العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

إنضم
21 أغسطس 2009
المشاركات
213
التخصص
طويلب علم مبتديء
المدينة
الثغر الإسكندري
المذهب الفقهي
شافعي
هل صح الإجماع الذي نقله ابن حزم على وجوب إعفاء اللحية ؟
وهل الخلاف في حكمها مما يسوغ ؟
progress.gif
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

أخي "أبو بكر" جزاك الله خيرا، يبدو أنه التبس عليك الفرق بين تعليل الحكم بعلتين مستقلتين وبين تعليله بعلة مركبة من وصفين. فَما عُلِّل بعلتين يطَّرد مع علله ولكنه لا ينعكس مع إحداهما. بعبارة أخرى: يدور الحكم مع إحدى العلتين وجودا ولا يدور معها عدما، لأنها إن زالت بقيت العلة الأخرى فيثبت الحكم بها.
ومثال ذلك: تعليل الأمر بإعفاء اللحية بكونه مخالفة للمشركين (علة أولى) وبكونه من خصال الفطرة (علة ثانية). فالحكم يدور مع العلة الأولى وجودا أي أنه يثبت حكم الأمر (الوجوب أو الاستحباب) حيث وجد فعل الحلق والقص من المشركين. وإذا افترضنا أن هذا الفعل من المشركين لم يعد موجودا لا يرتفع حكم الإعفاء، لأنه يثبت بالعلة الثانية وهي أن الإعفاء من خصال الفطرة بغض النظر عن موافقة المشركين أو مخالفتهم.
مثال آخر لتعليل الحكم بعلة مركبة من وصفين: تعليل وجوب القتل قصاصا بالأوصاف: القتل والعمدية والعدوان، فإذا وجد أحد هذه الأوصاف (=بعض العلة) دون الوصفين الآخرين لا يثبت معه حكم القتل قصاصا، كمن قتل بلا قصد ( انتفى وصف العمدية)، أو قتل دفاعا عن النفس (انتفى وصف العدوان)، أو حاول القتل فلم ينجح (انتفى وصف القتل). فالحكم المناط بعلة مركبة من أوصاف لا يثبت إلا إذا وجدت جميع هذه الأوصاف وينتفي بانتفاء أحدها، بخلاف ما لو كان كل وصف من هذه الأوصاف علة مستقلة. وما أوردتموه نقلا عن الأصوليين فهو دليل على هذا المعنى بارك الله فيكم. فقول البزدوي "إن بعض العلة لا يخلف جميعها في إثبات الحكم" معناه أن الحكم لا يدور مع بعض العلة، لأن بعضها لا يسد مسد جميعها. وهذا كما لو قتل دون قصد أو دون عدوان لا يدور معه حكم القصاص. وكذا قول الشيرازي،: وَمَتى تعلق الحكم بوصفين كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بعض الْعلَّة، فَلَا يجوز تعلق الحكم على أَحدهمَا على الِانْفِرَاد. أهـ فهو واضح جدا في أن الحكم لا يتعلق وجودا وعدما بجزء العلة منفردا عن جزئه الآخر بلا لا بد من وجودهما معا كما سبق شرحه.

والحاصل هنا أن ابن تيمية رحمه الله تعالى وضع ثلاثة احتمالات لكون "مخالفة المشركين" علة للأمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشوارب:
أحدها: أن تكون علة تامَّة. أي وحيدة لا تصاحبها أخرى في اقتضاء الحكم (اشتراكا أو استقلالا)، وهو ما قال: إنه الأظهر (بسبب التصريح بها في النص).
والثاني: أن تكون علة أخرى. أي أن هناك علة غيرها للأمر بالإعفاء، والمخالفة علة أخرى تضاف إلى تلك العلة. وهو ما أميل إليه، والعلة الأخرى هي كون اللحية من خصال الفطرة (إن صح ذلك).
والثالث: أن تكون المخالفة جزء من علة مركبة من وصفين أو أكثر، كأن تكون العلة هي مجموع وصفين: أحدهما أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة والثاني أن فيه مخالفة للمشركين.
وإياك فضيلة الدكتور
لكن أين هو الالتباس عندي؟!! لم أرَ شيئاً من ذلك، فكل ما ذكرتموه هنا لا أرى أنه يخالف ما ذكرتُ.


