عمرو بن الحسن المصري
:: نشيط ::
- إنضم
- 30 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 685
- التخصص
- طالب جامعي
- المدينة
- القاهرة
- المذهب الفقهي
- حنفي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فقد طرحتُ موضوعًا في آواخر عام (2012 م) جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحج بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحَجِّ)‘‘، ثم أتبعتُه بموضوعٍ في أوائل العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتابي الطهارة والصلاة بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابَي الطَهَارَةِ والصَّلاَةِ)‘‘، ثم طرحتُ بعده موضوعًا في آواخر العام السابق جمعتُ فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب البُيُوع (وأتبعته بفوائد طيّبة) وكان بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ البُيُوعِ)‘‘، ثم أضفت موضوعًا من شهور قريبة ذكرت فيه أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب الحُدُود (ويحوي فوائد نفيسة) وأسميته: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ الحُدُودِ)‘‘، ومن قرابة شهرين طرحتُ موضوعاً آخر تكلمت فيه على أهم المسائل المنتقدة على الحنفية في كتاب النكاح/ الطلاق/ اللعان؛ بعنوان: ’’المَسَائِلُ المُنْتَقَدَةُ عَلَى الإِمَامِ أَبِي حَنيفَة (مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلاقِ وَاللِّعَانِ)‘‘، ..
هذا الموضوع يعتبر آخر مواضيع سلسلة "المسائل المنتقدة على الإمام أبي حنيفة" ، التزمت في طرحها بالأقسام المتخصصة في الملتقى، وآثرت أن أطرح هذا الموضوع الأخير في قسم المذهب الحنفي لأنه يحتوي على الكثير من المسائل المتفرقة... والتزمت بعرض الخلاف الفقهي في المسائل إجمالًا ابتداءً ثم بالتفصيل بنقل بعض العبارات عن كل مذهب، وذلك بالرجوع إلى المصادر المعتمدة لكل مذهب لتوثيق حكاية المذهب؛ لأنني كثيرًا ما وقفت على تناقض في كتب الخلاف في حكاية المذهب الواحد، فعزمت على نفسي ألا أنسب قولًا لمذهب إلا بالرجوع إلى مصادره، ولم أكتفِ بذلك بل ذكرتُ من كلامهم بعض العبارات الدالة على هذا المذهب. كما التزمت غالبًا بذكر أدلة كل مذهب من خلال كتبه، مع الرجوع إلى مصدر كل حديث مذكور حفاظًا على ألفاظ الحديث النبوي؛ لأن كثيرًا من كتب الفقه تذكر الأحاديث بالمعنى، مع الالتزام بتخريج جميع الأحاديث والآثار وذكر بعض عللها وذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في رواتها المُتكلم فيهم، مع ذكر الاعتراضات على الأدلة من أقوال أهل العلم. وعامة هذه المسائل من من مختلف الكتب الفقهية اخترتها على وفق اختيار الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله- في كتابه "الرد على أبي حنيفة مما خالف فيه الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضمن مصنفه، وهذا العمل نقلته من كتاب "منهج الحنفية في نقد الحديث" للدكتور/ كيلاني محمد خليفة، الصفحات (419- 430) -الصفحات 517-564-.
ونظراً لأن هذا الموضوع مسائله متفرقة فسيكون طويلاً نوعاً ما، وبما أنه الموضوع الأخير للسلسلة؛ فسأقوم بتقسيمه بحيث تشمل كل مشاركة مسألة، نزولاً لرغبة بعض الأعضاء لعدم تشتيت القراء، بالرغم من أن هذه ليست عادتي في الطرح ،،
وبعد الانتهاء من هذا الموضوع سأجمع كافة روابط المواضيع الخاصة بالسلسلة في موضوع مستقل، وسأطرح معه ملف شامل لمحتوى المواضيع بصيغة (PDF).
قريباً، سأقوم بإضافة فوائد أخرى لكل موضوع من مواضيع السلسلة إن تيسر لي ذلك على فترات متفاوتة.
أولاً: مَسْأَلَةُ سِهَامِ الْمُجَاهِدِينَ
ذهب جمهور العلماء إلى أن الغنيمة يقسم منها للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وقال أبو حنيفة: للفرس سهم واحد، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فوافقا سائر العلماء.(1) حَدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ وأَبُو أُسَامَةَ عَن عُبَيْدِاللهِ بنِ عُمَرَ عن نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَسَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. أخرجه البخاري (4228)، ومسلم (1762).
