قد قلت سابقا إن عمر لم يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة, ونقلت كلام العلماء وكيف فهموا كلامه, وأمارة ذلك أن ما سماه بدعة هو في الواقع سنة مشروعة كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقف صورة الاجتماع عليها احترازا من أن تفرض عليهم كما قال هو عليه الصلاة والسلام..ونذكر إن شاء الله ما يستفاد من هذا مما يخص بحثنا:0
1-لما زال المانع المقتضي لإيقاف الاجتماع, كان من فقه عمر أن أحيى صورتها الأولى بالصلاة خلف إمام واحد, فعمر إذن سمى ما هو سنة شرعاً: بدعةً ,ومن هنا قال أهل العلم إن مراده البدعة اللغوية لأنها في المعنى اللغوي تحتمل هذا المعنى, بدليل أن العرب تقول :أبدعت الإبل ,,إذا أحدثت بروكاً من بعد طول سير ,وهذا السير كانت قبله جالسة أيضا, ولم تخلق سائرة من يومها الأول ,فكل ما أحدث باعتبار نسبي شمله اسم الابتداع لغة
وإنما يصح أن تنسب هذا لعمر إذا كان ما فعله بدعة شرعاً فاستحسنها عن رأي مع كونها منسوبة للدين أو التعبد, ولتقريب الصورة :هب أن أباً قال لبعض ولده من طلبة العلم :شراء الكتب ممنوعٌ لأني أخشى أن نفلس وبيتنا صغير لايسعها, فلما توفي الأب وتوسع الأولاد في البيت وصار عندهم فضل مال,اشترى أحد الأبناء الكتب ثم قال :نِعمَ الممنوع هذا..فهل يصح بالله عليك أن يستنبط أحد ويقول:إن أبانا الذي نص على المنع يقسم الممنوعات إلى حسنة وقبيحة؟ أم يقال :إن الاب كان يمنع من شرائها لقيام مقتضى معين فلما انتفى انتفى المنع؟..أترك الجواب لكل عاقل يفهم الكلام العربي
والحاصل أن هذه الأحدوثة العمرية هي من جنس المسائل التي ثبتت أصالة من جهة الشرع ولكن قام مقتضٍ لعدم العمل بها في زمن معين فحين يزول المقتضي يُرجع بها إلى أصلها ,
2- والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" ليقطع الطريق على من أساء فهم سننهم وحملَها على الابتداع في الدين وأن هذا الابتداع منه ماهو مشروع ومنه ما باطل بزعمهم, فيقال لهؤلاء :حتى لو سلمنا جدلا بأن عمر ابتدع هذه البدعة في الإسلام, فإنه لم يكن في سنته هذا عرياً عن الإقرار النبوي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وهو ثانيهم, فلا يقاس عليه غيره
3- وهذا المقتضى الذي قام في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خشيته أن تفرض على الأمة كما في البخاري "ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" فإذا كان الرسول خشي أن يفرض الله -تقدس اسمه- على الأمة شيئا مشروعاً في الأصل, وهو سبحانه وتعالى له الحُكم المطلق"ولايشرك في حكمه أحدا"لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه,أفلا يكون من باب أولى أن يخشى ورثة هذا النبي ائتساءً به أن ينُسب للدين ماليس منه بسبب كونه مفضياً إلى معنى الابتداع بوجه من الوجوه وإن لم يكن في نفسه بدعة من حيث الأصل, فيحكموا ببدعية الأمر إن كان ذريعة إلى البدعة؟فضلا عن أن يكون هو في نفسه بدعة,؟
4-بقي أن يقال إنه مما يستفاد من هذا الحديث إضافة لماسبق,أن العمل التعبدي المشروع إذا احتف به ما قد يؤدي إلى يعتقد فيه الناس الاستحباب وهو مباح أو يعتقدوا الوجوب وهو سنة, أو يظنوه بصفة مخصوصة وقد ورد في الشرع مطلقا..إلى آخر ما يندرج تحت هذا المعنى
فإنه يصير بذلك حاملا لمعنى الابتداع بقدر ما تكون فيه مادة هذا الظن
وذلك كأن يلتزم شيخ قراءة سورة الإسراء في الفجر كل يوم إثنين مثلاً
وقس عليه..
يتبع بحول الله تعالى..