وما مِلتُ إليه من أنها ليست علة تامة،
قلتم في مشاركة قبلها إنها علة تامة!!
وعلى كل حال؛ فالخطب في هذا يسير؛ لأنه لا يترتب على ذلك -من وجهة نظري- كبير أثر في قضية سواغ الخلاف في المسألة.


ومن الغريب أنكم لحظتم، بارك الله فيكم، بأن تكفير مخالف حكم هذا الإجماع إنما هو لدليل خارجي لا لمجرد كونه إجماعا سكوتيا، ثم لم تلحظوا أن قطعية حكم هذه الإجماع جاءت كذلك من دليل خارجي لا لمجرد كونه إجماعا سكوتيا؟!
القطعية مبنية على استقراء الأقوال، واستقراء الأقوال عمل المجتهد ولا يسمى دليلاً خارجياً.. فإذا ثبت لدى المجتهد أن الإجماع السكوتي متحقق صار قطعياً ولزمه الخضوع لحكم ذلك الإجماع.

أما كون الاستقراء التام في الإجماع متعذرا فنوافقكم عليه، ولذلك قلنا هو ظني عند من يقول بحجيته. ونحن لا نشترطه إلا لإرادة القطع أما في إفادة الظن فالاستقراء الناقص يفيد الظن.
وكل من خالف من الأصوليين في حجية الإجماع السكوتي، وهم كثيرون، قائل، من حيث المحصلة، بعدم حجية الإجماع جملة، لأنه على التحقيق لا إجماع يُتصور نقله إلا السكوتي. وما أجمع عليه وفيه نص قطعي فالنص مغن عنه.
ها هو قد آلَ قولكم إلى ما يشبه إنكار حجية الإجماع، أو التردد في حجيته، وهذا القول من الشذوذ بمكان كما لا يخفاكم.
وهذا دليل على خلل في تأصيلكم الذي أصلتموه أولاً في الباب.


لم أعلمه فإذا وقفتم على مثال منه فأخبرونا مأجورين
الإمام الشافعي ذكر إجماعات يبعد أن تكون من الإجماع التصريحي، فكانت من السكوتي يقيناً، وهي كثيرة لا تخفى.
ومن ذلك ما في "الأم": (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) :
لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَإِذَا قَضَى فِي الْمَرْأَةِ بِدِيَةٍ فَهِيَ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَإِذَا قُتِلَتْ عَمْدًا فَاخْتَارَ أَهْلُهَا دِيَتَهَا فَدِيَتُهَا خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ أَسْنَانُهَا أَسْنَانُ دِيَةِ عَمْدٍ وَسَوَاءٌ قَتَلَهَا رَجُلٌ أَوْ نَفَرٌ أَوْ امْرَأَةٌ لَا يُزَادُ فِي دِيَتِهَا عَلَى خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ وَجِرَاحُ الْمَرْأَةِ فِي دِيَتِهَا كَجِرَاحِ الرَّجُلِ فِي دِيَتِهِ لَا تَخْتَلِفُ، فَفِي مُوضِحَتِهَا نِصْفُ مَا فِي مُوضِحَةِ الرَّجُلِ وَفِي جَمِيعِ جِرَاحِهَا بِهَذَا الْحِسَابِ،
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ سِوَى مَا وَصَفْت مِنْ الْإِجْمَاعِ أَمْرٌ مُتَقَدِّمٌ؟ فَنَعَمْ أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعَطَاءٍ قَالُوا أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى أَنَّ «دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَقَوَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تِلْكَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِي أَصَابَهَا مِنْ الْأَعْرَابِ فَدِيَتُهَا خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَدِيَةُ الْأَعْرَابِيَّةِ إذَا أَصَابَهَا الْأَعْرَابِيُّ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَوْطَأَ امْرَأَةً بِمَكَّةَ فَقَضَى فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَثُلُثٍ.(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : ذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى التَّغْلِيظِ لِقَتْلِهَا فِي الْحَرَمِ. أهـ


أما الإعفاء، فقد خالف فيه كثيرون فكانوا يأخذون من لحاهم ويقصونها
هذه معضِلة.. كيف يمكن القول بأن كثيراً من الصحابة خالف الأمر؟! حتى لو قلنا بالندب؛ فهذا غير متصور من جمهورهم رضي الله عنهم.

