ولكننا نسلم بالاتفاق أيضا أن كثيرا من الصحابة مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على الحجة التي تحتج بها فلا بد أن يكون إجماع الصحابة بعد النبي إجماعا من بعض الأمة لا من كل الأمة
هذا هو موضع الحجة من كلام أبي مالك وهو استدلال ضعيف جداً وغير محقق..وليس فيه فقه لقول المخالف..
وأصل ذلك أن أدلة الإجماع إنما تدل على أن الحجة فيه هي العصمة المكفولة لأمة النبي صلى الله عليه وسبلم أن تزيغ عن الحق زيغاً تاماً لا يهتدي إليه منهم أحد..
وكل إجماع لا يستطيع المستدل أن يقضي فيه هذا القضاء (أن أمة محمد عليه ) وأن مخالفة المخالف فيه إنما هي من قبيل الزيغ و الكفر = فليس هو بالإجماع المأذون بالاحتجاج به في النصوص الشرعية.
وأنت ترى هذا الجنس من الإجماع لا يُخالف فيه لا صحابي مات في زمن النبي ولا صحابي مات بعده بقليل..بل هو من الجنس الذي تقول به الأمة جميعها لا يُتصور فيه خلاف أصلاً ؛لأن المخالف فيه ليس من الأمة أصلاً.
وهذا هو الذي نسميه الإجماع القطعي الظاهر.
مثاله : هل نقول أن الأمة أجمعت إجماعاً لا يكون على ضلالة إن صلاة العيد مشروعة ؟
الجواب : نعم.
سؤال : هل هذا إجماع للأمة بأسرها ؟
الجواب : نعم.
سؤال : ألا يخرمه من مات من الصحابة قبل أن تُشرع صلاة العيد أصلاً ؟؟
الجواب : لا يخرمه لأنك تقضي قضاء لا يُخرم أن لو كان الواحد من هؤلاء حياً لما وسعه إلا أن يقول بقول الأمة جميعها.
بقيت صورة وقعت في كلام السلف واحتجوا بها : وهي أن يحتج الواحد منهم بما يظن أنه إجماع للأمة قضية أنه لا يعلم فيه خلاف بحسب ما بلغه،ويظن أن من لم يبلغه قوله في هذه المسألة من الصحابة ما كان ليقول إلا بهذا القول ،ولو وقعت المخالفة = لنقلت.
فغاية هذا الدليل أنه ادعاء لإجماع أمة النبي صلى الله عليه وسلم بأسرها على هذا القول ..وهذا هو ما نسميه بالإجماع الظني ،لأن موقف الصحابة الذين لم ينقل لنا قولهم والقضاء على رأيهم ما هو = ليس إلا بطريق الظن وليس هو كقضائنا على رأيهم في الصورة الأولى.
فأنت ترى معي أن هاتين الصورتين هما ما احتج بهما السلف في باب الإجماع ،وترى أنها تدور على ادعاء اتفاق أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
واتفاق الأمة هذا لا يُتصور إلا باتفاق طبقة الصحابة ،فإن لم يُدع اتفاقهم لا يُغني ادعاء اتفاق من بعدهم ؛لخروج طبقة الصحابة خروجاً يُبطل الاحتجاج بالإجماع للعجز عن إثبات اتفاق الطبقة الأولى.
فحقيقة الأمر : أن السلف إذا احتجوا بالإجماع فهم إنما يحتجون بإجماع الصحابة جميعاً من حي منهم ومن مات ويدعي حاكي الإجماع منهم أنه لا يوجد خلاف بين الصحابة في هذا إما قطعاً كالصلوات الخمس وإما ظناً أي فيما بلغه من أقوالهم.
أما المتكلمون : فأدخلوا تحت الإجماع الشرعي صوراً لا يدعون هم أنه تشمل إجماع الأمة وادعوا -باطلاً- أن الأمة هي أهل عصر من العصور وفي بعض الصور كمحل البحث جوزوا الإجماع على ما يُعلم خلاف الصحابة فيه.
فحجة أبي مالك لا تجري على أصول السلف ولا تضر قولنا ..فمدعي الإجماع منا إنما يدعيه قولاً لأمة النبي جميعها (صحابته) ومن بعدهم محجوج بإجماعهم.
ثم هذه الدعوى تكون على سبيل القطع الذي يقضي فيه على كل صحابي بلغه قوله أم لم يبلغه،وتكون على سبيل الظن الذي عماده ظن اتفاقهم وحمل مالم يبلغه على ما بلغه.
وهاتان الصورتان توجدان في كلام الشافعي كثيراً ونص عليهما في الرسالة..
ثم إن المتأمل أيضا في المسألة يظهر له أن القول بأن ( مجرد وجود خلاف متقدم مطلقا يمنع وجود الإجماع اللاحق ) واضح البطلان ؛ لأن كثيرا من الخلافات المتقدمة ظهر جليا لجميع الناظرين المتأخرين بطلانها، لأن بعض الصحابة مثلا كان يخفى عليه بعض النصوص التي تظهر لمن بعده من التابعين ومن بعدهم وتفشو وتنتشر انتشارا بالغا بحيث لا يكاد يجهلها عالم، فمن الخطأ الفاحش حينئذ أن نعتد بخلاف هذا المخالف الذي ظهر أن سبب خلافه هو جهله بهذا النص.
وهناك بعض الصحابة كان يقول بأقوال بمقتضى العادات ( مثل كراهة الاستنجاء بالماء )، ثم يظهر لجميع الناظرين من بعده بطلان هذا القول، والمتأمل للأقوال الفقهية المنقرضة يظهر له هذا جليا.
ظهور بطلان القول شيء ،وإلغاء وقوعه أو التكلم بما مقتضاه الإلغاء = شيء آخر...
خاصة مع وجود مسائل لم يُنقل لنا رجوع من نظن نحن بطلان كلامه،فكلامنا في نصيب دعوى إجماع الأمة حينها من الصدق أو الكذب..
ولا شك أنها مع وقوع الخلاف دعوى كاذبة...
ونعم.لم تُجمع الأمة،وإنما يقال أجمعوا غير فلان..وما على الناس لو قالوا هذا ؟؟!!
وحينئذ يسقط الإجماع من أصله، لأننا لا نعرف ماذا سيقول اللاحقون.
وهذه أيضاً من عدم توفير النظر في فقه كلام المخالف..
لأنه إذا ثبت إجماع الصحابة ثبت إجماع الأمة ولابد ؛لأن المخالف لا يخرج عن حالتين :
الأولى : أن يثبت عنده الإجماع ،فحينها مخالفته له هو من جنس المعاصي لا من جنس الاجتهاد الذي يخرم الإجماع.
الثانية ألا يثبت عنده وهذا في الإجماع الظني،وحينها فقول المتأخر مبني على أنه يزعم أن الصحابة لم يتفقوا أصلاً ،وحينها يكون محل النزاع في ثبوت الإجماع لا في أنه يخرمه.
والحمد لله وحده..