ وَلا يَرَى فِيهِ قُرْعَةً.
***
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن من أعتق في مرض موته عبيدًا أو أوصى بعتقهم، ولم يجز الورثة ذلك، ولم يتسع الثلث لعتقهم أقرع بينهم وأُعتق منهم ما يخرج من الثلث، وذهب الحنفية إلى أن يعتق منهم ثلثهم، ويسعون فيما بقي من قيمتهم.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 382): "تكلم الناس فيمن أعتق ستة أعبد له عند موته، لا مال له غيرهم، فأبى الورثة أن يجيزوا، فقال قوم: يعتق منهم ثلثهم، ويسعون فيما بقي من قيمتهم، وممن قال ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. وقال آخرون: يعتق منهم ثلثهم، ويكون ما بقي منهم رقيقًا لورثة المعتق. وقال آخرون: يقرع بينهم فيعتق منهم من قرع من الثلث، ورق من بقي". وراجع: مشكل الآثار (1/ 208)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 21)، والمبسوط (7/ 75).
قال في المدونة (4/ 410)، (2/ 398): "قلت: أرأيت لو أن رجلًا أعتق عبيدًا له في مرضه لا يحملهم الثلث؟ قال: قال مالك: يقرع بينهم. وقال: وليست القرعة عند مالك إلا في الذي يعتق في وصيته". وراجع: المنتقى شرح الموطأ (6/ 264)، وأحكام القرآن لابن العربي (4/ 30).
قال الشافعي في الأم (4/ 99): "إذا أعتق رقيقًا له لا مال له غيرهم في مرضه ثم مات قبل أن تحدث له صحة، فإن كان عتقه في كلمة واحدة مثل أن يقول: إنهم أحرار، أو يقول: رقيقي أو كل مملوك لي حر، أقرع بينهم فأعتق ثلثه وأرق الثلثان". وانظر: أحكام القرآن (2/ 157)، وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 461)، ونهاية المحتاج (8/ 394)، وتحفة المحتاج (10/ 369).
قال ابن قدامة في المغني (10/ 297): "فمتى أعتق ثلاثة أعبد متساوين في القيمة، هم جميع ماله، دفعة واحدة، أو دبَّرهم أو وصَّى بعتقهم، أو دبَّر بعضهم ووصى بعتق باقيهم، ولم يجز الورثة أكثر من الثلث، أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن خرج له سهم الحرية عتق ورق صاحباه. وبهذا قال عمر بن عبدالعزيز وأبا بن عثمان، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وداود، وابن جرير. وقال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في باقيه. وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب، وشُريح، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وحماد؛ لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق، فيتساوون، في الاستحقاق، كما لو كان يملك ثلثهم وحده وهو ثلث ماله، أو كما لو وصَّى بكل واحد منهم لرجل.
وأنكر أصحاب أبي حنيفة القرعة وقالوا: هي من القمار وحكم الجاهلية، ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة لمخالفته قياس الأصول، وذكر الحديث لحماد فقال: هذا قول الشيخ -يعني إبليس- فقال له محمد بن ذكوان: وضع القلم عن ثلاثة؛ أحدهم المجنون حتى يفيق -يعني إنك مجنون- فقال له حماد: ما دعاك إلى هذا؟ فقال له محمد: وأنت فما دعاك إلى هذا؟ وهذا قليل في جواب حماد، وكان حريًّا أن يستتاب عن هذا، فإن تاب وإلا ضربت عنقه".
ولقد تجاوز ابن قدامة حد الاعتدال في رده على حماد، إذ حكم بردته فإن تاب وإلا قطعت عنقه، فلم يقل أحد من علماء الإسلام بكفر من رد حديثًا بتأويل، وإنما قال حماد هذا؛ لأنه لا يعده حديثًا. وهذا الكلام يشبه ما قاله ابن أبي ذئب في الإمام مالك.
-أدلة الحنفية:
ذهب الحنفية إلى أن القرعة عمومًا كان يعمل بها في بدء الإسلام ثم نسخت فلا يثبت بها أحكام شرعية، وإنما تستعمل فيما يسع تركها وفيما له أن يمضيه بغيرها تطييبًا للقلوب، وقد أطال الطحاوي في تقرير ذلك، ويتخلص كلامه في عدة أمور:
1- أن بعض الأحكام في بدء الإسلام كان يُعمل فيها بالقرعة ثم نسخت، ومثَّل لذلك: بما رُوي عن زيد بن أرقم قال: كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من اليمن فقال: إن ثلاثة من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد، وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين منهما: طيبا بالولد لهذا. فغلبا، فقال: أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم، فمن قُرِعَ فله الولد وعليه لصاحبيه ثلاث الدية. فأرقع بينهم فجعل لمن قرع. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه. رواه أبو داود (2271)، والنسائي (3502).
ثم نسخ ذلك الحكم -على حد زعم الطحاوي- بما روي عن سماك عن مولى لبني مخزومة قال: وقع رجلان على جارية فعلقت الجارية فلم يدر من أيهما هو، فأتيا عمر يختصمان في الولد، فقال عمر: ما أدري كيف أقضي في هذا. فأتيا عليًّا فقال: هو بينكما يرضكما وترثانه، وهو للباقي منكما. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 164)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 268) من طريق علي بن ظبيان عن عليٍّ دون ذكر عمر، عقب ذكره لطرق قضاء عليٍّ بالقرعة في هذه المسألة، وقال: "ورُوي عن عليٍّ قضاء آخر في هذه القصة". فذكره ولم يقل إن هذا نسخ ذاك، كما ادعى الطحاوي أن القضاء بالقر عة في تلك القصة منسوخ باتفاق المخالفين.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 382): "فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عليٍّ رضي الله عنه ما حكم به في القرعة في دعوى النفر الولد، فدلَّ ذلك أن الحكم حينئذ كان كذلك، ثم نسخ بعد باتفاقنا واتفاق هذا المخالف لنا، ودلَّ على نسخه ما قد رويناه من حكم عليٍّ في مثل هذا بأن جعل الولد بين الدعيين جميعًا يرثهما ويرثانه".
وما ادعاه الطحاوي من النسخ لا يسلم له، فلعله من باب تغير الاجتهاد، وما كان كذلك لا يسمى نسخًا، كما أن الاتفاق الذي حكاه ليس ثابتًا، بدليل ما قاله البيهقي عقب روايته للأحاديث السابقة؛ حيث اعتبره قضاء آخر لعليٍّ في هذه القصة.
2- أن العمل بالقرعة نُسخ بنسخ الربا؛ إذ رُدَّتْ الأشياء إلى المقادير المعلومة التي فيها التعديل الذي لا زيادة فيه ولا نقصان.
3- أن القرعة إنما تستعمل فيما يسع تركها، وفيما له أن يمضيه بغيرها تطييبًا للقلوب ومن ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. أخرجه البخاري (2632).
يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 383): "أجمع المسلمون أن للرجل أن يسافر إلى حيث أحب وإن طال سفره وليس معه أحد من نسائه، وأن حكم القسم يرتفع عنه بسفره، فلما كان ذلك كذلك كانت قرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه في وقت احتياجه إلى الخروج بإحداهن لتطيب نفس من لا يخرج بها منهن، وليعلم أنه لم يحاب التي خرج بها عليهن؛ لأنه لما كان له أن يخرج ويخلفهن جميعًا، كان له أن يخرج ويخلف من شاء منهم.
فثبت بما ذكرناه أن القرعة إنما تستعمل فيما يسع تركها، وفيما له أن يمضيه بغيرها فكذلك نقول: كل قرعة تكون مثل هذا فهي حسنة، وكل قر عة يراد بها وجوب حكم وقطع حقوق متقدمة فهي غير مستعملة".
4- أن مذهب الحنفية أشبه بالأصول من جهة تغليب العتق ووجوب السعاية؛ فقد رُوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شقصًا له في عبد أعتق كله إن كان له مال، وإلا يستسع غير مشقوق عليه). البخاري (2544، ومسلم (3846).
يقول الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 384): "فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلة التي لها عتق نصيب صاحبه، فدلَّ ذلك أن العتاق متى وقع في بعض العبد انتشر في كله، وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في العبد بين اثنين إذا أعتقه أحدهما ولا ماله له، يُحكم عليه فيه بالضمان بالسعاية على العبد في نصيب الذي لم يعتق، فثبت بذلك أن حكم هؤلاء العبيد في المرض كذلك، وأنه لما استحال أن يجب على غيرهم ضمان ما جاوز الثلث الذي للميت أن يوصى به، ويُمَلِّكَه في مرضه من أحَبَّ من قيمتهم، وجب عليه السعاية في ذلك للورثة".
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بأحاديث المسألة مع نفيهم لما ادعاه الحنفية من نسخ العمل بالقرعة في الأحكام، وقد أفرد الشافعي كتابًا في الأم سماه كتاب القرعة، أوضح فيه المعنى الذي من أجله شُرعت القرعة، وهو الحكم بين قوم مستوين في الحجة، مستدلًّا على ذلك بما جاء في كتاب الله عز وجل في قصة المقترعين على كفالة مريم عليها السلام والمقارعي يونس عليه السلام.
ثم قال الشافعي في الأم (8/ 3): "وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معًا؛ فجعل العتق تامًّا لثلثهم، وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتِق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبغضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبغض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها، وكذلك قسم خيبر فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره وانقطع حقه عن غيره".
وثمة موضع آخر قضى فيه النبي بالقرعة، رواه أبو داود (3586) عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار). فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لك. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما وتحالَّا).
وروى أبو داود أيضًا (3618) عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها).
وقد أطال ابن قدامة في الرد على الحنفية فيما قالوه من مخالفة حديث الباب لقياس الأصول، والطحاوي وإن لم يصرح بذلك فقد أشار في كلامه إلى أن قول الحنفية موافق للقياس، وهو ما يفهم منه أن حديث الباب مخالف للقياس، وهو ما اجتهد الحنفية في نفيه نظريًّا في منهجهم، إلا أن البحث في الفروع يبين خلاف ذلك، كما في هذه المسألة، وفي مسألة الصلاة في أعطان الإبل.
وقد بين ابن قدامة أن حديث الباب لا يخالف القياس، ثم قال في المغني (10/ 297): "وإن سلمنا مخالفته قياس الأصول، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع سواء وافق القياس أو خالفه؛ لأنه قول المعصوم، الذي جعل الله تعالى قوله حجة على الخلق أجمعين، وأمرنا باتباعه وطاعته وحذر العقاب في مخالفة أمره، وجعل الفوز في طاعته والضلال في معصيته، وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم، على أنهم قد خالفوا قياس الأصول بأحاديث ضعيفة فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر، ونقضوا الوضوء بالقهقهة في الصلاة دون خارجها".
ودعوى الحنفية نسخ العمل بالقرعة بنسخ الربا دعوى بدون بينة، والحديث نص في محل النزاع، ورد الحديث لمخالفته القياس لم يوافق عليه الحنفية أنفسهم، فلم يبق إلا قبول الحديث، والتسليم لابن أبي شيبة فيما قاله من مخالفة الحنفية للأثر في هذه المسألة.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