ليست ممجوجة بالأخذ في الحسبان أنهم خالفوا الظاهر من النص لأنهم فهموا الأمر معللا بمجرد مخالفة المشركين، كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: «لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ لِحْيَتِهِ، مَا لَمْ يَتَشَبَّهُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ». وقَالَ فِي الشَّارِبَيْنِ: «إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهُ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ». وقال الطبري: "وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش وعن عطاء نحوه قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها".
وأمثلة مخالفة الصحابة لظواهر النصوص بالتعليل أكثر من أن تحصى
قلت:
1- إن كانت المخالفة بهذا الشيوع والانتشار والظهور فهي غير متصورة، ولست أقصد مخالفة الواحد والاثنين والثلاثة.
2- أثر إبراهيم لا يثبت، وأعجب لإنكاركم على من يورد آثاراً لا تصح من أهل الحديث ثم أنتم توردونها، وعلى فرض صحته ففيه ما قلنا من جواز الأخذ وأنه لا يعارض الأمر بالإعفاء.


المعنى الذي ذكرتموه بارك الله فيكم هو على الاستثناء المتصل أيضا، لأن المنفصل هو ما لا يكون المستثنى جزءاً من المستثنى منه.
ذكرتُ وجهاً للاتصال وآخر للانقطاع. فلا يلزم من ذلك أن يفسِد هذا الوجهُ -إن لم يتجه- ذلك الوجهَ.
ثم إن المقصود هنا أنه في معنى الاستثناء المنقطع وهو ما كانت "إلا" فيه بمعنى: "لكنْ" وذلك للاستدراك ودفع التوهم، ومن ذلك قول الله تعالى: { ما أنزَلنا عليك القرآنَ لِتشقى، إلا تَذكرَةً لِمن يخشى } أي: لكنْ أنزلناه تذكرةً لمن يخشى. ولعل الأمثلة التي وضعتُها مع تنصيص عدد من العلماء على كونها من المنقطع تغني عن إطالة الخوض في مثل ذلك.
 
التعديل الأخير:

