الحمد لله وحده ،
في الكلام السابق تخليط كثير ناتج عن خفة في ضبط بعض مسائل الأصلين ـ أصول الدين وأصول الفقه ـ وآسف على غلظة اللفظ وأكن لك كل تقدير واحترام ، أقول مستعينا بالله :
بارك الله فيك ... مع أنّي لا أرى أنّ الاقتداء بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صوم يوم المولد تحديدًا يصحّ أن يُطلق عليه لفظ البدعة... أو أن يُقال إن الفاعل يأثم في حالةٍ ...
وهذا غلط
لغة وشرعا و
حالا ، وإليك بيانه :
أ ـ لغة : يلزم من الاقتداء اللغوي المتابعة في الهيئة والمقدار والصفة وكل ما من شأنه حصول المماثلة ما أمكن ، والاحتفال بالمولد الحالي لا يمكن أن يقاس أبدا على صومه يوم الإثنين ـ الذي أشرت إليه في كلامك هنا ـ أما في الهيئة فإن النبي كان يصومه ، والمحتفلون اليوم نشاطاتهم في الاحتفال أعم من ذلك بكثير فحاصله أن الدليل أخص من الدعوى ، وهو من قوادح الاستدلال كما هو مقرر عند الأصوليين ، وأما المقدار فإن الرسول كان يصومه أسبوعيا ، واصحابكم جعلوه حوليا ، وأما الصفة فإنه كان يصوم الإثنين ، ومولدكم هذا العام جمعة ـ ابتسامة ـ
** على الهامش : هل تعلمون على كم قول اختلف المؤرخون و أهل السير في يوم مولده متى كان ؟
وهل تعلمون أنهم اتفقوا أنه الإثنين ؟
فخالفتموهم من الجهتين ، الأولى رجحتم يوما بلا مرجح والثانية لا تلتزمون فيه بيوم الإثنين !!!!
ب ـ شرعا : فكثير من حاصله مشترك مع اللغوي فوق وهو أن الدليل الذي ألمحتم إليه أخص من الدعوى ، من حيث هيئة الاحتفال و مقداره وصفته ، فما وجه ملائمة الدليل لمدلوله ؟ إلا الهوى !
ج ـ حالا : أن جل المحتفلين بالمولد ـ إلا من رحم الله ـ إما يحتفلون بالسماع المحرم أو التبرج والسفور والاختلاط الممنوع ، أو البطالة والعطالة ، أو الإسراف في المأكولات وكسر قلوب الفقراء .
وأقول في ذلك الصدد أن في صنيع الفقهاء لاسيما المالكية والشافعية أيضا ما يكفل ـ وبكل سهولة ـ تحريم ذلك الاحتفال سدا للذريعة ، ولو كن مشروعا بالأساس ، تصور !
فإن قلت منهم من يحتفل بالاجتماع للخير و تذاكر أيامه عليه الصلاة والسلام ، قلت هذا ليس الغالب واقعا ، ومنكر ذلك يجحد الحسيات ، بل لو افترضنا أنهم ليسوا أقل ، بل مساوين ، فإنه إن تساوت المصلحة والمفسدة فإن المفسدة تغلب عند الجمهور !
وبذلك بان اطراد كلامنا في إطلاق وصف البدعية على صائم المولد بضابط اعتباره قربة خاصة كما بينت في جوابي على مسألة النذر المطروحة ، وأن كلامكم لا يسلم .
فالفاعل إذًا يُثاب دائمًا بفعله ... ويأثم على البدعة (من وجهة نظركم) فيما لو كان متأهّلاً للنظر مفرّطًا فيه ...
وفيما سوى ذلك يُثاب ... فيُثاب العاميُّ المقلّد ... ويُثاب المجتهد الذي بذل وسعه ...
وهنا خلط في مسألة البدعة ومدي انفكاكها أو اتحادها بالاثم ، وهذا يدخل عند أهل العلم في ( الأسماء والأحكام ) :
1 ـ منشأ الوهم ظن أن البدعة تجامع الإثم ضرورة ،وهذا غلط ، بل قد تتحد الجهة بين البدعة والإثم وقد تنفك بل إن وصف البدعة مجردا لا يقتضي التأثيم ،، بضوابط ألمحت إلى شيء منها في إجابتي قبلا ، وتفصيلها ليس هذا مكانه .ــ بل لشيخ الإسلام كلام مشهور تكلم فيه عن البغاة وهم مبتدعة ، قال فيها أن وصفهم بالبغي لا يقتضي الفسق ولا حتى التأثيم!!
2 ـ قولكم أن الفاعل دائما يثاب بفعله ـ على ما فيه من تهوين المسألة ـ غير محرر أيضا ، لما يلي :
أ ـ الصورة المسئول عنها هنا كانت في بدعة إضافية لا تبطل أصل العمل ، لذا ثبت لأصل العمل الثواب إن صح أداؤه ، وهذا ليس مطردا في كل البدع كما نبهت ، إذ منها منا يخرج من الدين ، ومنها ما يبطل العمل ، ومنا لا يبطله .
ب ـ أما المقلد فخارج محل النزاع أصلا ، وإنما ذكرته تتمة القسمة ، و وجه خروجه من المحل أنه ليس مكلفا بالنظر أصلا إذ لا يستطيعه ، ودين الله في حقه هو قول من يقلده ، بل لو أفتاه مفت بمحرم عند الله ، فأتاه فإنه يثاب ، ولو خالف ذلك المحرم فأصاب المباح عند الله بهواه مخالفا المفتي مفرطا فإنه يأثم ، فهل يمكن لمخالفك أن يستدل عليك بالمقلد الذي يقلد مفتيه في الحرام أنه إذا كان مثابا على فعله المحرم فهذا يدل على جواز فعله في نفس الأمر ؟!!!
