أمين بن منصور الدعيس
:: متخصص ::
- إنضم
- 24 ديسمبر 2007
- المشاركات
- 339
- الجنس
- أنثى
- التخصص
- فقه
- الدولة
- السعودية
- المدينة
- الدمام
- المذهب الفقهي
- الحنبلي
الفقه
بين التمذهب والتقليد
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:بين التمذهب والتقليد
بسم الله الرحمن الرحيم
فعند النظر في بعض ما كتبه المتأخرون في مصطلح التقليد والتمذهب نرى جملة ممن كتب في هذا الموضوع حصل لهم نوع من الخلط بين التمذهب والتقليد، بحيث صار التمذهب في نظر الكثير منهم مرادفا للتقليد الصرف، وهذا تأخر في فهم حقيقة التمذهب، فإن هناك فرقا بين التمذهب من حيث كونه التزاما لجملة من التراتيب والقواعد الفقهية التي يتحصل عنها منهج ومعيار منضبط في النظر إلى المسائل الفقهية، وبين االتقليد الصرف الذي هو عبارة عن التزام قول معين من أهل العلم دون اعتبار للدلائل الشرعية الموجبة للقول في المسألة المعينة.
فالتمذهب من جهة كونه التزاما لمثل هذه التراتيب الفقهية ليس منهجا حادثا في عصر التمذهب الفقهي المشهور الذي هو التزام أحد المذهب الأربعة، بل ترى أثرا منه ظاهرا في فقه التابعين، فالصحابة رضي الله عنهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وردت عليهم المسائل والفتاوى فمنها ما كان النص الشرعي صريحا فيه، ومنها ما احتيج في الجواب عنه إلى قدر من التفقه والاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وتنزيل تلك النوازل عليها، وفرعا عن تفاوت الصحابة رضي الله عنهم في العلم واختلاف مسموعهم من النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت أرائهم في في مسائل الشريعة، وأخذ عنهم التابعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أثر عنهم من الفقه والاجتهاد، فكان عامة فقه تابعي أهل المدينة كالفقهاء السبعة وغيرهم مبنيا على ماورد من فتاوى وأقضية من عرف بالفتوى من الصحابة في المدينة كعمر، وعثمان، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس وغيرهم بالإضافة إلى ما قضى به قضاة المدينة في ذلك الزمان، فجمعوا من ذلك جملا كبيرة من المسائل، وما لم يحفظوا فيه شيئا عمن تقدمهم نظروا فيه نظر تفقه وقياس وتخريج على ما حفظوه.
وفي المقابل فإن فقهاء التابعين من أهل العراق كالنخعي، وعلمقة، والشعبي وغيرهم عامة فقههم مبني على أقوال ابن مسعود، وقضايا علي رضي الله عنه، وشريح وغيرهم من قضاة الكوفه، فعنهم أخذوا الحديث والمسائل الفقهية، وصنعوا بما أخذوا عنهم مثل ما صنع أهل المدينة، قال الدهلوي (الإنصاف 1/33): «وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة وكان أحفظهم لقضايا عمر ولحديث أبي هريرة، وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة، فإذا تكلما بشيء ولم ينسباه إلى أحد فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد من السلف صريحا أو إيماء ونحو ذلك، فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما وأخذوا عنهما وعقلوه وخرجوا عليه والله أعلم».
فتحصل أن أهل كل بلد أخذوا عن فقهاء بلدهم الذين هم أعرف بأقوالهم من غيرهم، وأميل إليهم من جهة فضلهم وعلمهم، وأعلم بأصولهم ومسالك النظر في النصوص عندهم، وما جروا عليه من تراتيب الأدلة، ثم نشأ بعد ذلك طبقة ممن أخذ عن التابعين كأبي حنيفة ومالك، فكانوا امتدادا لهاتين المدرستين فإن أبا حنيفة بنى على فقه أهل العراق وكان من أعلم الناس بمذهب إبراهيم، ومالك بنى على فقه أهل المدينة وكان من أعلم الناس بحديث أهل المدينة وفتاويهم وأقضيتهم، بالإضافة لما استجد في عصرهما من تدوين العلم وكتابته.
ثم جاء بعد ذلك الشافعي فأخذ عن مالك، وأخذ عن محمد بن الحسن وأصحاب أبي حنيفة، فتحصل له علم بالمدرستين، وعن ذلك أصل للفقه أصولا محصلة من استقراء أقوال من تقدمه والقراءة الناقدة لها، فخرج بكتابه الرسالة كمنهج ارتضاه في التفقه والفتيا، وعنه أخذ الإمام أحمد فأضاف إلى دقة فقه الشافعي سعة العلم بالسنة، وعن هؤلاء الأربعة أخذ جمع لا يحصى من أهل العلم وتفرقوا في الآفاق وانتشروا ونشروا أقوال من أخذوا عنهم.