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

لكن أين هو الالتباس عندي؟!! لم أرَ شيئاً من ذلك، فكل ما ذكرتموه هنا لا أرى أنه يخالف ما ذكرتُ.
ألم تقل: بارك الله فيك:
قلت: وهذا هنا فيما أعتقد بعضُ علة، وفي هذا التعليل بمخالفتهم تنفيرٌ بليغٌ من مخالفة الأمر بإعفاء اللحية. والله أعلم.
ثم لما لم يعجبك قولنا بأن الحكم يزول بزوال جزء علته قلت مستنكرا مُتعجِّبا:
بيِّن لنا -أثابك الله- كيف للحكم أن يزول بزوال جزء العلة؟!
فهذا ظاهر بارك الله فيكم أنكم تخلطون بين تعليل الحكم الواحد بعلتين وبين تعليله بعلة مركبة من وصفين وهو ما قصدته بالالتباس الذي دخل عليكم. وأعتذر إن كنت مخطئا في فهم كلامكم. المهم الآن ماذا تقولون في المخالفة للمشركين هل هي بعض علة أو علة تامة أو علة أخرى؟ ولماذا؟
قلتم في مشاركة قبلها إنها علة تامة!!
أرجو التدقيق في الكلام، فإني لم أقل ذلك بل قلت بالضبط:
الظاهر أنه علة تامة كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد يُضاف إلى هذه العلة أيضا بأن ذلك من خصال الفطرة وسنن الأنبياء، فإذا زالت علة المخالفة لسبب ما فيثبت الحكم بالعلة الأخرى. وهذا أولى من جعل المخالفة جزء علة لأن الحكم يزول بزوال العلة أو جزئها.
والمقصود أن الظاهر ـ أي بحسب النص الوارد ـ أنه علة تامة، ولكني رجَّحت وجود علة أخرى وإن كان ذلك مخالفا لهذا الظاهر للأسباب التي ذكرتُها. ففرقٌ بين ما فهمتَه شيخي الكريم وما أردتُّه من الكلام. ولا أدري ما الذي جر إلى سوء الفهم هذا هل هو كلامي غير الواضح أو تعجلكم في الرد من غير تدبر للقول أو هما معا؟
القطعية مبنية على استقراء الأقوال، واستقراء الأقوال عمل المجتهد ولا يسمى دليلاً خارجياً.. فإذا ثبت لدى المجتهد أن الإجماع السكوتي متحقق صار قطعياً ولزمه الخضوع لحكم ذلك الإجماع.
هذا مصادرة على المطلوب، وهو محل النزاع، والاستقراء الناقص لأقوال محصورة معدودة لا تعدو العشرات بنقل آحادي مع عدم إمكان القطع بثبات اجتهاد المجتهد أو تغيُّره، لا يفيد قطعا ولا حتى ظنا قويا. ومن هنا قلنا بأن الإجماع السكوتي أضعف من خبر الواحد، ولذا فقد أخره الشافعي عنه في ترتيب الأدلة.
ها هو قد آلَ قولكم إلى ما يشبه إنكار حجية الإجماع، أو التردد في حجيته، وهذا القول من الشذوذ بمكان كما لا يخفاكم.
وهذا دليل على خلل في تأصيلكم الذي أصلتموه أولاً في الباب.
لا أنكر حجية الإجماع جملة ولا حتى السكوتي ولكني أنزله منزلته في الظن، ومع هذا فلا أرى أن من يخالفني في ذلك شاذا ولا حتى من أنكر حجية الإجماع برمته كالشوكاني والصنعاني ونحوهما والسبب هو احتمالية الأدلة الدالة على حجية الاجتماع.
وأما فيما يتعلق بحلق اللحية ـ وهي محل النقاش لا مطلق الإجماع ـ فحتى بفرض حجية الإجماع السكوتي فالإجماع المدعى على تحريمها لا يقوم على أساس، ولم أر من ألفوا في تحريم الحلق نقلوا قولا واحدا عن الصحابة والتابعين في تحريم الحلق إلا أثر عمر بن عبد العزيز وسنده تالف، وأثرا آخر غير صريح عن الحسن البصري وسنده ضعيف.
ثم إنهم نقلوا كلام ابن حزم بالمعنى وبعضهم يحرِّف فيه. فما قال ابن حزم مراتب الإجماع (ص: 157)كالآتي:
"وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحْيَة مثلَة لَا تجوز"
وظاهر هذا أن من حلق بعض اللحية أو كثيرا منها ـ كما يفعله كثيرون ـ لا يدخل في الاتِّفاق المذكور. وأكثر من تكلموا في حلق اللحية لم يفرقوا بين حلقها جملة وحلق بعضها بل حرموا الجميع، ومع ذلك استدلوا للمسألة بالإجماع الذي ذكره ابن حزم؟!. وقد رأيت منهم من نقل قول ابن حزم فأسقط منه لفظ "جميع"، وهذا تحريف لا يحل. وبعضهم ينقل بالمعنى بحسب ما فهمه فيقول قال ابن حزم: أجمعوا على أن إعفاء اللحية فرض. وهذا تقوُّلٌ على الرَّجُل، لا سيما إذا عرفنا أن ابن حزم كان دقيقا جدا في وضع ألفاظه في كتابه مراتب الإجماع؛ ولذلك قال في آخره:
"وَنحن نرغب مِمَّن قَرَأَ كتَابنَا هَذَا أَن يلْتَزم لنا شرطين:
أَحدهمَا: أَن لَا ينحلنا مَالم نقل بكلفة مِنْهُ أَو تعمد....
وَالثَّانِي: أَن يتدبرجَمِيع ألفاظنا فِي هَذَا الْكتاب فإنا لم نورد مِنْهُ لَفْظَة فِي ذكرنَا عقد الإجماع الا لِمَعْنى كَانَ يخْتل لَو لم تُذكر تِلْكَ اللَّفْظَة
"
وهنا ثمة شيء آخر لا ينتبه له كثيرون، وهو أن ابن حزم يفرِّق بين قوله: اتفقوا وقوله: أجمعوا
قال رحمه الله تعالى في آخر كتابه، مراتب الإجماع (ص: 178):
"وليعلم الْقَارئ لكلامنا أَن بَين قَوْلنَا لم يُجمعوا وَبَين قَوْلنَا لم يتَّفقوا فرقا عَظِيما"
ولم يبيِّن رحمه الله تعالى هذا الفرق، لكن الذي يبدو أنه في الظنية والقطعية، ولذلك جاء عنه، مراتب الإجماع (ص: 141) قوله:
"وَاتَّفَقُوا فِيمَا أَظن أَن فِي المأمومة إذا كَانَت فِي الرَّأْس خَاصَّة وَهِي الَّتِي بلغت أم الدِّمَاغ وَفِي الْجَائِفَة وَهِي الَّتِي بلغت حشْوَة الْجوف وَلم تفتقها ثلث دِيَة الْمُسلم الْحر"
فانظر إليه كيف قال "فيما أظن"، قال صاحب موسوعة ابن تيمية في الإجماع: "وقد يكون الاتفاق ظنيا لا يجزم العالم بالإجماع، فلذا يُعبِّر بالاتِّفاق، قال ابن حزم رحمه الله في مسألة من المسائل : "واتفقوا، فيما أظن، أن في المأمومة إذا كانت في الرأس".
وقد بدا لي وجه آخر غير المشهور في تفسير كلام ابن حزم إذا قرأناه على النحو الآتي:
"وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحْيَة مُثلَةً لَا يجوز" وذلك بنصب "مثلة" على التمييز، و"يجوز" بالياء لا بالتاء. ويصير المعنى أن حلق جميع اللحية تمثيلا بالإنسان وعقوبة له لا يجوز. وقد يتأيد هذا التأويل بقرائن منها:
1. أنه قريب جدا لم نتكلف فيه شيئا إلا نقطتي الياء في يجوز، والخطأ في هذا يقع كثيرا من النساخ.
2. أنه ينسجم مع حقيقة أنه لا نُقُولَ واردة عن السلف في تحريم حلق اللحية. ونقل الإجماع حيث لا نقول بعيد جدا.
3. أن سياقه القريب يشير إلى هذا المعنى فقد أورده ابن حزم كما يأتي:
"وَاتَّفَقُوا أَنه لَا يحل لأحد أَن يقتل نَفسه وَلَا أَن يقطع عضوا من أَعْضَائِهِ وَلَا أَن يؤلم نَفسه فِي غير التَّدَاوِي بِقطع الْعُضْو الْأَلِم خَاصَّة
وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحْيَة مثلَة لَا تجوز وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَة والفاضل والعالم
وَاخْتُلف فِي تَكْفِير من استخف بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاتَّفَقُوا أَن خصاء النَّاس من أهل الْحَرْب وَالْعَبِيد وَغَيرهم فِي غير الْقصاص والتمثيل بهم حرَام
"
وهذا دال على أن السياق إنما هو في مسألة العقوبة والتمثيل من حيث الجملة. ولكن قد تُدفع هذه القرينة بأنه ذَكَر الختان قبل ما نقلناه من القول، وذكر الشَّارب بعده. ويُردّ على ذلك بأن السياق الأقرب أولى بالاعتبار.
4. قوله بعد ذكر الاتفاق على تحريم الحلق "وكذلك الخليفة والفاضل والعالم" فلو كان يقصد تحريم الحلق الاختياري على الجميع لما كان للتنصيص على هؤلاء معنى، ولذا فقد يُفهم من كلامه رحمه الله أنهم اتفقوا على تحريم حلق جميع اللحية على وجه التمثيل، وكذلك اتفقوا على تحريم حلق جميع اللحية على العالم والفاضل حتى لو لم يكن ذلك على وجه التمثيل. والله أعلم بمراده، فكلامه هذا غامض في الجملة.
5. أنه ذكر فرض إعفاء اللحية في المحلى واحتج له بالحديث ولم يتطرق إلى إجماع ولا ذكر أثرا عن صاحب، فلو كان يقول بأن فرض الإعفاء ثابت بالإجماع فكان أولى به أن يذكره حينئذ.

