بسم الله الرحمن الرحيم
أحبتي في الله كما وعدتكم هاهو أوان الشروع في استكمال شرح الرحبية ونبتدي الآن بابا هو من أبواب الفرائض العويصة والتي تحتاج إلى تركيز وتصفية ذهن ولهذا قال الرحبي رحمه الله تعالى :-
ونبتدي الآن بما أردنا *** في الجد والإخوة إذ وعدنا
فألق نحو ما أقول السمعا *** واجمع حواشي الكلمات جمعا
وإنما أمر بالاستماع والإصغاء لأنه أمر مهم صعب المرام فقد كان السلف الصالح يتوقون الكلام فيه جدا , فقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : (( من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة )) . والجراثيم جمع جرثومة وهي الحجارة المحماة . نعوذ بالله من عذاب جهنم . وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : (( سلونا عن عضلكم واتركونا من الجد لا حياه الله ولا بياه )) . وعضلكم جمع معضلة وهي المسألة المشكلة الصعبة التي لايهتدي لوجهها إلا عميق الفهم , نسأل الله أن يفهمنا ما دق من العلوم وأن يرزقنا البصيرة والفهم الصحيح . وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولعن من سبه وعاداه وبالشر قذفه ورماه قال : (( احفظوا عني ثلاثة أشياء : لا أقول في الجد شيئا , ولا أقول في الكلالة شيئا , ولا أولي عليكم أحدا )) .
ثم اعلم أيها المبارك أن ميراث الإخوة مع الجد لم يرد فيه شيء من الكتاب ولا من السنة , وإنما ثبت حكم ذلك باجتهاد الصحابة رضي الله تعالى عنهم , فمذهب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولعن من سبه وعاداه وبالشر قذف عرضه ورماه مذهبه هو وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم , ومن تبعهم كأبي حنيفة والمزني وابن سريج وابن اللبان وغيرهم رحمهم الله تعالى : أن الجد كالأب , فيحجب الإخوة مطلقا , وهذا هو المفتى به عند الحنفية , وهذا القول هو الأظهر عند التأمل فتأمل ياطالب العلم .
وأما مذهب الأئمة علي وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم : أنهم يرثون على تفصيل وخلاف , ومذهب الإمام زيد هو مذهب الأئمة الثلاثة ووافقهم على ذلك محمد و أبو يوسف صاحبا أبي حنيفة وهو مذهب الجمهور أيضا رحم الله تعالى سلفنا الصالح وأسكنهم فسيح الجنان وجزاهم عنا خير الجزاء .
ولكن هذا الخلاف إنما كان في زمن المجتهدين , وأما الآن فقد ضبط الحكم واستقر عند علماء الفرائض , لا يزاد فيه ولا ينقص عنه , والله تعالى أعلم .
قال الرحبي رحمه الله تعالى :
واعلم بأن الجد ذو أحوال *** أنبيك عنهن على التوالي
يقاسم الإخوة فيهن إذا *** لم يعد القسم عليه بالأذى
فتارة يأخذ ثلثا كاملا *** إن كان بالقسمة عنه نازلا
إن لم يكن هناك ذو سهام *** فاقنع بإيضاحي عن استفهام
وتارة يأخذ ثلث الباقي *** بعد ذوي الفروض والأرزاق
هذا إذا ما كانت المقاسمه *** تنقصه عن ذاك بالمزاحمه
وتارة يأخذ سدس المال *** وليس عنه نازلا بحال
اعلم أيها المبارك أن لتوريث الإخوة مع الجد عند القائلين به حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون الإخوة أشقاء فقط أو من الأب فقط .
الحالة الثانية : أن يكون الإخوة من الصنفين معا وهي ماتسمى بمسائل المعادة وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى في درس قادم إن كتب الله في العمر بقية .
بيان الحالة الأولى :
أن يكون مع الجد أحد الصنفين من الإخوة , أشقاء فقط , أو لأب فقط , فهنا نفرق في توريثهم بين أمرين :
الأمر الأول : ألا يكون معهم صاحب فرض , فيخير الجد عندها بين الأحظ له من مقاسمة الإخوة , كأنه واحد منهم , فيرثون جميعا بالتعصيب , وإذا وجد معه أخت فاللذكر مثل حظ الأنثيين , أو أخذ ثلث جميع المال إن كان هو الأحظ له , أو يتساوى له الأمران المقاسمة وثلث جميع المال , ولا يخلو ذلك من ثلاث صور :
الصورة الأولى : أن تكون المقاسمة للجد أحظ له من ثلث جميع المال , وضابطها : أن يكون الإخوة أقل من مثلي الجد , فيكونوا مثله , أو مثله ونصف مثله فما دون ذلك , وذلك محصور في خمس صور :
الأولى : أن يجتمع الجد مع أخت , فالمسألة من ثلاثة , حاصل عدد الرؤوس ( الجد برأسين , والأخت برأس واحد , تماما كالأخ مع أخته إذا اجتمعا ) , للأخت الثلث , وللجد الثلثان .
الثانية : أن يجتمع الجد مع أخ واحد , فالمسألة من عدد رؤوسهم : اثنان , للأخ نصفها واحد , وللجد نصفها واحد كما لو اجتمع أخوان شقيقان أو لأب في مسألة واحدة فالمال بين الأخوين الشقيقين أو لأب نصفان يقسم بينهما بالسوية في القسمة العادلة الشرعية .
الثالثة : أن يجتمع الجد مع أختين , فالمسألة من أربعة , للأخوات النصف اثنان , لكل واحدة الربع , وللجد النصف اثنان .
الرابعة : أن يجتمع الجد مع ثلاث أخوات , فالمسألة من خمسة , لكل واحدة منهن الخمس , وللجد خمسان , وهما أكثر من الثلث .
الخامسة : أن يجتمع الجد مع أخ وأخت , فالمسألة من خمسة , للأخ والجد لكل واحد منهما خمسان , وللأخت خمس واحد , فتأمل يارعاك الله .
الصورة الثانية : أن تكون المقاسمة مساوية لثلث جميع المال , فيأخذ الجد بأحدهما , وضابطها : أن يكون الإخوة الذين معه كمثليه , وذلك منحصر في ثلاث صور , وهي :
الأولى : أن يجتمع جد و أخوان , فالمسألة من ثلاثة , لكل منهم الثلث .
الثانية : أن يجتمع جد و أخ و أختان , فالمسألة من ستة , للأختين الثلث , وللأخ الثلث , و للجد الثلث .
الثالثة : أن يجتمع جد و أربع أخوات , فالمسألة من ستة , للجد سهمان , و للأخوات الأربع أربعة أسهم لكل واحدة منهن سهم واحد .
فائدة : يعبر لنصيب الجد بالثلث على الأظهر , لأن الأخذ بالفرض ما أمكن أولى من التعصيب , لقوة الفرض , وتقديم الإرث به على الإرث بالتعصيب .
الصورة الثالثة : أن يكون ثلث جميع المال أحظ للجد من المقاسمة , فيأخذه فرضا . وضابطها : أن يكون الإخوة الذين مع الجد أكثر من مثلي الجد , وليس لهذه الصور حصر , بل تتعدد أمثلتها , وأقلها : جد و أخوان و أخت , أو جد وخمس أخوات , أو جد و أخ و ثلاث أخوات , فما فوق ذلك .
فإذا اجتمع الجد - على سبيل المثال - مع خمس أخوات , فالمسألة من ثلاثة ( مخرج الثلث المفروض للجد ) , للجد الثلث واحد , والباقي سهمان للأخوات , وتصح المسألة من خمسة عشر , للجد منها خمسة أسهم ,
و للأخوات عشرة أسهم .
الأمر الثاني : أن يكون مع الجد و الإخوة صاحب فرض , فيرث الجد في بعض هذه الصور بالتعصيب كأنه واحد من الإخوة , ويتعين نصيبُ الجد الأحظُّ له معهم في هذه الحالة في واحد من سبعة أحوال , وهي :
الحالة الأولى : تعين المقاسمة , لأنها أحظ له من ثلث الباقي ومن سدس جميع المال , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة قدر النصف , و أن يكون مجموع الإخوة الذين مع الجد أقل من مثليه , كمن هلك عن : زوج , وجد , وأخ لغير أم , فيكون نصيبهم كالتالي : للزوج النصف , و يكون أصل المسألة من اثنين ( مخرج فرض الزوج ) له منها سهم واحد ويبقى سهم للجد و الأخ , لا يمكن أن ينقسم عليهما قسمة صحيحة , فتصح المسألة من أربعة , يكون للزوج بعد التصحيح سهمان , وللجد و الأخ لكل واحد منهما سهم واحد .
الحالة الثانية : تعين ثلث الباقي , لأنه أحظ له من المقاسمة ومن سدس جميع المال , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة أقل من النصف , و الإخوة الذين مع الجد أكثر من مثليه , كمن هلك عن : أم , وجد , وخمسة إخوة لغير أم , فيكون نصيبهم على النحو التالي :
للأم السدس , و يكون أصل المسألة من ستة ( مخرج فرض الأم ) , للأم منها سهم واحد , وتبقى خمسة أسهم ليس لها ثلث صحيح , فنأخذ مخرج الثلث ثلاثة , ونضربه في أصل المسألة , فتصح من ثمانية عشر , للأم منها ثلاثة أسهم , و للجد خمسة أسهم ( ثلث الباقي ) , وتبقى عشرة أسهم تقسم بين الإخوة بالسوية لكل واحد منهم سهمان .
الحالة الثالثة : تعين سدس المال , لأنه أحظ له من المقاسمة ومن ثلث الباقي , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة قدر الثلثين والإخوة الذين مع الجد أكثر من مثله بواحد ولو كان أنثى , كمن هلكت عن : زوج , وأم , وجد , وأخوين لغير أم , فيكون نصيب كل منهم كالآت :
أصل المسألة من ستة
للأم السدس سهم واحد
للزوج النصف ثلاثة أسهم
للجد السدس سهم واحد
للأخوين لغير أم سهم واحد
تصح المسألة من اثني عشر بعد ضرب عدد رؤوس الأخوين في أصل المسألة لأن بين عدد رؤوسهما وسهامهما تباينا فأخذنا كامل عدد رؤوسهما وضربناه في أصل المسألة فصحت من اثني عشر :
للأم منها سهمان
للزوج ستة أسهم
للجد سهمان
للأخوين لغير أم لكل واحد منهما سهم واحد
ومباحث الانكسار تشرح في بابها - إن شاء الله تعالى - .
الحالة الرابعة : أن تستوي له المقاسمة وثلث الباقي ويكونان أحظ له من السدس فيعطى أيهما , على أن التعبير له بالثلث أولى , لأنه فرض , وهو مقدم على التعصيب , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة أقل من النصف والإخوة الذين مع الجد مثليه , كمن هلك عن : أم , وجد , وأخوين لغير أم فيكون لكل منهم مايلي :
أصل المسألة من ستة وتصح من ثمانية عشر
للأم بعد التصحيح ثلاثة أسهم من ثمانية عشر
للجد خمسة أسهم وهو ثلث الباقي
للأخوين لغير أم لكل واحد منهما خمسة أسهم
لو تأملت المسألة جيدا أخي المبارك لو وجدت أن الجد هنا قد استوى له أمران : المقاسمة وثلث الباقي , فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه .
الحالة الخامسة : أن تستوي له المقاسمة وسدس جميع المال ويكونان أحظ له من ثلث الباقي , فيعطى أيهما , على أن التعبير له بالسدس أولى , لأنه فرض , وهو مقدم على التعصيب , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة قدر الثلثين والإخوة الذين مع الجد مثله , كمن هلكت عن : زوج , وجدة , وجد , وأخ ش , فيكون لكل منهم ما يلي :
أصل المسألة من ستة
للزوج منها ثلاثة أسهم
للجدة سهم واحد
للجد سهم واحد
للأخ ش سهم واحد
لاحظ أخي جيدا أن الجد في المسألة : إن أخذ السدس فهو واحد من ستة أسهم , وإن قاسم الأخ فالباقي بعدالفروض اثنان , له سهم وللأخ سهم مثله , فيستويان له , فتأمل والله يوفقك لكل خير .
الحالة السادسة : أن يستوي له سدس المال وثلث الباقي ويكونان أحظ له من المقاسمة , فيعطى أيهما , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة قدر النصف والإخوة الذين مع الجد أكثر من مثليه , كمن هلكت عن : زوج , وجد , وثلاثة إخوة لغير أم , فيكون نصيبهم كما يلي :
أصل المسألة من اثنين مخرج فرض الزوج وتصح إما من اثني عشر إن أخذت بالسدس وإما من ستة إن أخذت بثلث الباقي ولك الخيار أخي الحبيب :
للزوج إما سنة أسهم إن جعلتها تصح من اثني عشر باعتبارك أخذت بالسدس وإما ثلاثة أسهم باعتبارك أخذت بثلث الباقي , فتأمل !
للجد إما سهمان وإما سهم واحد وفي كلا الحالين هما سدس جميع المال وثلث الباقي في آن واحد , فافطن لهذه النكتة ! والله يرشدك .
للإخوة الثلاثة إما أربعة أسهم وإما سهمان فكلا الحالين لا تنقسم عليهما فنأخذ كامل عدد رؤوسهما في الكلا الحالين لأنه في كلا الحالين يكون بين عدد رؤوسهم وسهامهم تباين فتصح المسألة إما من ستة وثلاثين وإما من ثمانية عشر فإن اعتبرت السدس صحت من الأول لأنك ستضرب الثلاثة في اثني عشر وإن اعتبرت ثلث الباقي صحت من الثاني لأنك ستضرب ثلاثة في ستة , وأترك لك القسمة بعد التصحيح فهي واضحة وجلية والله يتولاك ويرعاك .
الحالة السابعة وهي الأخيرة :
أن يستوي للجد الجميع إما المقاسمة أو سدس جميع المال أو ثلث الباقي , فيعطى أيهما , وضابطها : أن يكون الفرض الذي في المسألة قدر النصف والإخوة الذين مع الجد مثليه , كمن هلكت عن : زوج , وجد , وأخوين لغير أم , فيكون نصيبهم كما يلي :
أصل المسألة من اثنين وتصح من ستة إن اعتبرت المقاسمة أو ثلث الباقي ومن ستة إن اعتبرت السدس وفي كلا الأمرين ستجد أن الثلاثة تستوي للجد أعني : المقاسمة وثلث الباقي وسدس جميع المال , وأترك لك القسمة فقد بات الأمر واضحا لك أخي المبارك فاستعن بالله ولا تعجز وثق بخالقك ومولاك سبحانه وتعالى تصل إلى المقصود .
والله تعالى أعلى وأحكم وبالصواب أعلم .
أكتفي بهذا القدر وأسأل الله تعالى أن يعينني في وقت لا حق على إكمال ما تبقى من هذا الباب العويص اليسير على من يسره الله تعالى عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لا زلتم مباركين يا أعضاء الملتقى .