(2) حَدَّثنا حَفْصٌ عن غِيَاثٍ عن حَجَّاجٍ عن مَكْحُولٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لَهُ. أبو داود في المراسيل (289).
(3) حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن مَكْحُولٍ قَالَ: أَسْهَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. المراسيل (289).
(4) حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَن أَبِي صَالِحٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْفَارِسِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ. رواه أبو إسحاق بن راهويه في مسنده كما عزاه إليه الزيلعي في نصب الراية (4/ 276)، وحجاج هو ابن أرطاة، قال الحافظ في التقريب: أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس.
(5) حدَّثنَا أَبُو خَالِدٍ عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عن صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِمِائَتَي فَرَسٍ لِكُلِّ فَرَسٍ سَهْمَيْنِ. أخرجه عبدالرزاق في المصنف (5/ 186-187).
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: سَهْمٌ لِلْفَرسِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِهِ.
***
قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/ 87): "اختلف في سهم الفارس فقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللراجل سهم. وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي: للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم.
وروي مثل قول أبي حنيفة عن المنذر ابن أبي حمصة عامل عمر أنه جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً فرضيه عمر ومثله عن الحسن البصري". وراجع الهداية وشروحها: فتح القدير (5/ 492)، والعناية (5/ 493)، ونصب الراية (4/ 273).
قال في المدونة: "قلت: فكم يجب للفرس في الغنيمة؟ قال: سهمان للفرس وسهم لفارسه عند مالك فذلك ثلاثة أسهم". أحكام القرآن لابنا لعربي (2/ 409)، والمدونة (1/ 518)، وراجع مختصر خليل وشروحه: التاج والإكليل (4/ 550)، وشرح الخرشي (3/ 108)، ومواهب الجليل (3/ 367)، ومنح الجليل (3/ 193).
قال الشافعي في الأم (4/ 152، 7/ 355): "ثم يعرف عدد الفرسان والرجالة من بالغي المسلمين الذي حضروا القتال، فيضرب للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً، فيُسوي بين الراجل والراجل فيعطيان سهمًا سهمًا ويفضل ذو الفرس". وراجع المنهاج وشروحه: تحفة المحتاج (7/ 147)، مغني المحتاج (4/ 168)، نهاية المحتاج (6/ 149).
قال في المغني (6/ 322): "ذهب جمهور أهل العلم إلى أن للراجل سهمًا وللفارس ثلاثة أسهم. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان، وخالفه أصحابه فوافقوا سائر العلماء". وراجع: الفروع (6/ 226)، والإنصاف (4/ 173).
-أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر المخرّج في الصحيحين، ولكن الاختلاف الواقع فيه جعل الحنفية ينازعون الجمهور في الاستدلال به.
هذا الحديث رواه عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، واختلف عليه فيه، فرواه أغلب الرواة عنه بألفاظ متقاربة يُستدل بها لمذهب الجمهور، وخالف بعضهم فرواه بألفاظ يستدل بها لمذهب الحنفية.
فرواه البخاري (2863) من طريق أبي أسامة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا. والحديث بهذا اللفظ دليل للجمهور لا اختلاف فيه.
ورواه البخاري من طريق زائدة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا. قال: وفسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم -سبق تخريجه في أول حديث بالمسألة-.
ورواه مسلم (1762)، والترمذي (1641) من طريق سليم بن أخضر عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهمًا.
ورواه أحمد في مسنده (2/ 143)، ومن طريقه أبو داود (2735) عن أبي معاوية عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهمًا له وسهمين لفرسه. ورواه أحمد في مسنده (2/ 2) عن ابن نمير عنه بلفظ: قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا.
ورواه أحمد (2/ 08، 251) عن عبدالرزاق عن سفيان الثوري عنه به مثله. ورواه الدارقطني في سننه (4/ 104) من طريق النضر بن محمد عن حماد بن سلمة عنه به نحوه.
ثم خالف بعض الرواة عن عبيدالله بن عمر فرووه بألفاظ توافق مذهب أبي حنيفة، ومن ذلك:
قال الدارقطني في سننه (4/ 106): حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة وابن نمير قالا: حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً.
قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي؛ لأن أحمد ابن حنبل وعبدالرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا، ورواه ابن كرامة وغيره عن أبي أسامة خلاف هذا أيضاً". ورواية ابن بشر وابن كرامة رواهما الدارقطني (4/ 102).