قال الشيخ بن عثيمين: كما في لقاء الباب المفتوح (218/13، بترقيم الشاملة آليا)​
"السؤال: هل صح الإجماع على تحريم حلق اللحى وسماع الأغاني؟الجواب: لا، ما صار إجماع لا في حلق اللحى ولا في سماع الأغاني، ولكن هل كل حكم يلزمنا لا بد أن نكون مجمعين عليه؟! - لا.
- إذا كان هناك نزاع؛ فمرجعنا إلى شيئين فقط، الكتاب والسنة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]وأما ما وقع فيه بعض أهل الأهواء الذين إذا جاءتهم مسألة فيها خلاف؛ قال: هذه مسألة فيها خلاف، حتى الربا -الآن يستجيزونه- يقولون: لا بأس به لأن فيه خلافاً، الأغاني والمعازف إذا قال: حرام قال: هذه فيها خلاف، حلق اللحية قال: هذا فيه خلاف، هذا ليس بصحيح، ولن ينفع الإنسان يوم القيامة عند الله هذا العذر، لأن الله حدد ماذا يسأل عن الإنسان {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ولو أننا ذهبنا نحلل كل مسألة فيها خلاف تبعاً لأهوائنا لانفلتنا من الدين".
وموضع الشاهد كما لا يخفى نفيه لوجود الإجماع في المسألة فلم يذكره لا للقدماء ولا للمعاصرين ولو كان يعول عليه لذكره. أما استدلاله بالكتاب والسنة
فكلٌّ يدعي وصلا بليلى...... وليلى لا تقر لهم بذاكا