خامسًا: مَسْأَلَةُ رَدِّ الْوَقْفِ
(1) حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أًَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ عِنْدِي أَنْفَسَ مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْت بِهَا). أخرجه البخاري (2737)، ومسلم (4311). قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.
(2) حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ حُجْرًا الْمَدَرِي أَخْبَرَنِي: أَنَّ فِي صَدَقَةِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ مِنءهَا أَهْلُهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ. لم أجد من خرجه.
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يَجْوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرُدُّوا ذَلِكَ.
***
ذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إلى أن الوقف لا يلزم، ومعناه أن للواقف الرجوع في وقفه لأنه لم يخرج عن ملكيته، فإن مات كان ميراثًا إلا أن يجيز الورثة الوقف؛ لأنه لا حبس عن فرائض الله.
ولا يلزم الوقف عند أبي حنيفة إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يحكم الحاكم بلزوم الوقف، يقول الكمال بن الهمام في فتح القدير (6/ 200، 204، 208): "وصورة حكم الحاكم الذي به يزول الملك عنده أن يسلمه إلى متول، ثم يُظهر الرجوع فيخاصمه إلى القاضي، فيقضي القاضي بلزومه.
الحالة الثانية: أن يضيف الوقف إلى ما بعد الموت فيلزم بعد موته؛ لأنه يصير بمنزلة الوصية بعد الموت، ونص محمد في السير الكبير أن الوقف إذا أضيف إلى ما بعد الموت يكون باطلًا أيضًا عند أبي حنيفة". وراجع: العناية (6/ 200)، ونصب الراية (4/ 403)، وبدائع الصنائع (6/ 218)، وتبيين الحقائق (3/ 324)، والبحر الرائق (5/ 201).
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 95): "ذهب قوم إلى أن الرجل إذا أوقف داره على ولده وولد ولده ثم من بعدهم في سبيل الله أن ذلك جائز، وأنها قد خرجت بذلك من ملكه إلى الله عز وجل ولا سبيل له بعد ذلك إلى بيعها واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وممن قال بذلك أبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمة الله عليهما- وهو قول أهل المدينة وأهل البصرة. وخالفهم في ذلك آخرون منهم أبو حنيفة وزُفَرُ بن الهذيل -رحمة الله عليهما- فقالوا: هذا كله ميراث لا يخرج من ملك الذي أوقفه بهذا السبب".
وقد خالف أبو حنيفة في ذلك جماهير العلماء؛ حيث قالوا بلزوم الوقف، واستدلوا على ذلك بحديث عمر وبعمل الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد أنكر العلماء على أبي حنيفة قوله هذا، وعذره في ذلك أن الحديث لم يبلغه، حتى إن صاحبيه خالفاه في ذلك وأنكرا عليه قوله. وكان أبو يوسف يقول أولًا بقول أبي حنيفة، ولكنه لما حجَّ مع الرشيد فرأى وقوف الصحابة -رضوان الله عليهم- بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف. انظر: المبسوط (12/ 27).
وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن علية فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به. فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. انظر: فتح الباري (5/ 403).
وقد استبعد محمد بن الحسن قول أبي حنيفة وسماه تَحَكُّمًا على الناس من غير حجة فقال: ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس بغير أثر، ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء، ولو جاز التقليد كان من مضى من قبل أبي حنيفة؛ مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله أحرى أن يقلدوا. انظر: المبسوط (12/ 27).
ومع أن هذا الكلام في غاية الإنصاف، فقد تكلم السرخسي بسببه في محمد بن الحسن كلامًا شديدًا تعصبًا لأبي حنيفة فقال: "ولم يُحمد على ما قال، وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف، حتى خاض في الصكوك، واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف؛ كالخصاف وهلال، ولو كان أبو حنيفة في الأحياء حين قال ما قال لدمر عليه، فإنه كما قال مالك: رأي رجلًا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه، ولكن كلُّ مُجْرٍ بِالخَلاءِ يُسَرُّ".
قال الكمال بن الهمام في فتح القدير (6/ 207): "الحق ترجح قول عامة العلماء بلزوم الوقف؛ لأن الأحاديث والآثار متضافرة على ذلك قولًا كما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يباع ولا يورث) إلى آخره، وتكرر هذا في أحاديث كثيرة، واستمر عمل الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك، أولها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صدقة أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ والزبير ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأسماء أختها وأم سلمة وأم حبيبة وصفية بين حُيي وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبدالله وعقبة بن عامر وأبي أروى الدوسي وعبدالله بن الزبير، كل هؤلاء من الصحابة، ثم التابعين كلهم بعدهم بروايات، وتوارث الناس أجمعون ذلك، فلا تعارض بمثل الحديث الذي ذكره على أن معنى حديث شريح بيان نسخ ما كان في الجاهلية من الحامي ونحوه. وبالجملة فلا يبعد أن يكون إجماع الصحابة العملي ومن بعدهم متوارثًا على خلاف قوله؛ فلذا ترجح خلافه، وذكر بعض المشايخ أن الفتوى على قولهما".
-أدلة أبي حنيفة:
اجتهد الطحاوي أن يحتج لأبي حنيفة فذكر أدلة؛ منها:
1- أن عمر لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر قال له: (حبس أصلها وسبل الثمرة) وذلك يحتمل خروج الأرض من ملكه ويحتمل أن لا تخرج، ولكنها تكون جارية على ما أجراها عليه من ذلك ما تركها ويكون له فسخ ذلك متى شاء، وكذلك ورثته من بعده، وقد روي عن عمر ما يدل على أنه كان له أن يرجع في ذلك، روي عن ابن شهاب أن عمر قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها. رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 196). فدل ذلك على أن الذي منع عمر من الرجوع كونه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يفارقه على أمر ثم يخالفه إلى غيره.
وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك في الفتح (5/ 402) فقال: "ولا حجة فيما ذكره من وجهين: أحدهما: أنه منقطع لأن ابن شهاب لم يدرك عمر. ثانيهما: أنه يحتمل أن يكون عمر أخر وقفيته ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته في كيفيته، ويحتمل أن عمر كان يرى بصحة الوقف ولزومه إلا أن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع".
2- روى البيهقي في السنن الكبرى (6/ 163) من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبدالله بن زيد ابن عبدربه الذي أرى النداء أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله حائطي هذا صدقة وهو إلى الله ورسوله. فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله كان قوام عيشنا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ثم ماتا فورثهما ابنهما بعد.
قال البيهقي: "هذا مرسل، أبو بكر بن حزم لم يدرك عبدالله بن زيد، وروي من أوجه أخر عن عبدالله بن زيد كلهن مراسيل، والحديث وارد في الصدقة المنقطعة وكأنه تصدق به صدقة تطوع، وجعل مصرفها إلى اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبويه".
وقال ابن قدامة: في المغني (5/ 348): "وحديث عبدالله بن زيد إن ثبت، فليس فيه ذكر الوقف، والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوف، استناب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما؛ ولهذا لم يردها عليه، إنما دفعها إليهما، ويحتمل أن الحائظ كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما، فتصرف بهذا التصرف بغير إذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده إليهما، والقياس على الصدقة لا يصح؛ لأنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم وإنما تفتقر إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه فافترقا".
3- روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 96)، والدراقطني في سننه (4/ 68)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 162) من طريق عبدالله بن لُهيعة عن أخيه عيسى ابن لهيعة عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد ما أنزلت سورة النساء وفرض فيها الفراض يقول: (لا حبس بعد سورة النساء). وفي رواية قال: (لا حبس عن فرائض الله). قال الدارقطني: عبدالله بن لهيعة وأخوه ضعيفان. وقال البيهقي: إنما يُعرف من قول شُريح القاضي.
4- ما رُوي عن عطاء بن السائب قال: سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده فقال: إنما أقضي ولست أفتي. قال: فناشدته فقال: لا حبس عن فرائض الله. [شرح معاني الآثار (4/ 96)، السنن الكبرى (6/ 162)].
ورُوي عنه أيضًا قال: جاء محمد بمنع الحبس. [ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 350)، والبيهقي في سننه (6/ 163)]. وشُريح هذا كان قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا لا يسع القضاة جهله، ولا يسع الأمة تقليد من يجهل مثله، ثم لا ينكر عليه منكر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من تابعيهم رحمة الله عليهم. انظر: شرح معاني الآثار (4/ 96).
قال الشافعي: اجتمع أبو يوسف ومالك عند أمير المؤمنين فتكلما في الوقوف وما يحبسه الناس فقال يعقوب: هذا باطل، قال شريح: جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس. فقال مالك: إنما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة، فأما الوقوف فهذا وقف عمر بن الخطاب؛ حيث استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حبس أصلها وسبل ثمرتها). وهذا وقف الزبير. فأعجب الخليفة ذلك منه وبقي يعقوب. [السنن الكبرى للبيهقي (6/ 163)].
وقد أكَّد الشافعي في الأم هذا المعنى الذي ذكره مالك فذكر قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) [المائدة: 103] ثم قال: "فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل الله شروطهم فيها، وأبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال الله إياها، ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا لا أرضًا تبررًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام".
ثم قال: "ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار، لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه، وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت لم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف يلونها حتى ماتوا وأن نقل الحديث فيها كالتكليف".
قال الشافعي: "وحجة الذي أبطل الصدقات الموقوفات أن شريحًا قال: لا حبس عن فرائض الله تعالى، لا حجة فيها عندنا ولا عنده؛ لأنه يقول: قول شريح على الانفراد لا يكون حجة، ولو كان حجة لم يكن في هذا حبس عن فرائض الله عز وجل.
فإن قال: وكيف؟ قيل: إنما أجزنا الصدقات الموقوفات إذا كان المتصدق بها صحيحًا فارغة من المال، فإن كان مريضًا لم نجزها إلا من الثلث إذا مات من مرضه ذلك وليس في واحدة من الحالين حبس عن فرائض الله تعالى، فإن قال قائل: وإذا حبسها صحيحًا ثم مات لم تورث عنه قيل: فهو أخرجها، وهو مالك لجميع ماله يصنع فيه ما يشاء ويجوز له أن يخرجه لأكثر من هذا عندنا وعندك، أرأيت لو وهبها لأجنبي أو باعه إياها فحاباه أيجوز؟ فإن قال: نعم، قيل: فإذا فعل ثم مات أتورث عنه؟ فإن قال: لا، قيل: فهذا فرار من فرائض الله تعالى، فإن قيل: لا، لأنه أعطى وهو يملك وقبل وقوع فرائض الله تعالى، قيل: وهكذا الصدقة تصدق بها صحيحًا قبل وقوع فرائض الله تعالى، وقولك: لا حبس عن فرائض الله تعالى محال؛ لأنه فعله قبل أن تكون فرائض الله في الميراث؛ لأن الفرائض إنما تكون بعد موت المالك وفي المرض".
قال الشافعي: "فعاب هذا القول عليه صاحباه واحتجا عليه بما ذكرنا وأكثر منه قالا: هذا جعل، صدقات المسلمين في القديم والحديث أشهر من أن ينبغي أن يجهلها عالم، وأجاوزا الصدقات المحرمات في الدور والأرضين على ما أجزناها عليه". انظر: الأم (4/ 53). وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (3/ 532)، وتحفة المحتاج (6/ 250)، ونهاية المحتاج (5/ 370). ومختصر خليل وشروحه: منح الجليل (8/ 107)، ومواهب الجليل (6/ 22)، وشرح الخرشي (7/ 79)، والتاج والإكليل (7/ 626).
قال أبو محمد بن حزم في المحلى (8/ 149): "أتى أبو حنيفة بقول خالف فيه كل من تقدم والسنة والمعقول فقال: الحبس جائز في الصحة وفي المرض، إلا أن للمحبس إبطاله متى شاء، وبيعه وارتجاعه بنقض الحبس الذي عقد فيه، ولا يجوز بعد الموت أيضًا وهذا أشهر أقواله. وروي عنه: أنه لا يجوز إلا بعد الموت، ثم اختلفوا عنه أيجوز للورثة إبطاله؟ وهذا هو الأشهر عنه أم لا يجوز؟ وهذا قول يكفي إيراده من فساده؛ لأنه لم تأتِ به سنة، ولا أيده قياس، ولا يعرف عن أحد قبله، وتفريق فاسد فسقط جملة".
وأرى أن سبب مخالفة أبي حنيفة في هذه المسألة أنه تابع شريحًا القاضي، وهذا يصدق ما قاله ابن عبدالبر من أن أغلب ما خالف فيه أبو حنيفة الخبر كان تابعًا فيه لغيره.
وعذر الإمام أبي حنيفة في ذلك عدم بلوغه حديث عمر، ولو بلغه لقال به كما قال ذلك أبو يوسف وهو أعلم بصاحبه، ولا يسعنا إلا متابعة ابن أبي شيبة فيما قاله من مخالفة أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

سادسًا: مَسْأَلَةُ النَّذْرِ قَبْلَ الإِسْلَامِ
(1) حَدَّثنَا حَفْصٌ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: نََّرْتُ نَذْرًا فِي الجَاهِلِيَّةَ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَمَا أَسْلَمْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَفِيَ بِنَذْرِي. أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (4382).
(2) حَدَّثنَا حَفْصٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ فِي رَجُلٍ نَذَرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ: يَفي بِنَذْرِهِ. راجع: المحلى (6/ 276).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: سَقَطَ الْيَمِينُ إِذَا أَسْلَمَ.
***
يُشترط لصحة النذر أن يكون الناذر مسلمًا، فلا يصح النذر من الكافر عند الحنفية والمالكية والصحيح عند الشافعية؛ لأن النذر لا بد وأن يكون قربة، وفعل الكافر لا يوسف بكونه قربة، فمن نذر وهو كافر شيئًا مما يُتقرب به إلى الله ثم أسلم ندب له الوفاء به ولا يجب عليه، ولا يُشترط ذلك عند الحنابلة والظاهرية ووجه عند الشافعية، فيصح نذر الكافر، فإذا أسلم وجب عليه الوفاء به.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 133): "ذهب قوم إلى أن الرجل إذا أوجب على نفسه في حال شركه من اعتكاف أو صدقة أو شيء مما يوجبه المسلمون لله ثم أسلم أن ذلك واجب عليه واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا يجب عليه من ذلك شيء، واحتجوا في ذلك بما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فلليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) -أخرجه البخاري (6696)-.
قالوا: فلما كانت النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب به إلى الله تعالى، ولا تجب إذا كانت معاصي الله، وكان الكافر إذا قال: لله عليَّ صيام. أو قال: لله عليَّ اعتكاف. فهو لو فعل ذلك لم يكن به متقربًا إلى الله، وهو في وقت ما أوجبه إنما قصد به إلى ربه الذي يعبده من دون الله وذلك معصية. فدخل ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية).
وقد يجوز أيضًا أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (أوفِ بنذرك) ليس من طريق أن ذلك كان واجبًا عليه، ولكن أنه قد كان سمح في حال ما نذره أن يفعله فهو في معصية الله عز وجل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله الآن على أنه طاعة لله عز وجل، فكان ما أمره به خلاف ما إذا كان أوجبه هو على نفسه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى".
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (5/ 28): "ومن شرائط الأهلية الإسلام فلا يصح نذر الكافر، حتى لو نذر ثم أسلم لا يلزمه الوفاء به، وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله؛ لأن كون المنذور به قربة شرط صحة النذر، وفعل الكافر لا يوصف بكونه قربة".
قال الخرشي في شرح مختصر خليل: "النذر التزام مسلم كُلِّفَ. يعني أنه يشترط في الملتزم للنذر أن يكون مسلمًا مكلفًا فلا يلزم الكافر الوفاء بنذره، ولو أسلم ندب له الوفاء به.
قال ابن رشد: أداء ملتزمه كافرًا بعد إسلامه عندنا ندب". انظر مختصر خليل وشروحه: شرح الخرشي (3/ 91)، التاج والإكليل (4/ 489)، مواهب الجليل (3/ 316)، ومنح الجليل (3/ 97). وراجع: المنتقى شرح الموطأ (3/ 230).
قال النووي في المجموع شرح المهذب (8/ 433): "قال أصحابنا: يصح النذر من كل بالغ عاقل مختار نافذ التصرف فيما نذره... وأما الكافر ففي نذره وجهان: الصحيح: أنه لا ينعقد. والثانء: ينعقد؛ لما روي أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة من الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم: (أوفِ بنذرك). وإذا أسلم إن قلنا نذره منعقد لزمه الوفاء به، وإلا فلا يجب الوفاء به لكن يستحسن، وتأولوا حديث عمر على الاستحباب".
وقال الخطيب الشربيني: "ولا يلزم الكافر وفاء ما نذره في كفره بعد إسلامه، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في نذر كان نذره في الجاهلية: (أوف بنذرك) محمول على الندب". انظر المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 246)، وتحفة المحتاج (10/ 69)، ونهاية المحتاج (8/ 219).
قال البهوتي في كشاف القناع (6/ 270): "ويصح النذر من كافر ولو بعبادة لحديث عمر: إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك)".
وقال المرداوي في الإنصاف (11/ 117): "يصح النذر من المسلم مطلقًا بلا نزاع، ويصح من الكافر مطلقًا على الصحيح من المذهب"، وعليه جماهير الأصحاب. وراجع: الفروع (6/ 395)، والمغني (9/ 385).
قال ابن حزم في المحلى بالآثار (6/ 275): "ومن نذر في حالة الكفر طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به".
يتضح مما سبق أن الخلاف في المسألة ينبني على تأويل الأمر الوارد في حديث عمر، فحمله الحنابلة والظاهرية على حقيقته في الوجوب، وصرفه الحنفية والمالكية والشافعية من الوجوب إلى الندب لقرينة النذر حالة الكفر، وعليه فليس في ذلك مخالفة للحديث كم زعم ابن أبي شيبة.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