قلتُ: والوهم في ذلك عندي من الرمادي أحمد بن منصور أبي بكر، ولا شك في ذلك؛ لأن الحديث في مصنف ابن أبي شيبة كرواية الجماعة المؤيدة لمذهب الجمهور كما في صدر المسألة، وهو ما يتفق مع إيراد ابن أبي شيبة لها على أبي حنيفة.
ومن الروايات المخالفة: ما رواه الدارقطني في سننه (4/ 106) قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أسهم للفارس سهمين وللراجل سهمًا.
وجميع رجال الإسناد ثقات، وهو أصح ما يستدل به لمذهب الحنفية، لولا ما فيه من المخالفة لرواية الجماعة عن عبيدالله بن عمر، وكانت الجادة أن يتهم بها عبدالله ابن المبارك، ولكن لجلالته اتهم بها نعيم بن حماد الراوي عنه، كما قال أبو بكر النيسابوري: ولعل الوهم من نعيم؛ لأن ابن المبارك من أثبت الناس. [سنن الدارقطني (4/ 106)].
ورواه الدارقطني في سننه أيضاً (4/ 107) قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن ملاعب حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين وللراجل سهمًا.
قال الدارقطني: "كذا قال وخالفه النضر بن محمد عن حماد وقد تقدم ذكره".
إذن فالمحفوظ في حديث ابن عمر هذه الألفاظ التي تؤيد مذهب الجمهور، وأما الروايات الأخرى فهي شاذة لمخالفتها ما رواه الجماعة.
وقد روى الدارقطني في سننه (4/ 106) من طرق عبدالله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر بلفظ الشك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للفارس أو للفرس سهمين وللراجل سهمًا. وهي تؤيد مذهب أبي حنيفة لولا ضعف عبدالله بن عمر العمري -عبدالله العمري قال عنه أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال ابن معين: صويلح. وفي رواية: ليس به بأس. وقال ابن المديني والنسائي: ضعيف. راجع ترجمته في تهذيب الكمال (15/ 327)-. مع ما فيها من مخالفة لرواية أخيه عبيدالله فتعتبر هذه الروايات منكرة.
حديث آخر: ومما يصلح للاحتجاج به للجمهور ما رواه أحمد وأبو داود في سننه (2736) من طريق أبي عبدالرحمن المقرئ عن المسعودي عن ابن أبي عمرة قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس، فأَعطى كل إنسان منا سهمًا وأعطى الفرس سهمين.
والمسعودي هو عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة، وثقه أحمد ويحيى بن معين وعلي ابن المديني وقال النسائي: ليس به بأس. وقال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث إلا أنه اختلط في آخر عمره ورواية المتقدمين عنه صحيحة. قال أحمد: إنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه في الكوفة والبصرة فسماعه جيد، وتُوفي المسعودي ببغداد سنة ستين ومائة. انظر: تهذيب الكمال (17/ 219).
والراوي عنه عبدالله بن يزيد أبو عبدالرحمن المقرئ ثقة فاضل من المتقدمين، أقرأ القرآن نيفًا وسبعين سنة، توفي بمكة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقد قارب المائة، أصله من البصرة أو الأهواز، وليس له ذكر في تاريخ بغداد [تهذيب الكمال (61/ 320)]. فَسِلم الحديث بذلك من علة اختلاط المسعودي وصلح بذلك للاحتجاج.
حديث آخر: روى البيهقي في دلائل النبوة (4/ 24) في باب غزوة بني قريظة بسنده عن ابن إسحاق قال: حدثني عبدالله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: لم تقع القسمة ولا السهم إلا في غزوة بني قريظة، كانت الخيل يومئذ ستة وثلاثين فرسًا، ففيها أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل، وسهمان الرجال، فعلى سننها جرتْ المقاسم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ للفارس وفرسه ثلاثة أسهم: له سهم ولفرسه سهمان وللراجل سهمًا. قال البيهقي: "وهذا هو الصحيح المعروف بين أهل المغازي". وتعليق البيهقي في آخر الحديث لم أجده في مطبوعة الدلائل، ونقله الزيلعي في نصب الراية (4/ 277).
أضف إلى ذلك ما ذكره ابن أبي شيبة من أحاديث في صدر المسألة، وذكر الزيلعي في نصب الراية (4/ 276) أحاديث أخرى لا تنهض للاحتجاج، ومن أراد الوقوف عليها فلينظرها هناك.
-أدلة الحنفية:
استدل الحنفية بأدلة نقلية وعقلية:
أولاً: الأدلة النقلية:
1- استدل الحنفية بتلك الروايات من حديث ابن عمر التي جاءت مخالفة لأغلب روايات الحديث؛ كرواية ابن المبارك وحجاج بن منهال وعبدالله بن عمر العمري.
2- أخرج أحمد وأبو داود عن مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عنه عمه عبدالرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع ابن جارية الأنصاري، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يَهُزُّون الأباعر -الأباعر: جمع بعير، والمعنى يحركون ويسرعون رواحلهم. كما في عون المعبود (7/ 289)-، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نُوجِفُ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا على راحلته عند كُرَاعٍ الغَمِيم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: (نعم، والذي نفس محمد بيده إنه لفتح)، فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهمًا.
قال أبو داود في سننه (2738): "حديث أبي معاوية -يعني حديث ابن عمر- أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس وكانوا مائتي فارس". وانظر: مسند أحمد (3/ 420).
ويعقوب بن مجمع ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر: مقبول. انظر: تهذيب الكمال (32/ 363)، والثقات (7/ 642)، والتقريب (7832).
وذكر الزيلعي أحاديث أخرى لا تخلو أسانيدها من مقال. راجع: نصب الراية (4/ 278).
وبالنظر في أحاديث الباب مجتمعة نجد أنها متعارضة، فذهب الجمهور إلى ترجيح الروايات التي أثبتت وجوب ثلاثة أسهم للفارس: سهمين لفرسه وسهم له، أما الحنفية فجمعوا بينها؛ لأن الجمع أَوْلَى من إبطال أحدها، فقالوا: تحمل الروايات المثبتة للثلاثة الأسهم على التنفيل، كما نفل النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع سهم الفارس مع سهم الراجل، وتحمل روايات السهمين على الوجوب -مسلم (4779)-.
ثانيًا: الأدلة العقلية:
إن استحقاق الغنيمة يكون بالغناء في القتال والفارس يقاتل بنفسه وبفرسه، والراجل يقاتل بنفسه، فكان النظر أن يُعطى الفارس ضعف الراجل. راجع: الهداية (5/ 495).
ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال: لا أجعل سهم الفرس أفضل من سهم الرجل المسلم [شرح السير الكبير (3/ 885)]؛ لأن الثابت عند أبي حنيفة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أسهم للفرس سهمًا ولصاحبه سهمًا؛ ولذلك فإن أبا حنيفة سَاوَى بين الرجل والفرس في الاستحقاق، لثبوت السنة به عنده، ولم يجوز التفضيل في الاستحقاق لعدم ثبوته عنده.
ومن جهة النظر فإن غناء الرجل في القتال أظهر منه في الفرس، ألا ترى أن الفرس لا يقاتل بدون الرجل، والرجل يقاتل بدون الفرس، فلا وجه بذلك لتفضيل الفرس. ولو فُهم هذا الكلام في ضوء ما ثبت عند أبي حنيفة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما شنع عليه أحد بكلامه هذا.
وقال السرخسي: "وإذا أصاب المسلمون الغنائم فأحرزها وأرادوا قسمتها فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يُعطى الفارس سهمين، سهمًا له وسهمًا لفرسه، والراجل سهمًا. وقال: لا أجعل سهم الفرس أفضل من سهم الرجل المسلم، وهو قول أهل العراق من أهل الكوفة والبصرة. وعلى قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه. وهو قول أهل الحجاز وأهل الشام.
قال محمد بن الحسن: وليس في هذا تفضيل البهيمة على الآمدي، فإن السهمين لا يعطيان للفرس، وإنما يعطيان للفارس، فيكون في هذا تفضيل الفارس على الراجل، وذلك ثابت بالإجماع، ثم هو يستحق أحد السهمين بالتزام مؤنة فرسه والقيام بتعاهده والسهم الآخر لقتاله على فرسه، والسهم الثالث لقتاله ببدنه. وقال: أرجح هذا القول؛ لأنه اجتمع عليه فريقان". انظر: شرح السير الكبير (3/ 885)، وراجع: المبسوط (10/ 41)، وتبيين الحقائق (3/ 254)، والبحر الرائق (5/ 96).
وفي نهاية المطاف نجد أن أدلة الجمهور أكثر مخرجًا وأصح إسنادًا، فمذهبهم أرجح؛ بل أصوب من مذهب أبي حنيفة، ولعل عذر أبي حنيفة أنه لم تبلغه أحاديث الثلاثة الأسهم من وجه معتبر عنده، فلما بلغت صاحبيه رجعا عن مذهبه وقالا بمذهب الجمهور.
***