رد: الندوة (23): ابن تيمية والإجماع!
الحمد لله..
أولاً: شيخ الإسلام يعتبر الإجماع دليلاً شرعياً.
وقد تقدم ما في "الفتاوى الكبرى": "الحمد لله معنى الإجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن كثيرا من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعا، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة" .. إلى آخر ما قال.
ثانياً: شيخ الإسلام ينقم على بعض من يحتج بالإجماع في مسائل لم يتحقق فيها الإجماع ولم يعرف المحتج بالإجماع فيها أقوالَ السلف على سبيل الإحاطة، وإليك -أخي القارئ- هذه النصوص:
يقول رحمه الله تعالى: والإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف، وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف, مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك.
لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا؛ مع علمه بأن الناس قد قالوا خلافه, حتى إن منهم من يعلق القول فيقول: "إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع, وإلا فالقول عندي كذا وكذا".
إلى أن قال: وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم قول أهل العلم الذين أدركهم في بلاده ولا يعلم أقوال جماعات غيرهم, كما تجد كثيرا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين, وكثيرا من المتأخرين لا يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين وما خرج عن ذلك فإنه عنده يخالف الإجماع؛ لأنه لا يعلم به قائلا, وما زال يقرع سمعه خلافه. فهذا لا يمكنه أن يصير إلى حديث يخالف هذا؛ لخوفه أن يكون هذا خلافا للإجماع, أو لاعتقاده أنه مخالف للإجماع, والإجماع أعظم الحجج. وهذا عذر كثير من الناس في كثير مما يتركونه.
وبعضهم معذور فيه حقيقة؛ وبعضهم معذور فيه وليس في الحقيقة بمعذور. وكذلك كثير من الأسباب قبله وبعده. أهـ
وفي "الحسبة": "ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلًا على أنه منسوخ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له، ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذ حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحًا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعًا، ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء. أهـ
وقال في "درء التعارض": ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم، من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعاً، مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعاً، وليس بإجماع، وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات، وهي جهليات، لا سيما مثل الرازي وأمثاله، الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة. أهـ
وقال في مجموع فتاويه (13/25): وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم وسلوك سبيلهم ولا لهم خبرة بأقوالهم وأفعالهم بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف. فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من الإجماع وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف ألبتة أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها فتارة يحكون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف المتأخرين؛ طائفة أو طائفتين أو ثلاث وتارة عرفوا أقوال بعض السلف، والأول كثير في " مسائل أصول الدين وفروعه " كما تجد كتب أهل الكلام مشحونة بذلك يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون ما قال السلف في ذلك البتة؛ بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم كما تجد ذلك في مسائل أقوال الله وأفعاله وصفاته؛ مثل مسألة القرآن والرؤية والقدر وغير ذلك. وهم إذا ذكروا إجماع المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع فإنه لو أمكن العلم بإجماع المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف فكيف إذا كان المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النزاع بخلاف السلف فإنه يمكن العلم بإجماعهم كثيرا. وإذا ذكروا نزاع المتأخرين لم يكن بمجرد ذلك أن يجعل هذه من مسائل الاجتهاد التي يكون كل قول من تلك الأقوال سائغاً لم يخالف إجماعاً؛ لأن كثيراً من أصول المتأخرين محدَث مبتدَع في الإسلام مسبوق بإجماع السلف على خلافه والنزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعا كخلاف الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ممن قد اشتهرت لهم أقوال خالفوا فيها النصوص المستفيضة المعلومة وإجماع الصحابة. بخلاف ما يعرف من نزاع السلف فإنه لا يمكن أن يقال: إنه خلاف الإجماع وإنما يرد بالنص. أهـ إلى آخره