ج ـ أن قولي على المقلد إنه يثاب بفعله ليس على عمومه ـ كما يفهمه من نظر لكلامي ـ إذ يخرج بدلالة سابقه ولاحقه من أتي محرما في المولد فعلا !! ، من يأكل النار ويرقص ويسمع مزامير الشيطان ، و يخالط النسوة ، هذا فعله محرم أصلا ، ولا يقره عالم ، فذلك خارج من قولي ضرورة . ــ وأعلم أنك تلتزم هذا أيضا لكن قولك هو مثاب على كل حال قد يشعر بخلاف هذا عند القارئ .
وإنما يثاب فقط إن لم يفعل محرما في احتفاله ، وكان مقلدا لمن يثق بدينه وعلمه ، وكان حسن النية في ذلك لا مترخصا ، وذلك كلام الشيخ في ( الاقتضاء ) .مع ملاحظة النقطة (و) و ( ز) هاهنا فهي مؤثرة على المقلد من جهة أخرى أيضا .
د ـ أما قولي على المجتهد الذي يبذل الوسع مع حسن النية إنه يثاب ، فنعم وألتزمه ، وتلك سعة رب العالمين ، أن من اجتهد وهو متأهل بشرطي حسن القصد وبذل الجهد أنه يثاب أجرين إن أصاب ، واجرا واحدا إن أخطأ ، وما يعتريه من الهوي فإن الله يحاسبه عليه بعدله أو فضله ، فينقص من الأجر الواحد أو لا ، والله هو البر الرحيم ولا أحد أحب إليه العذر منه عز شأنه .
وذلك قرره شيخ افسلام في أكثر من موضع في مجموع الفتاوي وغيرها .
ه ـ أما المجتهد المفرط في بلوغ الحق لهوى أو عدم بذل وسع فهو مأزور باجتهاده أصاب فيه أو أخطأ .
و ـ القول بالإثابة بمجرد الفعل الذي هو الصوم لا ينفي تلبسه بالبدعة ، والبدعة يبغضها الله ، ويحب المشروع المسنون ، فقولك أنه يثاب في كل حال في الحقيقة خارج محل النزاع ! ، لأن محل النزاع ليس الإثابة من عدمها على ما قررناه أنه تتحد وتنفك عن البدعة ، إنما محل النزاع تحري الحق الذي عند الله وابتغاء وجهه ومرضاته فيه ، وإلا فإن المخالفين في قنوت الصبح يصرحون ببدعيته ، ومخالفوهم يقولون بمشروعيته بله سنيته ، وقال النخعي عن الجهر بالبسملة إنه بدعة وهو قول الشافعي !! والجميع لا ينازع أن فاعلها مجتهد معتقد مشروعتيها يثاب على هذا ، ولم يرفع ذلك خلافا في تلك المسائل ، فظهر الفرق بين صنيع العلماء وصنيعكم هنا في التعقيب على هذه الفقرة .
ز ـ قد يقال أن تلبس البدعة له إثمه على المفرط ـ مقلدا ومجتهدا على ما تقرر ـ فذلك الإثم ينقص من أجر أصل العبادة ، ففاعل العبادة من غير تلبس ببدعة يسلم له الأجر ـ بحسب عبادته ـ من غير وزر البدعة ، فيتخرج على ذلك أن صائم أي يوم ـ بما فيها يوم المولد اتفاقا لا بنية ، مخصوصة ـ قد يتحصل له من الثواب أكثر من صائم المولد لتلبسه بالبدعة بالاعتبار الذي ذكرته ، ودليل ذلك قول ابن مسعود في الأثر المعروف ( فعدوا سيئاتكم مع حسناتكم إذن ).
ح ـ وقد يقال ايضا أن من ترك صوم ذلك اليوم خصيصا لئلا يوافق بدعة ويخالف المبتدعة أنه له بتركه ـ والترك فعل ـ أكثر من أجر الصائم فيه خصيصا ، للتفصيل الذي ذكرته في النقطة التي قبلها .
إذا نظرت فيما سبق كله بان لك أن ما قلتموه كان تسطيحا للخلاف في البدعة ( طالما كله حيثاب وخلاص إلا صورة واحدة فمفيش مشكلة !!! ) ويبين لك أيضا إنصافنا ، وإنصاف علمائنا ، ومنهم شيخ الإسلام وعالم الدنيا أحمد بن تيمية ، إذ ليس غالب همهم تأثيم جمهور المسلمين كما زعمت ، بل للإعذار و الرحمة والرفق بالخلق عندهم متسع ، مع عدم التفريط في شرع الله وتخليصه من البدع ، ومن طالع كلام الشيخ عن المولد وإنصافه فيه بان له هذا .
ونقول: (الاحتفالُ) عادةٌ وليست عبادة مستقلّة ... فلا يُقصد بمجرّد الاحتفال التقرّب إلى الله تعالى.
دونكم خرط القتاد في هذه !!
ولا أدري كيف ولماذا قلتها ـ وفقني الله وإياك للخير ـ .
أرجو المعذرة من إطالتي ، ولا أحب في النقاشات أن أقوم معلما أو أتشبه بهذا المقام ، لكن في الكلام الذي أوردتموه خلط كثير فوجب تفصيله ، إذ ظننت أول الأمر أن كلامي واضح ميسور ، فخاب ظني .
والله أعلى وأعلم ورد العلم إليه أسلم .