سابعًا: مَسْأَلَةُ شُهُودِ الرِّضَاعِ
(1) حَدَّثنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَن عُمَرَ بنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثنَا عُقْبَةُ بْنُ الحَارِثِ قَالَ: تَزَوَّجْتُ ابْنَةَ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيِّ، فَلَمَّا كَانَتْ صَبِيحَةُ مِلْكِهَا جَاءَتْ مَوْلاةٌ لأَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَرَكِبَ عُقْبَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: سَأَلْتُ أَهْلَ الْجَارِيَةِ فَأَنْكَرُوا. فَقَالَ: (وَكِيفَ وَقَدْ قِيلَ). فَفَارَقَهَا وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ. أخرجه البخاري (2659، 2660) ولفظه: عن عقبة ابن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب قال: فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له قال: (وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما). فنهاه عنها. وفي رواية: وكيف وقد قيل، دعها عنك).
(2) حَدَّثنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِي عًَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعَةِ مِنَ الشُّهُودِ. قَالَ: (رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ). أخرجه أحمد في مسنده (2/ 109)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 201) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني وهو ضعيف.
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا يَجُوزُ إلا أَكْثَرُ.
***
اختلف الفقهاء في نصاب الشهادة على الرضاع: فذهب الحنفية إلى أنه يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولا يقبل أقل من ذلك، ولا شهادة للنساء بانفرادهن.
وقال الملكية: يثبت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وبشهادة رجل وامرأة أو شهادة امرأتينِ إن فشا ذلك قبل العقد، ولا يقبل شهادة امرأة واحدة ولو فشا ذلك.
وقال الشافعي: يثبت الرضاع بشهادة رجلين، وبرجل وامرأتين، وبأربع نسوة؛ لأنه مما لا يطلع الرجال عليه إلا نادرًا، ولا يثبت بدون أربع نسوة.
وقال الحنابلة: يثبت الرضاع بشهادة المرأة المرضية.
قال صاحب الهداية: (ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات، وإنما تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين). الهداية وشروحها: فتح القدير (3/ 461)، والعناية (3/ 461)، ونصب الراية (3/ 410).
وقال السرخسي في المبسوط (5/ 137): "ولا يجوز شهادة امرأة واحدة على الرضاع أجنبية كانت أو أم أحد الزوجينِ، ولا يفرق بينهما بقولها، ويسعه المقام معها حتى يشهد على ذلك رجلانِ أو رجل وامرأتان عدول، وهذا عندنا". وراجع: بدائع الصنائع (4/ 14)، وتبيين الحقائق (2/ 187).
وقال خليل في مختصره: "ويثبت الرضاع برجل وامرأة وبامرأتينِ إن فشا قبل العقد، وهل تشترط العدالة مع الفشو تردد، وبرجلينِ لا بامرأة ولو فشا ونُدِبَ التنزه مطلقًا". المنتقى شرح الموطأ (5/ 222)، وراجع مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (5/ 540)، وشرح الخرشي (4/ 183)، ومنح الجليل (4/ 383).
وقال الشافعي في الأم (5/ 32): "تجوز شهادة النساء في الرضاع كما تجوز شهادتهن في الولادة، ولو رأى ذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان جازت شهادتهم في ذلك، ولا تجوز شهادة النساء في الموضع الذي ينفردن فيه إلا بأن يكنَّ حرائر عدولًا بوالغ ويكنَّ أربعًا؛ لأن الله عز وجل إذا أجاز شهادتهن في الدين جعل امرأتين تقومان مقام رجل بعينه". وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (8/ 300)، ونهاية المحتاج (7/ 185)، ومغني المحتاج (5/ 143).
وقال ابن قدامة في المغني (8/ 152): "شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كان مَرْضِيَّة. وبهذا قال طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبدالعزيز. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقبل إلا شهادة امرأتين. وهو قول الحكم؛ لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى. وعن أحمد رواية ثالثة: أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلف مع شهادتها. وهو قول ابن عباس [روى عبدالرزاق في مصنفه (7/ 482)، (8/ 335) عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها. قال: وجاء ابن عباس رجل فقال: زعمت فلانة أنها أرضعتني وامرأتي وهي كاذبة. فقال ابن عباس: انظروا فإن كانت كاذبة فسيصيبها بلاء. قال: فلم يحل الحول حتى برص ثديها]، وإسحاق".
يتبين من هذا أن مذهب جمهور العلماء عدم ثبوت الرضاع بشهادة المرأة الواحدة، وذهب الحنابلة إلى ثبوته بذلك مع اختلاف عن أحمد فيه.
واستدل الحنابلة على ذلك بحديث عقبة بن الحارث وحديث ابن عمر المذكورينِ في أول المسألة. واستدلوا أيضًا بما رواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: أن عثمان فرَّق بين أهل أبيات بشهادة امرأة.
ورواه أيضًا عن ابن جرير عن ابن شهاب قال: جاءت امرأة سوداء في إمارة عثمان إلى أهل ثلاثة أبيات قد تناكحوا فقالت: أنتم بني وبناتي. ففرق بينهم. [مصنف عبدالرزاق (7/ 482)، (8/ 334)].
وقد أجاء الجمهور عن حديث عقبة بحمل النهي في قوله: (فنهاه عنها). على التنزيه، وبحمل الأمر في قوله: (دعها عنك). للإرشاد. راجع: فتح الباري (5/ 962).
يقول الإمام الشافعي في الأم (5/ 37): "إعراضه صلى الله عليه وسلم يشبه أن يكون لم ير هذا شهادة تلزمه، وقوله: (وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما). يشبه أن يكون كره له أن يقيم معها وقد قيل: إنها أخته من الرضاعة، وهذا معنى ما قلنا من أن يتركها ورعًا لا حكمًا". وراجع: معرفة السنن والآثار (11/ 271).
وقال السرخسي في المبسوط (5/ 137): "وحديث عقبة بن الحارث دليلنا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية، فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك، ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال، أمره أن يفارقها احتياطًا، والدليل عليه أن تلك الشهادة كانت عن ضغن، فإنه قال: جاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت تشهد على الرضاع [أخرج نحوه الدارقطني في سننه (4/ 177) ولفظه: فدخلت علينا امرأة سوداء فسألت فأبطأنا عليها، فقالت: تصدقوا عليَّ، فوالله لقد أرضعتكما جميعًا. ويؤيده رواية البخاري (5104) بلفظ: فقالت لي: قد أرضعتكما وهي كاذبة.] ، وبالإجماع بمثل هذه الشهادة لا تثبت الحرمة، فعرفنا أن ذلك كان احتياطًا على وجه التنزه، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله: (كيف وقد قيل). وعندنا إذا وقع في قلبه أنها صادقة فالأحوط أن يتنزه عنها ويأخذ بالثقة، سواء أخبرت بذلك قبل عقد النكاح أو بعد عقد النكاح، وسواء شهد به رجل أو امرأة".
وأما حديث ابن عمر فهو حديث ضعيف، في إسناده محمد بن عيثم قال عنه النسائي وغيره: متروك. وقال أبو حاتم: لا يُكتب حديثه. وقال ابن معين: كذاب. وقال الدارقطني: ضعيف -راجع ترجمته في تهذيب الكمال (25/ 594)، وميزان الاعتدال (3/ 617)-. وشيخه محمد بن عبدالرحمن بن البيلماني قال عنه أبو حاتم والبخاري والنسائي: منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف -راجع ترجمته في ميزان الاعتدال (3/ 644)-.
قال البيهقي في السنن الكبرى (7/ 464): "فهذا إسناد ضعيف لا تقوم بمثله الحجة، محمد بن عيثم يُرمى بالكذب وابن البيلماني ضعيف. وقد اختُلف عليه في متنه فقيل هكذا، وقيل: رجل وامرأة، وقيل رجل وامرأتان".
وأما ما روي عن عثمان فهو معارض بما روي عن عمر والمغيرة وعلي وابن عباس: أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، فقال عمر: فرق بينهما إن جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزها. عزاه الحافظ في الفتح (5/ 269) إلى أبي عبيد.
وروى البيهقي في السنن الكبرى (7/ 463) عن زيد بن أسلم: أن رجلًا وامرأته أتيا عمر بن الخطاب وجاءتْ امرأة فقالت: إني أرضعتكما. فأبى عمر بن الخطاب أن يأخذ بقولها فقال: دونك امرأتك.
قال البيهقي: هذا مرسل.
ورواه من وجه آخر مرسلًا عن عكرمة بن خالد المخزومي: أن عمر بن الخطاب أُتي في امرأة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما فقال: لا، حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
بعد هذا البيان يتضح أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة ليس فيه مخالفة للحديث كما ظنَّ ابن أبي شيبة، وقد اتفق أبو حنيفة مع مالك والشافعي على أن حديث عقبة محمولٌ على الورع والتنزه عن الشبهات وليس حكمًا واجبًا، وما كان كذلك لا يوصف بمخالفة الحديث.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