فالمتحصل من هذه القراءة السريعة لتاريخ الفقه الإسلامي أن التمذهب بالقدر المحقق الذي ذكرناه من كونه التزاما لتراتيب علمية وأطر فقهية لم يكن في يوم من الأيام محل إنكار بين متقدمي أهل العلم، وهذا المعنى هو الذي عليه محققوا أتباع الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، أما خروج بعض أتباع الأئمة عن هذا السياق من الفهم لمذهب الأئمة إلى قاصر من الفهم ينحوا بالتمذهب إلى التقليد الصرف فغير مسوغ للقدح في التمذهب جملة وتفصيلا، على أنا نعلم أن الناس ليسوا مرتبة واحدة في العلم، فالعامي الذي فرضه التقليد بخلاف طالب العلم المشتغل به القادر على فهم الأدلة والمقارنة بينها، وهذا المشتغل بالعلم أيضا مقامه دون مقام من حصل آلة الاجتهاد سواء كان مجتهد مذهب، أو مجتهدا مطلقا.
قال الذهبي (سير أعلام النبلاء 18/191-192): «من بلغ رتبة الاجتهاد ويشهد له بذلك عدة من الأئمة لم يسغ له أن يقلد، كما أن الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيرا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدا، فكيف يجتهد، وما الذي يقول، وعلام يبني، وكيف يطير ولما يريش؟
والقسم الثالث الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث، الذي قد حفظ مختصرا في الفروع، وكتابا في قواعد الأصول، وقرأ النحو، وشارك في الفضائل، مع حفظه لكتاب الله، وتشاغله بتفسيره، وقوة مناظرته، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيد، وتأهل للنظر في دلائل الأئمة، فمتى وضح له الحق في مسألة وثبت فيها النص وعمل بها أحد الأئمة الأعلام كأبي حنيفة مثلا، أو كمالك، أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق فليتبع فيها الحق ولا يسلك الرخص وليتورع، ولا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد، فإن خاف ممن يشغب عليه من الفقهاء فليتكتم بها ولا يتراءى بفعلها، فربما أعجبته نفسه وأحب الظهور، فيعاقب ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس ».
وتحت هذا لا بد أن يعرف أن جماهير أهل العلم أطبقوا على أن كلا من الاجتهاد والتقليد جائزان في الجملة وأن كلا منهما مقام فاضل إن كان في موضعه المناسب، قال ابن تيمية (الفتاوى (20/203-204).: « والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟
هذا فيه خلاف والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد».
ومن المعلوم أن المذاهب الأربعة قد قام الإجماع في الجملة على اعتبارها وجواز تقليدها، قال ولي الله الدهلوي (قواعد التحديث للقاسم 1/364): « ومما يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الأفهام وزلت الأقدام وطغت الأقلام منها أن هذه المذاهب الأربعة المدونة المحررة قد اجتمعت الأمة أو من يعتد به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا وفي ذلك من المصالح ما لا يخفي لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جداً وأشربت النفوس الهوى وأعجب كل ذي رأى برأيه».
قال الذهبي (سير أعلام النبلاء 7/116-117): « قال إسحاق بن راهوية: إذا اجتمع الثوري، والأوزاعي، ومالك على أمر فهو سنة.
قلت-القائل هو الذهبي- بل السنة ما سنه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، والإجماع هو ما أجمعت عليه علماء الأمة قديما وحديثا، إجماعا ظنياً أو سكوتياً، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده احتمل له، فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفا للإجماع ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبا، كما نقول اليوم لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها».
ومما يذكر تحت هذا أن جملة ممن له عناية بالعلم من المتأخرين قصد تحت إرادة فاضلة لتعظيم النصوص الشرعية إلى القدح في التمذهب وجعله رديفا للتقليد المذموم، وهذا تأخر ظاهر لعل الموجب له ردة فعل لما شاع في الأمة في بعض أزمنتها من التعصب المذهبي الذي حصل معه قلة اعتبار لمقام النصوص الشرعية، وساعد في ذلك بروز جماعة من اهل العلم والعمل ومن لهم عناية بالسنة في العقود الأخيرة مع حسن نية في ذلك جعلهم محل اقتداء وتأس بين طلبة العلم، ولم يقف الأمر عند ذلك حتى ذهب بعض من اشتغل بالتدريس والتوجيه إلى سوق كثير من الناشئة إلى طرف من التقليد لأعيان من فضلاء أهل العلم على معنى أن أقوال هؤلاء الأعيان هي الحقيقة المتبادرة من النصوص الشرعية التي يوسم الخارج عنها بالخروج عن السنة في بعض المقامات، وهذا منحى من التقليد قد يكون في بعض مفرداته أشد مما سعوا إلى الفرار منه.
وفي الجملة فإن البصير من طلبة العلم ينبغي أن يقصد إلى تحقيق المصطلحات العلمية، والبعد عن التطرف في تفسيرها حتى يحصل له بذلك تصور واضح للحقائق العلمية، والله أعلم.
[/SIZE]
التعديل الأخير بواسطة المشرف: