رد: سلسلة دروس في مباحث الحكم الشرعي
[FONT="]الدرس الثاني عشر[/FONT]
التقسيم الثالث للواجب: من حيث تعيين الملزم بفعله
[FONT="]
[/FONT]
[FONT="]
ينقسم الواجب من هذه الحيثية إلى قسمين: واجب على العين، وواجب على الكفاية. [/FONT]
1-
[FONT="]فالواجب على العين:[/FONT][FONT="]
ويسمى الواجب العيني، هو الواجب المتعلق بجميع أفراد المكلفين على وجه لا يتأدى إلا بفعل كل واحد منهم له. [/FONT]
2-
[FONT="]الواجب الكفائي:[/FONT][FONT="]
وهو الواجب المتعلق بجماعة المكلفين على وجه يتأدى فيه بفعل البعض منهم له، لحصول الغرض منه بفعل بعض المكلفين(1)، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم، لعدم حصول الواجب منهم. [/FONT]
[FONT="]معنى هذا التقسيم ومنشأه: [/FONT]
[FONT="]
كل الواجبات التي شرعها الله جل شأنه الحكمة فيها شيئان، هما تربية البشرية جمعاء، وإقامة العدالة بينها، والتربية لا تتحقق إلا بالتزام كل واحد من المكلفين الواجبات التي شرعت له، لأن التربية أمر شخصي ذاتي لا يصلح أن يقوم فيه إنسان مقام آخر، كالقوة البدنية تماما، لا تتم لإنسان إلا إذا قام بالرياضة لها بنفسه، ولا يغني عن ذلك قيام غيره بها مهما كان ذلك الغير. [/FONT]
[FONT="]
أما إقامة العدالة وتأمين المصالح فتتحقق بفعل البعض دون الكل، لأن الغاية منها نوعية وليست شخصية، كالقضاء والجهاد، فإن الغاية منها إقامة العدالة بين الناس وكسر شوكة الأعداء ورد أذاهم. [/FONT]
[FONT="]
لهذا كله انقسمت الواجبات إلى هذين القسمين، فما كان منها متعلقا بجانب التربية اعتبر واجب عين لا يتأدى فيه الواجب إلا بفعل كل إنسان مكلف له، فإذا ما تركه إنسان من المكلفين أثم لوحده، ولم يغن عنه قيام غيره به. [/FONT]
[FONT="]
وما كان منها متعلقا بجانب العدالة ومصلحة المجتمع دون النظر إلى أفراد هذا المجتمع اعتبر واجب كفاية يتأدى فيه الواجب بفعل بعض المكلفين له، ويسقط الوجوب عن الباقين بذلك، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم لفوات المصلحة المترتبة على هذا الوجوب كليا. [/FONT]
[FONT="]
وهذا التقسيم للواجب منطقي وضروري، ومجافاته جور وعبث، ذلك أن مصالح المجتمع كثيرة ومتعددة، لا يستطيع كل مكلف القيام بها جميعا، كالعلم والقضاء والجهاد والمهن كلها.. فإذا ما كان وجوبها عليه عينا كان تكليفا بما لا يطاق، وجورا ينزه التشريع الإسلامي عنه، ثم إن في تكليف المؤمنين جميعا به خروجا عن الحكمة التي يتصف الله سبحانه وتعالى بها، ذلك أن فيه جعل كل الناس علماء بالفقه وبالأصول وبالكيمياء والفيزياء والخياطة والتجارة.. وهو لا شك -على ما فيه من استحالة- عبث من العبث لعدم الحاجة إليه، والعبث لا يليق بأي تشريع فضلا عن التشريع الإسلامي الصادر من حكيم حميد(2). [/FONT]
[FONT="]حكم الواجبين العيني والكفائي: [/FONT]
[FONT="]
اتفق الفقهاء على أن حكم الواجب العيني التزام كل مكلف به وعدم براءة ذمته منه إلا بالأداء شخصيا، وأن الواجب الكفائي حكمه براءة ذمة المكلفين به بفعل جماعة منهم له، على أن الثواب خاص بالجماعة التي قامت به دون غيرها، فإذا تركوه جميعا أثموا كلهم. [/FONT]
[FONT="]محل تعلق الواجب الكفائي: [/FONT]
[FONT="]
واتفق الفقهاء أيضا على أن الواجب العيني متعلق بذمة المكلفين به جميعا، أما الواجب الكفائي فقد اختلف الفقهاء في متعلقة على أربعة مذاهب، هي: [/FONT]
1- [FONT="]
مذهب الجمهور من الفقهاء: وهو أن الخطاب في الواجب الكفائي متعلق بالكل الإفرادي، أي هو متعلق بكل فرد من أفراد المكلفين على حد سواء. [/FONT]
2- [FONT="]
وذهب آخرون: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة المكلفة به، وإليه مال صاحب المحصول. [/FONT]
3- [FONT="]
وذهب آخرون أيضا: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة معلوم عند الله تعالى ولا نعلمه نحن.[/FONT]
4- [FONT="]
وذهبت طائفة من الفقهاء: إلى أن الخطاب متعلق ببعض من الجماعة هم المشاهدون للشيء محل الواجب. [/FONT]
[FONT="]الأدلــــــة: [/FONT][FONT="]استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها: [/FONT]
أ- نصوص كثيرة من القرآن الكريم والسنة الشريقة، منها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)، وقوله صلى الله عليه وسلم[FONT="]
: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وهي كلها جاءت عامة فتشمل كل المكلفين دون التحديد بفئة معينة، ولا مخصص لهذا العموم، فلا يجوز العدول عنه. [/FONT]
[FONT="]
ب - اتفق الفقهاء على أن المكلفين لو تركوا الواجب الكفائي جميعا أثموا كلهم، والإثم دليل الوجوب، فدل ذلك على أن الوجوب متعلق بالجميع(3). [/FONT]
استدل أصحاب المذهب الثاني بأدلة منها[FONT="]: [/FONT]
[FONT="]
أ - بأن الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض بالاتفاق، ولو كان واجبا على الكل لم يسقط بفعل البعض كسائر العبادات، لأن الواجب إذا ما استقر في الذمة لم يسقط إلا بالأداء أو النسخ، ولا نسخ هنا لعدم قيام دليله، أما الأداء فمتفق على إجزاء البعض فيه عن الكل، فكان لا بد من اعتبار الوجوب متعلقا بالبعض فقط، ولما كان لا مرجح لبعض على غيره من أفراد الجماعة اعتبر الواجب متعلقا ببعض منهم. [/FONT]
[FONT="]
ب - اتفق الفقهاء على صحة التكليف ببعض مبهم، وهو مما يسمى بالواجب المخير على ما سيأتي، فكان تكليف بعض مبهم صحيحا قياسا عليه، أي إن أصحاب هذا المذهب قاسوا الإبهام في المكلف على الإبهام في المكلف به، بجامع وجود البعضية والإبهام في كل، ولما كان الأول محل اتفاق على جوازه وصحته، كان الثاني صحيحا قياسا عليه في نظرهم(4). [/FONT]
[FONT="]
ج - بعض الواجبات الكفائية جاءت فيها نصوص توجه الخطاب إلى جماعة مبهمة من المكلفين دون جميع المكلفين، من ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)، فإن الخطاب متجه إلى طائفة فقط دون جميع المؤمنين، ولا فارق معتبرا بين الجهاد والتعليم وغيرهما من الواجبات على الكفاية، فدل ذلك على أن الخطاب في الواجب الكفائي متجه إلى بعض مبهم من المكلفين دون جميعهم قياسا على ذلك. [/FONT]
[FONT="]
د - لو قلنا بتكليف الكل للزم منه العبث، ذلك أن بعض المكلفين إذا أتى بالواجب وزادوا عليه لإثبات أن البعض معين في علم الله، لأن الله عالم بكل شيء، فلا يصح أن يعتبر البعض المتعلق به الخطاب هنا مبهما مجهولا، فاعتبر بعضا معلوما له لذلك. [/FONT]
أما أصحاب المذهب الرابع[FONT="]، [/FONT]
[FONT="]