ثامنًا: مَسْأَلَةُ ذَكَاةِ جَنِينِ الذَّبِيحَةِ
(1) حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَعَبْدُالرَّحِيمِ بنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْمُجَالِدِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ جَبْرِ بْنِ نُوفِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِذَا أَشْعَرَ). أخرجه أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لا تَكُونُ ذَكَاتُهُ ذَكَاةَ أُمِّهِ.
***
إذا خرج جنين ميتًا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وُجد ميتًا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلالٌ. رُوي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر.
وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر. ورُوي ذلك عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ والزهري والحسن وقتادة ومالكٍ والليث والحسن بن صالحٍ وأبي ثورٍ.
وقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد وابن حزم: لا يحل إلا أن يخرج حيًّا فيذكى؛ لأنه حيوانٌ ينفرد بحياته، فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع.
قال ابن المنذر: "كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل؛ لأن ذكاة نفسٍ لا تكون ذكاة نفسين ولا أحسب أصحابه وافقوه عليه". راجع: المغني (9/ 319)، ونصب الراية (6/ 52)، والمحلى (6/ 96).
قال صاحب الهداية: "(ومن نحر ناقةً أو ذبح بقرةً فوجد في بطنها جنينًا ميتًا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول زفر والحسن بن زيادٍ، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: إذا تم خلقه أكل. وهو قول الشافعي". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 498)، والعناية (9/ 498)، ونصب الراية (6/ 50).
وقال الخرقي: "وذكاتها ذكاة جنينها، أشعر أو لم يشعر". المغني (9/ 319)، وراجع: الفروع (16/ 316)، والإنصاف (10/ 402)، وإعلام الموقعين (2/ 254).
وقال الخرشي شارح مختصر خليل: "(وذكاة الجنين ذكاة أمه إن تم بشعرٍ) يعني أن الجنين إذا ذكيت أمه فذكاتها ذكاةٌ له بشرطين: أن يتم خلقه، وأن ينبت شعره، فيؤكل حينئذٍ إن خرج ميتًا، ويستحب نحوه إن كان من الإبل وذبحه إن كان من غيرها، ليخرج الدم من جوفه، فإن فقد الشرطان أو أحدهما لم يؤكل خرج حيًّا أو ميتًا". مختصر خليل وشروحه: شرح الخرشي (3/ 24)، والتاج والإكليل (4/ 342)ن ومواهب الجليل (3/ 221)، ومنح الجليل (2/ 449). وراجع: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 18).
وقال النووي في المجموع شره المهذب (9/ 145): "مذهبنا أن الحيوان المأكول إذا ذكي فخرج من جوفه جنينٌ ميتٌ حلَّ، وبه قال العلماء كافةٍ من الصحابة والتابعين". وراجع المنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 165)، ونهاية المحتاج (8/ 158)، وتحفة المحتاج (9/ 390).
قال ابن حزم في المحلى بالآثار (6/ 96): "وكل حيوانٍ ذكي فوجد في بطنه جنينٌ ميتٌ، وقد كان نفخ فيه الروح بعد فهو ميتةٌ لا يحل أكله، فلو أدرك حيًّا فذكي حلَّ أكله".
-أدلة المالكية:
استدل المالكية بروايات الحديث التي جاءت مقيدة بالإشعار؛ كالرواية التي ذكرها ابن أبي شيبة في أول المسألة من حديث أبي سعيد وكرواية الحاكم لحديث ابن عمر مرفوعًا: (ذكاة الجنين إذا أشعر ذكاة أمه) -المستدرك على الصحيحين (4/ 128)-. وبقول الزهري: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه -سيأتي ذكره في كلام ابن حبان عند تخريج حديث كعب بن مالك-. وبقول ابن المسيب: ذكاة ما في بطن الذبيحة في ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره -أخرجه مالك في الموطأ (2/ 491)0.
وقد خلت الروايات الصحيحة للحديث من هذا القيد فلم يأخذ به الجمهور، يقول ابن عبدالبر في التمهيد (23/ 76، 77): "وهذا القول ليس فيه رد للآثار المرفوعة؛ بل هو تفسير لها، وهو أولى ما قيل في هذا الباب؛ لأنه إذا لم يتم خلقه ولا نبت شيء من شعره، فهو في حكم مضغة الدم".
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بحديث: (ذكاة الجنين بذكاة أمه). وقد رُوي من حديث أحد عشر صحابيًّا: أبي سعيد، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي أيوب، وابن مسعودـ، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وعلي ابن أبي طالب.
1- فحديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهذا لفظه، ولفظ أبي داود قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه) -سبق تخريجه في أول المسألة-. ومجالد بن سعيد ليس بالقوي [قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه. وقال عنه أحمد: ليس بشيء يرفع حديثًا كثيرًا لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه. وفي رواية: ضعيف واهي الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال النسائي: ثقة. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. راجع تهذيب الكمال (27/ 219)، وميزان الاعتدال (3/ 438)] ، ولكن تابعه يونس ابن أبي إسحاق وهو صدوق فيه لين [قال عنه ابن مهدي: لم يكن به بأس. وقال يحيى بن سعيد: كانت فيه غفلة. وقال أحمد: كذا وكذا. قال الذهبي: وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا إلا أنه لا يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس به بأس. تهذيب الكمال (32/ 492)، وميزان الاعتدال (4/ 482)] كما عند أحمد -في مسنده (3/ 39)- وابن حبان -في صحيحه (13/ 207)-، ورواه أحمد في المسند (1/ 31) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد. والعوفي ضعيف [قال أحمد: ضعيف الحديث. وقال أيضًا: كان الثوري وهشيم يضعفان حديث عطية. وقال ابن معين: صالح. وقال أبو زرعة: لين. وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه. وقال الجوزجاني: مائل. وقال النسائي: ضعيف. راجع تهذيب الكمال (20/ 145)، وميزان الاعتدال (3/ 79)].
2- وأما حديث جابر: فأخرجه أبو داود في سننه (2828) عن عبيدالله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). وعبيدالله ابن أبي زياد ليس بالقوي [قال عنه يحيى القطان: كان وسطًا لم يكن بذاك. وقال أحمد ويحيى بن معين: ليس به بأس. وقال يحيى في رواية: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ولا المتين، هو صالح الحديث، يكتب حديثه. وقال أبو داود: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: ليس به بأس. وفي موضع آخر: ليس بالقوي. وفي آخر: ليس بثقة. راجع تهذيب الكمال (19/ 41)، وميزان الاعتدال (3/ 8)]. ولكن أخرجه الحاكم في المستدرك من طرق زهري بن معاوية وهو ثقة عن أبي الزبير عن جابر وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه [المستدرك على الصحيحين (1/ 127)، والسنن الكبرى للبيهقي (9/ 334)]. وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 273) من طريق ابن أبي ليلى [قال عنه أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: ليس بذاك. وقال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه. وقال يحيى القطان: سيء الحفظ جدًّا. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: صالح ليس بأقوى ما يكون. وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيء الحفظ، شُغل بالقضاء فساء حفظه. وقال الدارقطني: رديء الحفظ كثير الوهم. وقال العجلي: كان فقيهًا صدوقًا، صاحب سنة، جائز الحديث. وقال الذهبي: صدوق إمام سيء الحفظ وقد وثق. تهذيب الكمال (25/ 624)، وميزان الاعتدال (3/ 416)]، وأبو يعلى في مسنده (3/ 343) من طريق حماد ابن شعيب [ضعفه ابن معين وغيره، وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ميزان الاعتدال (1/ 596)] كلاهما عن أبي الزبير عن جابر، فهذه المتابعات تقوي الحديث.
3- وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 128) عن عبدالله بن سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وقال: إسناد صحيح. وليس كما قال، فعبدالله بن سعيد المقبري متروك [قال عنه أحمد: ليس بذاك. وقال مرة: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. ومرة قال: ضعيف. وقال البخاري: تركوه. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الفلاس: منكر الحديث متروك. وقال الدارقطني: متروك ذاهب. راجع: تهذيب الكمال (15/ 31)، وميزان الاعتدال (2/ 429)]، وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) عن عمر بن قيس عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة، وعلته عمر بن قيس وهو المعروف بسَنْدَل، فإنه متروك [تركه أحمد والنسائي والدارقطني، وقال يحيى: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أحمد أيضًا: أحاديثه بواطيل. راجع: تهذيب الكمال (21/ 487)، وميزان الاعتدال (3/ 218)].
4- وأما حديث ابن عمر: فأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 128) من طريق محمد بن إسحاق، والدارقطني في سننه (4/ 271) من طريق عبيدالله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: (ذكاة الجنين إذا أشعر ذكاة أمه). وقد اختُلف في رفعه ووقفه ورجح أبو حاتم رواية من وقفه [العلل لابن أبي حاتم (2/ 44)].
5- وأما حديث أبي أيوب: فرواه الحاكم أيضًا في المستدرك (4/ 128) عن شعبة عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب مرفوعًا. قال الحاكم: "ربما توهم متوهم أن حديث أبي أيوب صحيح، وليس كذلك، ومن تأمل هذا الباب من أهل الصنعة قضى فيه العجب أن الشيخين لم يخرجاه في الصحيحين". وابن أبي ليلى ضعيف كما سبق، فهو صدوق سيء الحفظ وقد سبقت ترجمته.
6- وأما حديث ابن مسعود: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله -قال: أراه رفعه- قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). ورجاله رجال الصحيح، إلا أن شيخ شيخه أحمد بن الحجاج بن الصلت ذكره الذهبي في ((ميزانه)) -ميزان الاعتدال (1/ 89)- ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكر له حديثًا ثم قال: هو آفته. وراجع: تاريخ بغداد (4/ 117).
7- وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) أيضًا عن موسى بن عثمان الكندي عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رفعه. وموسى بن عثمان متروك [قال عنه أبو حاتم: متروك. وقال ابن عدي: حديثه ليس بالمحفوظ. ميزان الاعتدال (1/ 89)].
8- وأما حديث كعب بن مالك: فأخرجه الطبراني في ((معجمه)) -المعجم الكبير (19/ 78)- عن إسماعيل ابن مسلم المكي عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك، مرفوعًا نحوه. وإسماعيل بن مسلم البصري المكي ضعيف الحديث [قال أبو زرعة: بصري ضعيف. وقال أحمد وغيره: منكر الحديث. وقال النسائي وغيره: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال علي بن المديني: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. راجع: تهذيب الكمال (3/ 198)، وميزان الاعتدال (1/ 248)].
قال ابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 121): "إسماعيل بن مسلم المكي أبو ربيعة ضعيف، ضعفه ابن المبارك، وتركه يحيى وعبدالرحمن بن مهدي، روي عن الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعًا. فذكره ثم قال: وإنما هو عن الزهري، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. هكذا قاله ابن عُيينة وغيره من الثقات، وليس هذا هو إسماعيل بن مسلم البصري العبدي، صاحب المتوكل، ذاك ثقة".
9، 10- وأما حديث أبي أمامة وأبي الدرداء: فأخرجه الطبراني أيضًا في معجمه الكبير (8/ 102) عن بشر بن عمارة عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن أبي الدرداء وأبي أمامة مرفوعًا. وبشر بن عمار ضعيف [قال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال البخاري: تعرف وتنكر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد. وقال ابن عدي: لم أر في حديثه حديثًا منكرًا، وهو عندي حديثه إلى الاستقامة أقرب. تهذيب الكمال (4/ 137)، وميزان الاعتدال (1/ 321)].
11- وأما حديث علي: فأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 274) من طريق موسى بن عثمان عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليٍّ مرفوعًا. والحارث الأعور ضعيف [قال شعبة: لم يسمع أبو إسحاق منه إلا أربعة أحاديث. وكذلك قال العجلي وزاد: وسائر ذلك إنما هو كتاب أخذه. وقال ابن المديني: كذاب. وقال ابن معين: ضعيف. وفي رواية: ليس به بأس. وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي ولا ممن يحتج بحديثه. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. تهذيب الكمال (5/ 244)، وميزان الاعتدال (1/ 435)]، وموسى ابن عثمان متروك كما سبق.
فالحديث بمجموع طرقه ومتابعاته وشواهده يصلح للاحتجاج لا سيما من حديث أبي سعيد وجابر، وقد نفى ذلك عبدالحق في ((أحكامه)) فقال: "هذا حديث لا يحتج بأسانيده كلها". وأقره ابنا لقطان عليه - نقله عنهما الزيلعي في نصب الراية (6/ 52) . وقال الجصاص في أحكام القرآن (1/ 156): "وهذه الأخبار كلها واهية السند عند أهل النقل، كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها واضطرابها".
وقد ردَّ ذلك القولَ الحافظُ ابن حجر فقال في تلخيص الحبير (4/ 156): "والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر".
وقد نازع الحنفية الجمهور في الاستدلال بالحديث من جهة الثبوت ومن جهة المعنى، فأما الثبوت فهم يضعفونه من جميع طرقه كما سبق من كلام الجصاص، وأما المعنى فيتأولونه: ذكاة الجنين كذكاة أمه، أي ذكوه كما تذكون أمه.
يقول الجصاص في أحكام القرآن (1/ 156): "يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاةٌ له، ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه، وأنه لا يؤكل بغير ذكاةٍ، كقوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران: 133]، معناه: كعرض السماوات والأرض، وكقول القائل: قولي قولك ومذهبي مذهبك. والمعنى: قولي كقولك ومذهبي كمذهبك".
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 164): "يُروى هذا الحديث بالرفع والنصب، فمن رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو ذكاة الجنين، فتكون ذكاة الأم هي ذكاة الجنين فلا يحتاج إلى ذبح مستأنف، ومن نصب كان التقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه، فحذف المصدر وصفته وأقام المضاف إليه مقامه، فلا بد عنده من ذبح الجنين إذا خرج حيًّا، ومنهم من يرويه بنصب الذكاتين، أي ذكوا الجنين ذكاة أمه".
وقال المنذري في ((مختصره)): "وقد رَوى هذا الحديث بعضهم لغرض له: (ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه). بنصب ذكاة الثانية، لتوجب ابتداء الذكاة فيه إذا خرج، ولا يكتفي بذكاة أمه، وليس بشيء وإنما هو بالرفع، كما هو المحفوظ عن أئمة هذا الشأن، وأبطله بعضهم بقوله: فإن ذكاته ذكاة أمه؛ لأنه تعليل لإباحته من غير إحداث ذكاة". نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (6/ 52).
وتمسك الجمهور برواية أبي داود لحديث أبي سعيد؛ لأن سياقها يبطل تأويل الحنفية، ولأن الجنين لا يمكن ذبحه فجُعل ذكاة الأم ذكاة له، قياسًا على الصيد.
-أدلة الحنفية والظاهرية:
قال الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَمُ) وقال في آخرها: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) [المائدة: 3] فحرم الله الميتة مطلقًا واستثنى المذكى منها، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الذكاة في المقدور على ذكاته في النحر والليلة، وفي غير المقدور على ذكاته بسفح دمه في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنهر الدم بما شئت) -أخرجه أبو داود (2824)، والنسائي (4304)-. وقوله في المعراض: (كل ما خزق وما أصاب بعرضه فلا تأكل) -أخرجه البخاري (5477)، ومسلم (5081)-. فلما كانت الذكاة منقسمةً إلى هذين الوجهين، وحكم الله بتحريم الميتة حكمًا عامًّا، واستثنى منه المذكي بالصفة التي ذكرنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه الصفة موجودةً في الجنين، كان محرمًا بظاهر الآية، واحتج من أباح ذلك بأخبارٍ واهية السند محتملة أن يكون معناها موافقًا للآية، فلم يجز أن تخصص الآية بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها. راجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 156)، وبدائع الصنائع (5/ 42).
قال ابن حزم في المحلى (6/ 96): "وقد احتج المخالفون بأخبارٍ واهيةٍ، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به مسارعين، وإذا لم يصح عنه فلا يحل ترك القرآن لقول قائلٍ أو قائلين".
وبذلك يتضح أن الحنفية لم يأخذوا بالأخبار الواردة في هذه المسألة لمخالفتها لعموم القرآن، وقد عُلم في منهج الحنفية أن ذك من أسباب ردهم لخبر الواحد؛ لأنهم يعتبرون تخصيص عموم القرآن نسخًا، والنسخ لا يصلح إلا بالمتواتر أو بالمشهور، فضلًا على أنهم لا يثبتون خبر الواحد في هذه المسألة، وهذا لا يعد مخالفة للحديث كما زعم ابن أبي شيبة، ومذهب الحنفية في هذه المسألة يتفق ومنهجهم النقدي في قبول الأخبار، مما يؤكد ضرورة معرفة مناهج الفقهاء قبل دراسة مذاهبهم.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

