الصورة الثانية: قتل الحر بالعبد:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن الحر لا يقتل بالعبد مطلقا، سواء كان في ملكه، أو في ملك غيره.
وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
واستدلوا:
أولاً: قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ...} [البقرة/178]
فمفهوم الآية أن الحر لا يقتل بالعبد.
نوقش هذا الاستدلال من وجهين:
أ- بأنه استدلال بالمفهوم، والنصوص الدالة على قتل الحر بالعبد استدلال بالمنطوق مثل قوله تعالى: {النفس بالنفس}
والقاعدة عند الأصوليين أن المنطوق مقدم على المفهوم.
ب- أنه لو صح هذا الاستدلال فإنه يلزم ألا يقتل الذكر بالأنثى ولا العكس، وهو خلاف الإجماع.
ثانياً: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من السنة ألا يقتل حر بعبد"
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد" رواه الدارقطني.
نوقش هذا الاستدلال بما يلي:
بأن هذه الأحاديث ضعيفة لا تنهض للاحتجاج بها، أما حديث علي ففيه جابر الجعفي وهو متروك، وحديث ابن عباس فيه جويبر وغيره من المتروكين، قاله ابن حجر في تلخيص الحبير.
ثالثاً: الإجماع على أن الحر لا يقطع طرفه بطرف العبد مع التساوي في السلامة فيقاس على ذلك قتل النفس.
ويناقش هذا الاستدلال:
بعدم التسليم بصحة الإجماع فقد روي عن ابن أبي ليلى أن القصاص واجب بين الحر والعبد في جميع الجراحات التي نستطيع فيها القصاص.
رابعاً:
أن العبد لا يكافئ الحر فإنه منقوص بالرق، بدليل أن دية الحر كاملة، أما دية العبد ففي قيمته.
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
أ- أن هذا قياس في مقابلة النص فهو فاسد الاعتبار.
ب- أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ومع ذلك فإنه يقتل بها.
القول الثاني:
أن الحر يقتل بالعبد مطلقا سواء كان في ملكه أو ملك غيره، وهذا هو رأي النخعي وداود الظاهري.
استدلوا بما يلي:
أولاً: بعموم النصوص القاضية بأن النفس تقتل بالنفس مطلقا....
نوقش هذا الاستدلال:
بأن هذه النصوص مخصوصة بأدلة الفريق الأول.
ويجاب عن ذلك:
بأن أدلة التخصيص غير ثابتة كما تقدم فيبقى الحكم على عمومه.
ثانياً: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} فأخبر تعالى أنه وجب القصاص لأن فيه حياة لنا، وذلك شامل للحر والعبد لأن صفة أولي الألباب تشملهم جميعا، فإذا كانت العلة موجودة في الجميع لم يجز الاقتصار بحكمها على بعض دون بعض.
ثالثاً: ما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه." رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
نوقش هذا الدليل من وجهين:
1- بأن الحديث ضعيف لأن الحسن لم يسمع من سمرة إلا ثلاثة أحاديث وليس هذا منها، فهو حديث منقطع ومما يؤيد ذلك أن الحسن كان يفتي بخلافه فإنه يقول: "لا يقتل الحر بالعبد".
ويجاب عن هذا:
بأن رواية الحسن عن سمرة مختلف فيها، وقد قال علي بن المديني: إن سماعه منه صحيح، والحديث حسنه الترمذي.
2- قال ابن القيم: إن كان حديث الحسن عن سمرة محفوظا، وقد سمعه الحسن منه كان قتله تعزيرا إلى الإمام بحسب ما يراه من المصلحة.
ويجاب عن ذلك:
بأن هذا خلاف ظاهر الحديث، فإن ظاهره أن قتله قصاص لا تعزير بدليل قوله: "ومن جدع جدعناه"، وزاد النسائي: "ومن خصى عبده خصيناه".
رابعاً: ولأن العبد آدمي معصوم فيقتل بالحر كقتل الحر بالحر.
القول الثالث:
أن السيد لا يقتل بعبده ويقتل الحر بعبد غيره.
وهذا مذهب الأحناف.
واستدلوا على قتل الحر بالعبد بأدلة الفريق الثاني، واستدلوا على استثناء بما في ملكه بما يلي:
1- ما روي عن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقاد المملوك من مولاه، والوالد من ولده". رواه الدارقطني.
ويجاب عن ذلك:
بأنه حديث ضعيف بل منكر فإن في إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر.
2- وعن علي أن رجلا قتل عبدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاما ومحا اسمه من المسلمين ولم يقده به.
ويجاب عنه أيضا:
بأنه حديث ضعيف، قال أحمد: ليس بشيء ، وضعفه أبو حاتم وابن حجر.
3- ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه من المسلمين. وفي رواية : أنهما كان لا يقتلان الحر بالعبد.
والراجح – والله أعلم – أن الحر يقتل بالعبد مطلقا لقوة أدلة الفريق الثاني.