فقد استدلوا أيضا بما استدل به أصحاب المذهب الثاني، وزادوا عليهم لإثبات أن البعض المخصوص بالخطاب هو من شاهد الفعل الذي تعلق الواجب به دون غيره، أن التكليف لا يصح إلا بما هو مقدور للمكلف، وتكليف الغافل عن الفعل تكليف بما هو غير مقدور، فكان الخطاب متعلقا بمن حضر الفعل أو علم به دون غيره، مثل صلاة الجنازة، فإنها واجبة على من جاور الميت أو علم به دون سائر المكلفين الذين لم يعلموا بذلك. [/FONT]
[FONT="]وقد ناقش الجمهور أدلة القائلين باتجاه الخطاب في الواجب الكفائي إلى بعض المكلفين دون غيرهم بما يأتي: [/FONT]
أ- [FONT="]
ناقشوا الدليل الأول بأنه لا لزوم للنسخ، لأن سقوط الأمر قبل الأداء قد يكون للنسخ وقد يكون لانتفاء علِّية الوجوب، ولا نسخ هنا لحصول المقصود من إيجابه بإتيان واحد به، فيكون السقوط لزوال العلة الداعية إلى الوجوب لا لنسخ الوجوب، مثل الجهاد، علته دفع العدو، فإذا قام جماعة من الناس بدفعه سقط الوجوب عن الباقين لزوال علِّية الوجوب، فلا ضرورة للزوم النسخ هنا(5). [/FONT]
ب-[FONT="]
ونوقش الدليل الثاني بأن القياس باطل لمقابلته النصوص التي تقرر أن الواجب الكفائي واجب على الكل مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، وغيره. ثم هو على التسليم بعدم معارضته النصوص قياس مع الفارق، فإن تأثيم المبهم غير التأثيم بترك المبهم، إذ الأول غير معقول أما الثاني فهو معقول، بل هو محل اتفاق الفقهاء. [/FONT]
[FONT="]
ج- أما الاستدلال ببعض النصوص التي يتوجه فيها الخطاب ظاهرا للبعض، فإنه يجاب عنه بأن الخطاب فيها لم يتجه في الحقيقة إلى البعض، إنما هو متجه للكل حكما ضرورة عدم تعيين هذا البعض، ولكنه يسقط عن الباقين بعد فعل البعض له جمعا بين هذا الدليل والأدلة السابقة عليه التي استدل بها الجمهور لمذهبهم، هذا إلى جانب أن الخطاب لم يتجه أصلا في هذه الآية الكريمة وأمثالها إلى البعض، إنما المقصود منه تحريض المؤمنين على طلب العلم والجهاد بخروج بعضهم له. [/FONT]
[FONT="]
د- أما لزوم العبث فغير وارد أصلا، ذلك أن الأمر مقيد ضمنا بالسقوط عند أداء البعض له، بمعنى أن البعض إذا فعله سقط الوجوب عن الباقين ضرورة سقوط الإثم عنهم، فلم يبق في التكليف به عبث. [/FONT]
[FONT="]
[/FONT]
[FONT="]لهذه الأدلة والمناقشات نرى أن مذهب الجمهور هو الأرجح الأقرب للواقع، وإن كان الخلاف من أصله نظريا أكثر منه عمليا، ولا ينتج عنه إلا بعض الآثار القليلة. [/FONT]
[FONT="]انتقال الواجب الكفائي إلى واجب عيني: [/FONT]
[FONT="]
ينتقل الواجب الكفائي إلى واجب عيني في الحكم إذا ما تعين فرد معين أو جماعة معينة لأدائه دون غيرها، كمهنة الطب مثلا، إذا انحصرت في واحد معين لا يعملها غيره، أو مهنة الفتوى إذا عم الجهل بالأحكام كل الناس إلا فئة قليلة لا تكفي لسد حاجة الناس من بيان الحق لهم في مسائلهم وقضاياهم، فإنه في هذه الحال ينقلب الواجب في حق هذه الجماعة التي انحصر إمكان أداء الواجب بها من واجب كفائي إلى واجب عيني، ولا يسع واحدا منها أن يتأخر عن أداء الواجب، فإذا ما تأخر عنه إثم، ولم يغن عنه قيام غيره به، ما دامت الحاجة لا ترتفع بقيام ذلك الغير. [/FONT]
_________________________
(1)[FONT="]
حاشية السيد على شرح العضد: 1/234.[/FONT]
(2)[FONT="]
فواتح[/FONT]
الرحموت[FONT="]
1/63.[/FONT]
(3)[FONT="]
فواتح[/FONT]
الرحموت [FONT="]
1/63،والعضد 1/234. [/FONT]
(4) انظر فواتح الرحموت [FONT="]
1/64،والعضد 1/234.[/FONT]
(5)[FONT="]
فواتح[/FONT]
الرحموت [FONT="]
1/63.[/FONT]