تاسعًا: مَسْأَلَةُ لَحْمِ الْخَيْلِ
(1) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ أَوْ أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِهِ. أخرجه البخاري (5510، 5511، 5512)، ومسلم (5137).
(2) حَدَّثنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو عَن جَابِرٍ قَالَ: أَطْعَمَنَا النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لُحُومَ الخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُر. رواه الترمذي (1905)، والنسائي (4328) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر، ورواه البخاري (4219)، ومسلم (5134) من طريق حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي بن الحسين عن جابر. فكأن عمرًا سمع الحديث بواسطة وبغير واسطة، فكان مرة يرويه هكذا ومرة هكذا.
(3) حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَكَلْنَا لُحُومَ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ. أخرجه مسلم (5136).
وذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا تُؤْكَلُ.
***
اختلف الفقهاء في حكم لحوم الخيل، فقال الشافعي وأحمد وأكثر العلماء: يباح أكلها. وقال مالك: تكره. وقال أبو حنيفة: تحرم. وفي رواية: تكره. والأول أصح. وخالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا بقول الشافعي وأحمد، وهو مارجحه الطحاوي لصحة أدلة الإباحة وتظاهرها.
قال صاحب الهداية: "(ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة رحمه الله) وهو قول مالكٍ. وقال أبو يوسف ومحمدٌ والشافعي -رحمهم الله- لا بأس بأكله. ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريمٍ، وقيل: كراهة تنزيهٍ، والأول أصح". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 500)، والعناية (9/ 500)، ونصب الراية (6/ 61). وراجع: مشكل الآثار (4/ 63)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 270)، وبدائع الصنائع (5/ 38).
وقال الشارح: "مبنى اختلاف المشايخ في قول أبي حنيفة على اختلاف اللفظ المروي عنه، فقد رُوي عنه أنه قال: رخص بعض العلماء في حلم الخيل، فأما أنا فلا يُعجبني أكله. وهذا يلوِّح إلى التنزيه، ورُوي عنه أنه قال: أكرهه. وهو يدل على التحريم؛ لأنه روي أن أبا يوسف سأل أبا حنيفة: إذا قلتَ في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم". تكلمة فتح القدير (9/ 501).
وقال مالكٌ في الموطأ (2/ 498): "إن أحسن ما سمعت في الخيل والبغال والحمير أنها لا تؤكل؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل: 8] وقال تبارك وتعالى في الأنعام: (لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [غافر: 79]، فذكر الله الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، وذكر الأنعام للركوب والأكل".
وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ (3/ 132): "الخيل عند مالكٍ مكروهةٌ وليست بمحرمةٍ ولا مباحةٍ على الإطلاق".
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (9/ 5): "مذهبنا أن لحم الخيل حلالٌ لا كراهة فيه وبه قال أكثر العلماء". وراجع: الأم (2/ 275)، والمنهاج وشروحه: مغني المحتاج (6/ 147)، وتحفة المحتاج (9/ 379)، ونهاية المحتاج (8/ 152).
وقال ابن قدامة في المغني (9/ 327): "وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها -الخيل العراب أي عربية منسوبة إلى العرب، فرقوا بين الخيل والناس، فقالوا في الناس: عرب وأعراب، وفي الخيل: عراب. وأما البراذين من الخيل فهي ما كان من غير نتاج العرب، وهي جمع برذون. راجع: لسان العرب مادتي: (عرب وبرذن)-. نص عليه أحمد. وبه قال ابن سيرين، وروي ذلك عن ابن الزبير، والحسن، وعطاءٍ، والأسوط بن يزيد. وبه قال سعيد بن جبير، وحماد بن زيدٍ، والليث، وابن المبارك، والشافعي، وأبو ثورٍ. وحرمها أبو حنيفة. وكرهه مالكٌ، والأوزاعي، وأبو عبيدٍ". وراجع: المحلى لابن حزم (6/ 78).
-أدلة الحنفية والمالكية:
1- أخرج أبو داود في سننه (3790)، والنسائي (4332)، وابن ماجه (3198) من طريق صالح بن يحيى بن المقدام ابن معديكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذي ناب من السباع.
قال أبو داود: "لا بأس بلحوم الخيل وليس العمل عليه، وهذا منسوخٌ، قد أكل لحوم الخيل جماعةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ منهم ابن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وكانت قريشٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تذبحها".
قال الدارقطني في سننه (4/ 287): "هذا حديث ضعيف. ورَوى عن موسى بن هارون أنه قال: لا يُعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده" -وصالح بن يحيى قال عنه البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يخطئ. وقال الذهبي: روى عنه ثور ويحيى بن جابر وسليمان بن سليم وقد وثق. وقال ابن حجر: لين. التاريخ الكبير (4/ 292)، والثقات (6/ 459)، وميزان الاعتدال (2/ 304)، والتقريب (2894)-. وقال أحمد: حديث خالد ليس له إسناد جيد، وفيه رجلان لا يعرفان، فلا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر. المغني (9/ 327).
2- واستدلوا أيضًا بالآيات التي ذكرها الإمام مالك في كلامه السابق وذلك من وجهينِ: أحدهما: أن لام كي بمعنى الحصر، وذلك أنه أخبر تعالى أنه إنما خلقها للركوب والزينة، قصد بذلك الامتنان علينا وإظهار إحسانه إلينا، فدلَّ على أنه جميع ما أباحه لنا منها، ولو كانت فيها منفعةٌ غيرها لذكرها، ليبين إنعامه علينا أو ليظهر إباحة ذلك إلينا، فإن إخباره تعالى أنه خلقها لهذا المعنى دليلٌ على أنه جميع التصرف المباح فيها. الوجه الثاني: أنه ذكر الخيل والبغال والحمير فأخبر تعالى أنه خلقها للركوب والزينة، وذكر الأنعام فأخبر أنه خلقها لنركب منها ونأكل، فلما عدل في الخيل والبغال والحمير عن ذكر الأكل دلَّ ذلك على أنه لم يخلقها لذلك وإلا بطلت فائدة التخصيص بالذكر". المنتقى شرح الموطأ (3/ 132)، والهداية مع تكلمة فتح القدير (9/ 500).
وقد أجاب النووي عن هذا الاستدلال بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتهما مقصورةٌ على ذلك، وإنما خص هذان بالذكر؛ لأنهما معظم المقصود من الخيل؛ كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ) [المائدة: 3]؛ فذكر اللحم؛ لأنه معظم المقصود، وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه، ولهذا سكت عن حمل الأثقات عن الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) [النحل: 7] ولم يلزم من هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل. المجموع شرح المهذب (9/ 5).
3- ومن جملة ما استدلوا به: أن الخيل آلة إرهاب العدو فيكره أكله احترامًا له؛ ولهذا يضرب له بسهمٍ في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد. الهداية مع تكملة فتح القدير (9/ 500).
-أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة في إباحة لحم الخيل والتي ذكرت في أول المسألة مع عدم المعارض الصحيح لها، وبأنه حيوانٌ طاهرٌ مستطابٌ، ليس بذي نابٍ ولا مخلبٍ فيحل كبهيمة الأنعام، ولأنه داخلٌ في عموم الآيات والأخبار المبيحة.
وقد أجاب ابن العربي على الاستدلال بحديث جابر بأنه حكاية حالٍ وقضية في عينٍ؛ فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورةٍ، ولا يحتج بقضايا الأحوال المحتملة. أحكام القرآن لابن العربي (3/ 221).
وقد عارض الحنفية حديث جابر بحديث خالد ورجحوه عليه؛ لأنه محرم [الهداية مع تكملة فتح القدير (9/ 500)]، وقد تقدم أن حديث خالد إما منسوخ وإما ضعيف، وعلى الأمرين لا يصلح للمعارضة.
ولهذا كله نجد أن الطحاوي وهو ناصر مذهب أبي حنيفة والمخرج لأدلته، يرجح إباحة أكل لحوم الخيل على خلاف مذهب إمامه، مما يدل على نصفته وعدم تعصبه، على خلاف ما شاع بين طائفة من أن أتباع المذاهب يتعصبون لأئمتهم، جهلًا منهم بحال أئمة السلف، وترديدًا لدعاوى باطلة.
قال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 210): "ذهب قومٌ إلى هذه الآثار فأجازوا أكل لحوم الخيل، وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمدٌ، واحتجوا لذلك بتواتر الآثار في ذلك وتظاهرها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرقٌ، ولكن الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحتْ وتواترتْ أولى أن يقال بها من النظر، ولا سيما إذ قد أخبر جابر بن عبدالله في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لحوم الخيل في وقت منعه إياهم من لحوم الحُمُر الأهلية، فدلَّ ذلك على اختلاف حكم لحومهما".
وبعد كلام الطحاوي لا يسعنا إلا موافقة ابن أبي شيبة فيما قاله من مخالفة مذهب أبي حنيفة للأثر في هذه المسألة؛ لصحة أدلة الإباحة وتظاهرها وعدم المعارض الصحيح لها.
***
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

* مَسْأَلَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمَيَةِ عَمْدًا
هذه المسألة عند الحنفية معدودة من أمثلة مخالفة الحديث للكتاب.

اختلف الفقهاء فيمن ترك التسمية على الذبيحة والصيد ناسيًا أو عامدًا، فقال مالك وأبو حنيفة: إن تركها عمدًا لم تؤكل الذبيحة ولا الصيد، فإن نسي التسمية عند الذبيحة وعند الإرسال على الصيد أُكلت. وقال الشافعي: تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعًا تعمد ذلك أو نسيه. وفرق أحمد بين الذبيحة والصيد، فقال في الذبيحة بقول مالك وأبي حنيفة، وقال في الصيد: من ترك التسمية عامدًا أو ناسيًا لم يؤكل.
قال صاحب الهداية: "وإن ترك التسمية عمدًا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيًا أكل، والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء، وعلى هذا الخلاف إذ ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب وعند الرمي". الهداية وشروحها: فتح القدير (9/ 490)، والعناية (9/ 490)، ونصب الراية (6/ 36).
وقال مالك في المدونة (1/ 532): "لا بد من التسمية عند الرمي وعند إرسال الجوارح وعند الذبح، وإن نَسِي التسمية في ذلك كله أكل وسمَّى الله، وإن ترك التسمية عمدًا لم تؤكل". وراجع: التمهيد (22/ 301)، والتاج والإكليل شرح مختصر خليل (4/ 329).
وقال النووي في روضة الطالبين (3/ 205): "التسمية مستحبة عند الذبح والرمي إلى الصيد وإرسال الكلب، فلو تركها عمدًا أو سهوًا حلت الذبيحة، لكن تركها عمدًا مكروه على الصحيح". وراجع: معرفة السنن والآثار (13/ 446).
وقال ابن قدامة في المغني (9/ 293): "ومَن ترك التسمية على الصيد عامدًا أو ساهيًا لم يؤكل، وإن ترك التسمية على الذبيحة عامدًا لم تؤكل، وإن تركها ساهيًا أكلت".
-(أدلة الجمهور):
1- استدل الجمهور بعموم قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121]، وظاهر الآية موجب لتحريم ما تُرك اسم الله عليه ناسيًا كان ذلك أو عامدًا، إلا أن الدلالة قد قامت على أن النسيان غير مراد به؛ للحديث المشهور: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) -أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 150) عن أبي بكرة بلفظ: (رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان والأمر يُكرهون عليه). وابن ماجه (43، 20، 45، 2045) عن أبي ذر بلفظ: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وعن ابن عباس بلفظ: (إن الله وضع عن أمتي...)-.
2- وأخرج الدارقطني في سننه (4/ 296)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 239) من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن معقل بن عبيدالله الجزري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم يكفيه اسمه، فإن نَسِي أن يُسمِّي حين يذبح فليسم، وليذكر الله ثم ليأكل).
ومحمد بن يزيد بن سنان ليس بالقوي -محمد بن يزيد بن سنان الجزري هو ابن أبي فروة الرهاوي قال عنه أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. راجع: تهذيب الكمال (27/ 20)-، والصحيح أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس، كما رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 239) من طريق سعيد بن منصور والحميدي، ورواه عبدالرزاق في مصنفه (4/ 479) ثلاثتهم قالوا؛ حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء حدثنا عين يعني عكرمة عن ابن عباس قال: إن في المسلم اسم الله، فإن ذَبَحَ وَنَسِيِ أن يذكر اسم الله فليأكل، وإن ذبح المجوسي وذكر اسم الله فلا تأكل.
فزادوا في إسناده أبا الشعثاء جابر بن زيد وأقفوه على ابن عباس.
3- وأخرج البخاري (5486)، ومسلم (5083) من طريق الشعبي عن عدي بن حاتم قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فأكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه). قلت: إني أُرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر، لا أدري أيهما أخذه. فقال: (لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره).
-(أدلة الشافعية):
1- استدل الشافعية على أن التسمية ليست شرطًا بأن الله تعالى أباح لنا ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: 5] وهم لا يذكرونها.
2- وأما قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121] ففيه تأويلان: أحدهما: أن المراد ما ذكر عليه اسم غير الله، يعني ما ذبح للأصنام؛ بدليل قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة: 3] وسياق الآية دال عليه فإنه قال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) والحالة التي يكون فيها فسقًا هي الإهلال لغير الله. قال تعالى: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام: 145].
ثانيهما: أن المراد به الميتة بدليل ما ورد في سبب نزول الآية، فقد رُوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِم) [الأنعام: 121] يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا. فأنزل الله: (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) -البخاري (5486)، ومسلم (5083). وعليه فلا مخالفة بين الأحاديث الدالة على عدم اشتراط التسمية وبين الآية.
3- ومما يدل على عدم اشتراط التسمية ما أخرجه البخاري (5507) عن عائشة: أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا يأتون باللحم لا ندري أّذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سموا الله عليه أنتم وكلوه). قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. فلو كانت التسمية شريطة لما حلت الذبيحة مع الشك في وجودها؛ لأن الشك في الشريطة شك فيما شرطت له.
4- وروى أبو داود في المراسيل (1/ 278) من طريق ثور بن يزيد عن الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله). وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي مجهول، فلم يروِ عنه غير ثور بن يزيد، ولا يعرف حاله ولا يعرف بغير هذا الحديث. راجع: تهذيب الكمال (13/ 232).
5- ويشهد له ما أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 295) من حديث أبي هريرة قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل منا يذبح وينسى أن يُسمِّي الله. قال: (اسم الله على كل مسلم). وفي لفظ: (على فم كل مسلم). وراجع: الموسوعة الفقهية (21/ 190). وهذا عام في الناسي والمتعمد؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فالملة تقوم مقام التسمية في الناسي والعامد.
ولذلك كله صرف الشافعية الأمر الوارد بالتسمية من الوجوب إلى الاستحباب.
قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 11): "فإن قيل: إن المراد بالنهي في الآية الميتة أو الذبائح التي ذبحها المشركون فهي مقصورة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين.
قيل له: نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه؛ بل الحكم للعموم إذا كان أعم من السبب، فلو كان المراد ذبائح المشركين لذكرها ولم يقتصر على ذكر ترك التسمية، وقد علمنا أن المشركين وإن سموا على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك، على أنه لم يرد ذبائح المشركين؛ إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سموا الله عليها أو لم يسموا، وقد نصَّ الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية، وهو قوله تعالى: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة: 3] وأيضًا فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة الآية قائمة على فساد التذكية بترك التسمية؛ إذ جعل ترك التسمية علمًا لكونه ميتة، فدل ذلك على أن كل ما تركت التسمية عليه فهو ميتة".
يتضح من ذلك أن عدم قبول الحنفية للأخبار التي استدل به الشافعية هو مخالفتها لعموم الآيات المشترطة للتسمية، قال الجصاص في أحكام القرآن (3/ 11): "فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمدًا فقوله مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال، هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة".
***

راجع كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" الصفحات (175-179).
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

* مَسْأَلَةُ القَضَاءِ بِاليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
أما هذه المسألة فهي معدودة من أمثلة مخالفة الحديث للكتاب، ومخالفة خبر الواحد للسنة المعروفة.

اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب، فقال أبو حنيفة وأصحابه والشعبي والنخعي والأوزاعي: لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء. وقال مالك والشافعي وأحمد: يحكم به في الأموال خاصة. ورُوي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وهو قول الفقهاء السبعة، وعمر بن عبدالعزيز، والحسن، وشُرِيح، وربيعة، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود. راجع: أحكام الجصاص (1/ 701)، والتمهيد (2/ 154)، والأم (6/ 273)، والمغني (10/ 158).
-(أدلة الجمهور):
احتج الجمهور بحديث قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بيمين وشاهد. وهو حديث صحيح، رُوي من طرق كثيرة مشهورة، وسأذكر أصح هذه الطرق وأشهرها:
1- روى مسلم (4569) من طريق سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: أن رسول الله قضى بيمين وشاهد.
ورواه أبو داود (3609) من طريق عبيدالرزاق عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس بمعناه. قال عمرو: في الحقوق.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بالانقطاع في موضعين:
الموضع الأول: قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 145): "حديث ابن عباس منكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء، فكيف يحتجون به في مثل هذا".
وأجاب البيهقي على الطحاوي فقال كما في معرفة السنن والآثار (14/ 287): "والذي يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه في قبول الأخبار أنه متى ما كان قيس بن سعد ثقة، والراوي عنه ثقة، ثم يروي عن شيخ يحتمله سنه ولقيه، وكان غير معروف بالتدليس كان ذلك مقبولًا، وقيس بن سعد مكي وعمرو بن دينار مكي، وقد روى قيس عمَّن هو أكبر منه سنًّا وأقدم موتًا من عمرو بن دينار؛ كعطاء ابن أبي رباح ومجاهد بن جبر، وقد رَوَى عن عمرو بن دينار مَنْ كان في قرن قيس وأقدم لقيًا منه؛ كأيوب السختياني، فإنه رأى أنس بن مالك وروى عن سعيد بن جبير، ثم روى عن عمرو بن دينار، فمن أين جاء إنكار رواية قيس عن عمرو؟ غير أنه روى عنه ما يخالف مذهب هذا الشيخ -يعني الطحاويَّ- ولم يمكنه أن يطعن فيه بوجهٍ آخر، فزعم أنه منكر". وراجع: نصب الراية (5/ 146)، وتهذيب الكمال (24/ 47)، (22/ 5).
الموضع الثاني: قال الترمذي في العلل الكبير (1/ 204): "سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي من ابن عباس هذا الحديث".
2- روى أبو داود (3610)، والترمذي (1393)، وابن ماجه (2368)من طريق عبدالعزيز الدراوردي عن ربيعة ابن أبي عبدالرحمن عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. قال عبدالعزيز: فذكرت ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبدالعزيز: وقد كان أصابت سهيلًا علةٌ أذهبت بعض عقله وَنَسِي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه.
ورواه أبو داود (3611) من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة عن سهيل عن أبيه به. وقال سليمان: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث فقال: ما أعرفه. فقلت له: فإن ربيعة أخبرني به عنك. قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 282): "رجاله مدنيون ثقات ولا يضره أن سهيل ابن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة؛ لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه".
3- روى الترمذي (1394)، وابن ماجه (2369) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
وقد أورد الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 282) جملة من الأحاديث التي عمل بها الحنفية والتي تتضمن الزيادة على عموم القرآن، وأجابوا بأنها أحاديث مشهورة فوجب العمل بها لشهرتها، ثم قال الحافظ: "فيقال لهم وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة بل ثبت من طرق صحيحة متعددة... وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف وبدون ذلك تثبت الشهرة". وقال ابن عبدالبر في التمهيد (2/ 136): "هو الذي لا يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعَمِل أهل المدينة به قرنًا بعد قرن".
-(أدلة الحنفية):
1- احتج الحنفية بقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282]، وهو يوجب بإطلاقه رد حديث القضاء بالشاهد واليمين، وبيان ذلك أن الله عز وجل قد قصر الشهادة المطلوبة على نوعين: رجلين، ورجل وامرأتين، فجاء الحديث وزاد نوعًا آخر، وهو اليمين مع الشاهد والزيادة عن النص نسخ عندهم، ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز، وإلا لزم انتساخ القاطع بالمظنون.
وقد ذكر الجصاص وجوهًا كثيرةً لمخالفة حديث القضاء بالشاهد واليمين لهذه الآية، ترجع محصلتها جميعًا إلى ما ذكرته، ومن هذه الوجوه:
الأول: أن قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُواْ) يقتضي إلزام الحاكم الحكم بالعدد المذكور في الشهادة؛ لأن الغرض من الشهادة إثبات الحق بها عند التجاحد؛ كقوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4] وقوله تعالى: (فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] وكما لم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور في الحد، كذلك العدد المذكور في الشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه، وفي تجويز أقل منه مخالفة الكتاب، كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين، أو حد الزنا تسعين كان مخالفًا للآية.
الثاني: أن الآية انتظمت شيئين من أمر الشهود، أحدهما: العدد، والآخر: الصفة، وهي أن يكونوا أحرارًا مرضيين، لقوله تعالى: ( مِنْ رِجَالِكُمْ) [البقرة: 282] وقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) [البقرة: 282] فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على ما دونها، لم يجز إسقاط العدد؛ إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها، وهو العدد الوعدالة والرضا، فغير جائز إسقاط واحد منهما؛ والعدد أَوْلَى بالاعتبار من العدالة والرضا؛ لأنا لعدد معلوم من جهة اليقين، والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة، فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر، لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين.
الثالث: أن الله لما أراد الاحتياط في إجازة شهادة النساء، أوجب شهادة المرأتين وقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) [البقرة: 282] ثم قال: (ذَلِكُم أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ للِشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُواْ) [البقرة: 282] فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان. وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد، لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة، وذلك خلاف مقتضي الآية.
فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه، ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والثيقة على ما بين الله في هذه الآية، وقصد به من المعاني المقصودة بها.
2- وقد استدل الحنفية أيضًا على بطلان هذا الحديث بمخالفته للسنة المشهورة، وهي من القواعد المعتبرة عند الحنفية، وقد ذكروا أنه خالف عدة أحاديث؛ منها:
أ- ما رواه الترمذي (1391) -وقال: هذا حديث في إسناده مقال- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: (البينة على المدعي واليمين على المُدعى عليه). ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين اليمين والبينة، فغير جائز أن تكون اليمين بينة؛ لأنه لو جاز أن تسمي اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل: البينة على المدعي والبينة على المدعى عليه. وقوله: (البينة) اسم للجنس، فاستوعب ما تحتها، فما من بينة إلا وهي التي على المدعي، فإذن لا يجوز أن يكون عليه اليمين. وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن الأمة قد تلقته بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر.
ب- ما رواه الشيخان -البخاري (2268)، ومسلم (4567)- عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المُدعى عليه). فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين:
أحدهما: أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد، فلو استحق بيمينه كان مستحقًا بدعواه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
والثاني: أن دعواه؛ لما كانت قوله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحق بها شيئًا، لم يجز أن يستحق بيمينه؛ إذ كانت يمينه قوله.
جـ - ما رواه الشيخان أيضًا -البخاري (2670)، ومسلم (373)-: أن الأشعث بن قيس الكندي قال: كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (شاهداك أو يمينه).
د- ما رواه مسلم (375) عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه في قصة الخضرمي الذي ادعى أرضًا كانت بيد الكندي فجحد الكندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم للخضرمي: (ألك بينة). قال: لا. قال: (فلك يمينه) قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. فقال: (ليس لك منه إلا ذلك).
فَنَفَى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأشعث أن يستحق شيئًا بغير شاهدين، وأخبر في حديث وائل أنه لا شيء له غير ذلك. فدل ذلك على أنه لا يستحق شيئًا بشاهد ويمين.
-فرد الحنفية حديث قضاء النبي صلى الله عليه وسلم مع الشاهد. لمخالفته الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البينة على مَن ادعى واليمين على المدعى عليه). وقالوا: إن المخالفة فيه من وجهين:
أحدهما: أن في هذا الحديث بيان أن اليمين في جانب المنكر دون المدعي.
والثاني: أن فيه بيان أنه لا يجمع بين اليمين والبينة فلا تصلح اليمين متممة للبينة بحال.
يتخلص مما سبق أن الحنفية ردوا أخبار القضاء بالشاهد واليمين من عدة وجوه:
أحدها: فساد طرقها. والثاني: نسيان المروي عنه روايتها. والثالث: مخالفتها لظاهر القرآن. والرابع: مخالفتها للسنة المشهورة. والخامس: أنها لو سلمت من الطعن والفساد لما دلَّت على قول المخالف. والسادس: احتمالها لموافقة الكتاب.
راجع: أحكام القرآن للجصاص (1/ 701-709)، وشرح معاني الآثار (4/ 144-148)، والفصول في الأصول (1/ 193)، ونصب الراية (5/ 144)، وكشف الأسرار (3/ 9)، وأصول السرخسي (1/ 364).
وقد جرت بصدد هذه المسألة مناظرات كثيرة بين الشافعي وبعض الحنفية، ذكرها الشافعي في مواضع من الأم (7/ 36، 90) أجاب خلالها الشافعي عن حجج الحنفية، وقد أعرضتُ عن ذكرها حتى لا نخرج عن المقصود من ذكر المسألة.
***

ويرُاجع: منهج الحنفية في نقد الحديث (182-187)، (193).
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

(من كتاب الزكاة)
* مسألة زكاة مال اليتيم
من أمثلة إعراض الصحابة عن خبر الواحد عند الحنفية.
اختلف العلماء في زكاة مال اليتيم على أقوال:
الثول الأول: أنها تجب ويخرجها الولي. وهو قول عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر. وبه قال جابر بن زيد وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك والحسن بن صالح وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وطاوس.
القول الثاني: أنه لا زكاة فيه وهو قول إبراهيم النخعي وأبي وائل وابن جبير وشريح.
القول الثالث: أن فيه الزكاة لكن الولي لا يخرجها؛ بل يحصيه فإذا بلغ أعلمه ليزكي عن نفسه. وهو قول ابن مسعود، وبه قال الأَوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وقال: إنه متى أخرجها ضمن ولم تُجعل له ولاية الأداء.
القول الرابع: تجب لكن يخرجها الولي من الأموال الظاهرة، كالإبل والبقر والغنم، ولا يخرجها من الذهب والفضة. وهو قول الحسن البصري وابن شبرمة.
القول الخامس: لا تجب في الأموال الظاهر ولا الباطنة إلا مما أخرجت أرضه. وهو قول أبي حنيفة. وقيل: إنه لم يقسم هذا التقسيم أحد قبله. راجع: فتاوى السبكي (1/ 187)، والمدونة (1/ 308)، والأم (2/ 30)، والمغني (2/ 256).
قال محمد بن الحسن في كتاب الحجة (1/ 459): "قال أبو حنيفة: لا زكاة في مال اليتيم ولا يجب عليه الزكاة حتى تجب الصلاة. وقال أهل المدينة: نرى أن تؤخذ زكاة مال اليتيم. قال محمد: قد جاءت في هذا آثار مختلفة وأحبها إلينا أن لا نزكي حتى يبلغ". وراعج: المبسوط (2/ 162)، والهداية وشروحها: فتح القدير (2/ 157)، والعناية (2/ 157)، ونصب الراية (2/ 388).
-أدلة الحنفية:
1- أخرج أبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر).
قال السرخسي في المبسوط (2/ 162): "وفي إجراء الزكاة عليه إجراء القلم عليه، فإن الوجوب يختص بالذمة ولا يجب في ذمة الولي، فلا بد من القول بوجوبه على الصبي".
وأُجيب بأن الحديث اقتضى رفع خطاب التكليف، وأن الصبي ليس مكلفًا ولا مخاطبًا بأدائها ولا قائل به، وإنما الخطاب بها من باب خطاب الوضع وهو غير مرفوع بالحديث، والمكلف بإخراجها من مال الصبي هو الولي، كما يُخرج سائر ما يجب في مال الصبي.
قال السبكي في إبراز الحكم من حديث رُفع القلم (ص 60، 84) -وهو مطبوع بتحقيق وتخريج المؤلف-: "ومبنى الخلاف بين الإِمَامَيْنِ على أن المغلب عليها شائبة العبادة أو النفقة فأبو حنيفة غلب شوب العبادة فلم يوجبها، والشافعي غلب شوب النفقات فأوجبها، ويقول: إن الله فرض في أموال الأغنياء الزكاة لكفاية الفقراء، فكما تجب عليه نفقة قريبة تجب الزكاة، وليست داخلة في خطاب التكليف الذي اقتضى الحديث رفعه". وراجع: فتاوى السبكي (1/ 187)، والتحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 30).
2- أخرج الدارقطني في سننه (2/ 112) من طريق ابن لَهِيعة عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا يجب على مال الصغير زكاة حتى تجلب عليه الصلاة. قال الدارقطني: "وابن لهيعة لا يحتج به". ورواه محمد بن الحسن في الحجة (1/ 459) بلفظ: ليس في مال اليتيم زكاة.
3- أخرج ابن أبي شيبة (2/ 379)، وعبدالرزاق (4/ 69) في مصنفيهما، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 318) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقول: أحص ما يجب في مال اليتيم من الزكاة، فإذا بلغ وأُونس منه رشدًا فادفعه، فإن شاء زكاة وإن شاء تركه. وليث ابن أبي سليم ضعيف -ليث بن أبي سليم قال عنه أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدَّث عنه الناس. وقال ابن معين: ضعيف إلا أنه يكتب حديثه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث. وقال أبو زرعة: لين الحديث لا تقوم به الحجة. تهذيب الكمال (24/ 279)، وميزان الاعتدال (3/ 420)-، ومجاهد لم يدرك ابن مسعود -كما قال الشافعي في الأم (2/ 30)، ورواه عنه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108)-. والأثر مع ضعفه فيه إشارة إلى أنه تجب عليه الزكاة، وليس للولي ولاية الأداء. المبسوط (2/ 162).
-أدلة الجمهور:
1- أخرج الترمذي من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: (ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة).
قال الترمذي: في إسناده مقال؛ لأن المثنى يضعف في الحديث.
والمثنى بن الصباح قال عنه أحمد: لا يُسوى حديثه شيئًا مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه ولا يُترك. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لين الحديث. وقال الترمذي: يضعف في الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. راجع: تهذيب الكمال (27/ 203)، وميزان الاعتدال (3/ 435).
طرق آخر: رواه الدارقطني من طريق عبيد بن إسحاق العطار [عبيد بن إسحاق العطار قال عنه البخاري: عنده مناكير. وقال الأزدي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وأما أبو حاتم فَرَضِيَه. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر. ميزان الاعتدال (3/ 18)]، عن مندل بن علي [مندل بن علي قال عنه أحمد: ضعيف الحديث. وقال ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وفي رواية: ليس بشيء. وقال العجلي: جائز الحديث وكان يتشيع. وقال أبو زرعة: لين الحديث. وقال النسائي: ضعيف. تهذيب التهذيب (10/ 298)، تهذيب الكمال (28/ 493)، ميزان الاعتدال (4/ 180)]، عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة). وعبيد بن إسحاق ومندل ضعيفان.
طريق آخر: رواه الدارقطني في سننه (2/ 110) عن محمد بن عبيدالله العرزمي [محمد بن عبيدالله العزرمي قال عنه أحمد: ترك الناس حديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء لا يُكتب حديثه. وقال البخاري: تركه ابن المبارك ويحيى. وقال الفلاس: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة. تهذيب الكمال (26/ 41)، وميزان الاعتدال (3/ 635)] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في مال اليتيم زكاة). والعرزمي متروك الحديث.
2- أخرج الطبراني في المعجم الأوسط (4/ 264) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة). قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 67): "أخبرني سيدي وشيخي أن إسناده صحيح". اهـ.
قلت: في إسناده فرات بن محمد القيرواني كان يغلب عليه الرواية والجمع ومعرفة الأخبار، وكان ضعيفًا متهمًا بالكذب أو معروفًا به. راجع: لسان الميزان (4/ 432).
3- روى الشافعي في الأم (2/ 32) عن عبدالمجيد عن ابن جريح عن يوسف بن ماهك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة). ورواه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108).
قال السبكي في الفتاوى (1/ 187): "مرسل صحيح، والمرسل إذا اعتضد بقول الصحابي جاز الأخذ به عندنا، وكذا إذا اعتضد بقول أكثر أهل العلم أو بالقياس، وكل ذلك حاصل هاهنا، وأما عند الحنفية فالمرسل مثل المسند أو أقوى، فما لهم لم يأخذوا به هاهنا".
شروط قبول المرسل عند الشافعي:
مذهب الإمام الشافعي هو قبول المرسل من كبار التابعين بشرط الاعتبار في الحديث المرسل والراوي المرسل.
أما الاعتبار في الحديث فهو أن يعتضد بواحدٍ من أربعةِ أمورٍ:
1- أن يروى مسندًا من وجه آخر.
2- أو يروى مرسلًا بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأَوَّلِ، فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث.
3- أو يوافقه قول بعض الصحابة.
4- أو يكون قد قال به أكثر أهل العلم.
وأما الاعتبار في راوي المرسل فأن يكون الراوي إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولًا ولا مرغوبًا عنه في الرواية. وراجع: الرسالة للشافعي ص(461- 467)، ومنهج النقد في علوم الحديث ص(371).
فالمرسل عند الإمام الشافعي إذا أسند من وجه آخر دلَّ ذلك على صحته، وهذا مما اعترض الحنفية فيه على الإمام الشافعي، فقيل: غذا أُسند المرسل من وجه آخر: فإما أن يكون سند هذا المتصل مما تقوم به الحجة أو لا، فإن كان مما تقوم به الحجة فلا معنى للمرسل هنا ولا اعتبار به؛ لأن العمل إنما هو بالمسند لا به، وإن كان المسند مما لا تقوم به الحجة لضعف رجاله، فلا اعتبار به حينئذ إذا كنت لا تقبل المرسل؛ لأنه لم يعضده شئ.
وجواب هذا: أن مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم بها الحجة، وقولهم لا معنى للمرسل حينئذ ولا اعتبار به، فجوابه: ليس كذلك من وجهين/
أحدهما؛ أن المرسل يُقوَّى بالمسند ويتبين به صحته، ويكون فائدتهما حينئذ الترجيح على مسند آخر يعارضه لم ينضم إليه مرسل ولا شك أن هذه فائدة مطلوبة.
ثانيهما؛ أن المسند قد يكون في درجة الحسن وبانضمام المرسل إليه يقوي كل منهما بالآخر، ويرتقي الحديث بهما إلى درجة الصحة، وهذا أمر جليل أيضًا ولا ينكره إلا مَن لا مذاق له في هذا الشأن.
والمرسل عند الشافعي أيضًا إذا عضده مرسل مثله بسند آخر غير سند الأول، فإنه حينئذ يقوى، ولكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أُسند من وجه آخر. وقد اعترض الحنفية أيضًا فيه على الإمام الشافعي، وقالوا: هذا ليس فيه إلا أنه انضم غير مقبول عنده إلى مثله، فلا يفيدان شيئًا، كما إذا انضمت شهادة غير العدل إلى مثلها.
وجوابه أيضًا بمثل ما تقدم: أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر قوى الظن أن له أصلًا، وإن كان كلٌّ منهما لا يُفيد ذلك بمجرده، وهذا كما قيل في الحديث الضعيف الذي ضعفه من جهة قلة حفظ راويه وكثرة غلطه، لا من جهة اتهامه بالكذب، إذا روى مثله بسند آخر، نظير هذا السند في الرواة، فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن؛ لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر. راجع: جامع التحصيل للعلائي ص(41)، والإرشاد ص(81)، وكشف الأسرار (3/ 3).
وتأول الحنفية الحديث بأن المراد بالصدقة النفقة؛ لأن نفقة المرء على نفسه صدقة، ولأنه أضاف الأكل إلى جميع المال، والنفقة هي التي تأتي على جميع المال، وأما الزكاة فلا تذهب بجميع المال لأنها إذا نقص عن النصاب لم تجب. المبسوط (2/ 162).
وأُجيب عنه بأن حمل الصدقة على النفقة مجاز لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، وذهابه بالزكاة يعني ذهاب أكثره وإن كان مجازًا لكنه أرجح من المجاز الأول، وهب تهيأ لهم هذا البحث في لفظ الصدقة فما يقولون في لفظ الزكاة وليس قابلًا لهذا التأويل. فتاوى السبكي (1/ 187).
وأما الآثار ن الصحابة فكثيرة؛ منها:
1- رو الدارقطني في سننه (2/ 110) من طريث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد ابن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة.
قال البيهقي في السنن الكبرى (4/ 108): "إسناد صحيح وله شواهد عن عمر".
طريق آخر: رواه الشافعي في الأم (2/ 30) عن عمرو بن دينار ومحمد بن سيرين. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379) عن الزهري ومكحول أربعتهم عن عمر مرسلًا؛ لأن جميعهم لم يدرك عمر.
طربق آخر: ورواه الدارقطني في سننه (2/ 110) من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن حميد بن هلال قال: سمعت أبا محجن أو ابن محجن وكان خادمًا لعثمان ابن أبي العاص قال: قدم عثمان ابن أبي العاص على عمر بن الخطاب فقال له عمر: كيف متجر أرضك، فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة تفنيه. قال: فدفعه إليه.
2- روى مالك في الموطأ (590)، والشافعي من طريقه في الأم (2/ 30)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108) عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة تليني وأخًا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
3- روى الدارقطني في سننه (2/ 112)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108) عن عبدالرحمن ابن أبي ليلى: أن عليًّا زكى أموال بني أبي رافع، فلما دفعهم إليهم وجدوها بنقصٍ فقالوا: إنا وجدناها بنقص. فقال عليٌّ: أترون أن يكون عندي مال لا أزكيه.
4- روى الشافعي في الأم (2/ 30) عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يزكي مال اليتيم. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 379)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 69)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 108).
5- روى ابن أبي شيبة (2/ 379)، وعبدالرزاق (4/ 101) في مصنفيهما عن أبي الزبير عن جابر: في مال اليتيم زكاة.
ولخص السبكي أدلة الشافعي تلخيصًا حسنًا في عبارات رصينة موجزة فقال كما في الفتاوى (1/ 187): "مستند الشافعي في إيجاب الزكاة في مال اليتيم: الآيات الكريمة الآمرة بإيتاء الزكاة، والآيات الكريمة المقتضية أنها في عين المال، والأحاديث الصحيحة الشهيرة الكثيرة، وفعل السعاة، وتحقيق القول بالعموم في جميع ذلك، ومرسل صحيح وهو عند أبي حنيفة كالمسند أو أقوى، وأحاديث ضعيفة، وآثار عظيمة عن أكابر الصحابة، ولم يثبت مخالف منهم، ومعنى النفقة القرابة. فهذه عشرة أمور متضافرة يثبت الوجوب بأقل منها".
ولا شك أن هذه الأمور ترجح مذهب الشافعي في هذه المسألة، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أنه لم يثبت في المسألة حديث مرفوع مما يدل على صحة ما قرره الحنفية، فإن الصحابة اختلفوا في وجوب الزكاة في مال الصبي، وأعرضوا عن الاحتجاج بهذا الحديث أصلًا، فعُرف أنه غير ثابت؛ إذ لو كان ثابتًا لاشتهر فيهم، وجرتْ المحاجة به بعد تحقق الحاجة إليه بظهور الاختلاف.
***

ويُراجع: منهج الحنفية في نقد الحديث (237-242).
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

(من كتاب الصوم)
* مسألة قضاء النذر عن المتوفى

http://www.feqhweb.com/vb/showthread.php?t=14365&p=102803&viewfull=1#post102803

مَسْأَلَةُ ’’قَضَاءِ النَّذْرِ عَنِ المُتَوفَّى‘‘..
هي من المسائل المنتقدة على الحنفية من كتاب الصوم، قد تعرض لشئ من التفصيل والتحرير فيها الدكتور كيلاني مُحمد خليفة في كتابه "منهج الحنفية في نقد الحديث" ص(413- 418) فليُراجعه من شاء.
(1) حّدَّثَنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عن الزُّهري عن عُبيدِاللهِ عن ابنِ عبَّاسٍ: أن سعدَ بن عُبادةَ استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نّذرٍ كان على أُمِّهِ وتُوُفِّيَتْ قبلَ أنْ تَقْضِيَهُ فقال: (اقْضِهِ عَنْهَا). أخرجه البخاري (2761)، ومُسلم (1638).
(2) حدَّثنا ابنُ نُمَيرٍ عن عبداللهِ بن عطاءْ عن ابن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءته امرأةٌ فقالت: إنه كان على أُمي صوم شهرين، أفأَصُومُ عنها؟ قال: (صُومي عنها)، قال: (أَرَأيت إن كان على أُمكِ دَيْنٌ أكان يُجزئُ عنها؟) قالت: بَلَى. قال: (فصُومي عنها). أخرجه مُسلم (1149).
(3) حدثنا عبدُالرحمِ عن مُحمدِ بنِ كُرَيْبٍ عن ابن عبَّاسٍ عن سِنَانِ بنِ عبداللهِ الجُهَنِيِّ أنَّهُ حَدَّثَتْهُ عَمَّتُهُ: أنها أتتِ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أُمِّي تُوُفِّيَتْ وعليها مَشْيٌ إلى الكعبة نَذْرًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتستَطيعينَ تَمْشِينَ عَنهَا؟) قالت: نعم. قال: (فَامْشِي عَن أُمِّكِ). قالت: أَوَيُجْزِئُ ذلك عَنها؟ قال: (نعم)- قال: (أَرَاَيتِ لو كان عليها دَيْنٌ قَضَيْتِه هل كان يُقبل منك؟) قالت: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فدّيْنُ اللهِ أَحَقُّ). أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/ 82) رقم(3295)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 191) وعزاه للطبراني في الكبير، ثم قال: ومُحمد بن كُريب ضعيف. اهـ. ولم أجده في مطبوعه الطبراني.
وذُكِرَ أن أَبَا حنيفة قال: لا يُجِزِئُ ذلك.

***
ذكرت هذه الأحاديث قضاء النذر عن الميت في عبادتين: الحج والصوم، وأبو حنيفة يُجيز النيابة في قضاء الحج ولا يُجيزه في الصوم، فمقصود ابن أبي شيبة الرد على أبي حنيفة في مسألة قضاء الصوم عن الميت.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أنه: من مات وعليه صوم فاته بمرض أو سفر أو غيرهما من الأعذار، ولم يتمكن من قضائه حتى مات لا شئ عليه، ولا يُصام عنه ولا يُطعم عنه. وأما من مات بعد تمكنه من القضاء فلم يصمه، فذهب الحنفية والمالكية، وهو أشهر القولين عند الشافعية، وهو قول الثوري والأوزاعي وابن علية إلى أنه يُطعم عنه لكل يوم مسكين. وذهب الشافعية في أصح القولين في الدليل عندهم، والظاهرية وطاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور إلى أنه يُصام عنه. وقال أحمد وإسحاق والليث وأبو عُبيد: يُصام عنه صوم النذر ويُطعم عنه صوم رمضان. راجع: الموسوعة الفقهية (32/ 68)، والمجموع (6/ 414)، والمغني (3/ 39).
قال صاحب الهداية: ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينًا نصف صاع من بُرٍّ أو صاعًا من تمر أو شعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره، فصار كالشيخ الفاني، ثم لابد من الإيصاء عندنا، خلافًا للشافعي رحمه الله، وعلى هذا الزكاة، وهو يعتبره بديون العباد؛ إذ كل ذلك حق مالي تُجرى فيه النيابة. ولنا أنه عبادة، ولا بد فيه من الاختيار، وذلك في الإيصاء دون الوراثة؛ لأنه جبرية، ثم هو تبرع ابتداءً حتى يعتبر منا لثلث، والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ، وكل صلاة تعتير بصوم يوم، هو الصحيح ولا يصوم عنه الولي ولا يُصلي لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد). اهـ. انظر: الهداية وشروحها: فتح القدير (2/ 357)، والعناية (2/ 357)، ونصب الراية (3/ 29)، وقال الزيلعلي في تخريج الحديث المذكور في آخر الكلام: غريب مرفوع، وروي موقوفًا على ابن عباس وابن عمر. فحديث ابن عباس: رواه النسائي في السنن الكبرى (2/ 175) عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يُطعم عنه مكان كل يوم مُدًّا من حنطة. وحديث ابن عمر: رواه عبدالرزاق في مصنفه (9/ 61)، ومالك بلاغًا (673) عن ابن عمر قال: لا يُصلين أحد عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن إن كنت فاعلًا تصدقت عنه أو أهديت. اهـ.
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (2/ 62): العبادات على ثلاثة أضرب: ضرب عنها: عبادات المال لا تعلق له بالبدن كالزكاة فهذا يصح فيه النيابة. والضرب الثاني: له تعلق بالمال وله تعلق بالبدن كالحج والغزو، وقد اختلف أهل العلم في صحة النيابة فيه. والضرب الثالث: له اختصاص بالبدن ولا تعلق له بالمال كالصوم والصلاة، وهذا لا يدخله النيابة بوجه، وبه قال جمهور الفقهاء وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي. اهـ.
قال النووي في المجموع شرح المهذب (6/ 414): من مات وعليه قضاء رمضان ففيه قولان مشهوران: أشهرهما: وهو المنصوص في الجديد أنه يجب في تركته لكل يوم مد من طعام، ولا يصح صيام وليه عنه.
والثاني: وهو القديم وهو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا، وهو المُختار أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، ويصح ذلك ويُجزئه عن الإطعام وتبرأ به ذمة الميت، ولكن لا يلزم الولي الصوم؛ بل هو إلى خيرته. وقال البيهقي في السنن الكبرى: وكان الشافعي قال في القديم: قد روى في الصوم عن الميت شئٌ فإذا كان ثابتًا صيم عنه كما يُحج عنه.
قُلت -النووي-: الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت، سواء صوم رمضان والنذر وغيره من الصوم الواجب، للأحاديث الصحيحة السابقة، ولا معارض لها ويتعين أن يكون هذا مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي واتركوا قولي المُخالف له. وقد صحت في المسألة أحاديث كما سبق، والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من بعض طرقه، ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بُريدة وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخالف ذلك، فكل هذه الأحاديث صحيحة صريحة فيتعين العمل بها لعدم المعارض لها. اهـ. وراجع: الأم (2/ 89)، وروضة الطالبين (2/ 381)، وشرح مُسلم للنووي (8/ 25)، والمنهاج وشروحه: تحفة المُحتاج (3/ 189)، ونهاية المُحتاج (3/ 189)، ومغني المُحتاج (2/ 172)، ومقدمة تحقيق كتاب "معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي" للإمام تقي الدين السُّبكي، للدكتور كيلاني، طبعة مؤسسة قُرطبة ص(40).
وقال ابن قدامة في المُغني (3/ 39): من مات وعليه صيام من رمضان بعد إمكان القضاء فالواجب أن يُطعم عنه لكل يوم مسكين، فأما صوم النذر فيفعله الولي عنه، وهذا قول ابن عباس والليث وأبي عُبيد وأبي ثور، والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها، والنذر أخف حكمًا، لكونه لم يُجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه الناذر على نفسه. اهـ. وراجع: الفروع (3/ 96).
قال أبو مُحمد بن حزم في المُحلى بالآثار (4/ 420): ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان، أو نذر أو كفارة واجبة ففرض على أوليائه أو يصوموه عنه هم أو بعضهم، ولا إطعام في ذلك أصلًا -أوصى به أو لم يوص به- فإن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصومه عنه، ولا بد -أوصى بكل ذلك أو لم يوص- وهو مقدم على ديون الناس. اهـ.

-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور بما رواه الترمذي (722)، وابن ماجه (1757) من طريق محمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام شهر فليُطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا). قال أبو عيسى الترمذي: حديث ابن عمر لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله.
فابن أبي ليلى سيئ الحفظ -مُحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال عنه أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال شُعبة: ما رأيت أحدًا أسوأ حفظًا من ابن أبي ليلى. وقال أبو حاتم: محله الصدق كان سيئ الحفظ، شُغل بالقضاء فساء حفظه، لا يُتهم بشئ من الكذب إنما يُنكر عليه كثرة الخطأ، يُكتب حديثهولا يُحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وراجع: تهذيب الكمال (25/ 322)، وميزان الاعتدال (3/ 613)-، وقد خالفه الثقات فرَوَوْهُ عن نافع عن ابن عمر موقوفًا فقد رواه البيهقي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وجويرية بن أسماء عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سُئِلَ عن الرجل يموت وعليه صوم من رمضان أو نذر يقول: لا يصوم أحد عن أحد ولكن تصدقوا عنه من ماله للصوم لكل يوم مسكينًا.
قال البيهقي في السنن الكبرى (4/ 254): هذا هو الصحيح موقوف على ابن عمر، وقد رواه مُحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن نافع فأخطأ فيه. اهـ. ومن المُقرر في القواعد لدى الحنفية أن الاختلاف في الحديث بالرفع والوقف لا يقدح في صحة الحديث عندهم؛ فالحديث عندهم مرفوع يُحتج به.
وقد استدلَّ الحنفية والمالكية بهذا الحدث على أن الإطعام يُجزئ عن صيام رمضان وصيام النذر، واستدلَّ به الحنابلة على صيام رمضان وحده.

-أدلة الشافعية والظاهرية:
1- روى البُخاري (1952) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
2- وروى أيضًا (1953)، ومُسلم (2749) من طريق سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: (نعم فدين الله أحق أن يُقضى).
3- وروى مُسلم (2753) عن بُريدة بن الحُصَيْب قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. قال: فقال: (وجب أجرك وردها عليك الميراث). قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: (صومي عنها). قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: (حجي عنها).
وقد سبق حديث ابن عباس وبُريده من رواية ابن أبي شيبة بألفاظ مُختلفة فأحببت أن أوردها بألفاظ الصحيحين.

وقد أجاب الجمهور عن هذه الأحاديث بعدة أجوبة، كل جواب يُمثل المدرسة الفقهية التي ينتمي إليها ويتفق مع قواعدها.
فأجاب الحنفية بأن هذه الأحاديث منسوخة، دلَّ على ذلك قول رواتها بخلافها، فقد رُوي عن ابن عباس قال: لا يُصلي أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعم عنه مكان كل يوم مدًّا من حنطة. رواه النسائي في الكبرى (2/ 157)، والطحاوي في مُشكل الآثار (3/ 173).
ورُوي عن عمرة بنت عبدالرحمن فقالت: سألت عائشة فقُلت لها: إن أمي توفيت وعليها رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين خير من صيامك عنها. رواه الطحاوي في مُشكل الآثار (3/ 173).
قال الطحاوي في مُشكل الآثار (3/ 173): ولا يجوز أن يكون ذلك من ابن عباس وعائشة إلا بعد ثبوت نسخ ما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولولا ذلك سقط عدلهما، وكان في سقوط عدلهما سقوط روايتهما، وحاشا لله عز وجل أن يكونا كذلك، وكلنهما على عدلهما، وعلى أنهما لم يتركا ما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى ما سمعاه منه مما قالا، والله نسأله التوفيق. اهـ. وراجع: المبسوط (3/ 89).
فأجاب الطحاوي عن حديث ابن عباس وعائشة ولم يتعرض لحديث بُريدة ابن الحصيب.
وأجاب المالكية عن هذه الأحاديث بمُخالفتها لعمل أهل المدينة، قال الإمام مالك في الموطأ رواية القعنبي ص(342) عقب حديث(524): لم أسمع عن أحد من الصحابة ولا من التابعين بالمدينة أن أحدًا منهم أمر أحدًا أن يصوم عن أحد ولا أن يُصلي عن أحد. اهـ.
وأجاب الحنالية عنها بأنها وردت في صيام النذر؛ لأنه قد جاء مُصرحًا به في بعض ألفاظه، فحملوا حديث ابن عمر على صوم رمضان، وحديث عائشة وابن عباس وبُريدة على صوم النذر، وأيّدوا ذلك بما روي عن ابن عباس: في امرأة توفيت أو رجل وعليه رمضان ونذر شهر فقال: يُطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا ويصوم عنه وليه لنذره. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 254).

ويتضح مما سبق أن الحنفية لم يأخذوا بهذه الأحاديث لاعتقادهم نسخها، ويرون أن ذلك هو اللائق بمقام الصحابة رضوان الله عليهم، فحُسن الظن بهم يقتضي أنهم لم يُخالفوا ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لثبوت نسخه عندهم، والقول بنسخ الحديث لا يُعد مُخالفة له، كما ادعى ابن أبي شيبة ذلك على الحنفية في هذه المسألة.
 
إنضم
22 سبتمبر 2014
المشاركات
28
الكنية
أبو إبراهيم
التخصص
أصول فقه
المدينة
بغداد
المذهب الفقهي
الأثري
رد: المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كُتُبٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

جزاك الله خيرا
 
إنضم
30 سبتمبر 2012
المشاركات
685
التخصص
طالب جامعي
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
حنفي
أعلى