والحاصل هو أن الإجماع في هذه المسألة دعوى تفتقر إلى الدليل. وما كان كذلك فترك الاحتجاج به أولى وأحمد في الإنصاف من كثرة المراء فيه.

الإمام الشافعي ذكر إجماعات يبعد أن تكون من الإجماع التصريحي، فكانت من السكوتي يقيناً، وهي كثيرة لا تخفى.
أخي الكريم النزاع لم يكن في أن الشافعي يحتج بالإجماع السكوتي أو لا، فهذا يعرفه المبتدئ في الأصول فضلا عن المتوسط، وأمثلته "كثيرة لا تخفى" كما تفضلتم.
النزاع في أنه هل يُقدِّم السكوتي على خبر الواحد. وعلى هذا جرت المحاورة؛ فإني لما قلت:
إن الشافعي يقدم خبر الواحد على الإجماع السكوتي، ولو كان قاطعا ما قدَّمه عليه
رددتم عليَّ بالقول:
ليس هذا على إطلاقه، وقد علمتم أن الإمام الشافعي -رحمه الله- لم يقدم خبر الواحد على بعض صور الإجماع السكوتي.
فقلت لكم:
لم أعلمه فإذا وقفتم على مثال منه فأخبرونا مأجورين
ثم بعد ذلك أوردتم مثالا من الأمثلة "الكثيرة التي لا تخفى" على غير المطلوب مع أن المطلوب واضح جدا.
هذه معضِلة.. كيف يمكن القول بأن كثيراً من الصحابة خالف الأمر؟! حتى لو قلنا بالندب؛ فهذا غير متصور من جمهورهم رضي الله عنهم.
أولا: هناك فرق بين قولنا "كثيرا منهم" وبين قولك "جمهورهم" يا شيخي الفاضل. فلا تقوِّلني ما لم أقل، ولا تلزمني بأشياء تفهمها لا يدل عليها الكلام.
ثانيا: لما ذكرنا لكم صبغ الشيب وإحفاء الشوارب والاستنجاء بالماء وأن كثيرا منهم لم يفعلوه اعترضتم علي بالقول:
لا مشابهة البتة؛ فما ذكرتموه من أمثلة وُجِد من يخالفهم فيها منهم.. وأما المذكور فما نازعهم فيه أحد فيما نعلم.
ثم لما ذكرنا لك أن ما تعلمه هنا خطأ وأن منهم من كان يعفي وأن أكثر من ورد عنه الأخذ فذلك في النسك خاصة لجأت إلى التهويل اللفظي: بقولك "كثير من الصحابة خالفوا الأمر" ثم قلت "هذا غير متصور من جمهورهم"
مع أنك في أولى مشاركاتك قلت:
لم يثبت الأخذ من الطول والعرض عن أحد من الصحابة، وإنما جاء الأخذ مما زاد عن القبضة عن ابن عمر رضي الله عنهما في النسك خاصة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مطلقاً ، وعن جابر رضي الله عنه من طولها في النسك.
وأنا حائر في هذه الأقوال وشدة اضطرابها.
فما هو قولكم: هل ثبت الأخذ عن بعضهم أو عن كثير منهم أو عن جمهورهم أو عن جميعهم بحيث لا تعلم أحدا لم يأخذ من لحيته؟
أثر إبراهيم لا يثبت، وأعجب لإنكاركم على من يورد آثاراً لا تصح من أهل الحديث ثم أنتم توردونها، وعلى فرض صحته ففيه ما قلنا من جواز الأخذ وأنه لا يعارض الأمر بالإعفاء.
لا أدري بما ضعفت أثر إبراهيم وهو مسلسل بالأئمة إلا أن تكون ممن يضعفون أبا حنيفة رحمه الله تعالى، أو حمادا الإمام، تبعا لبعض أهل الحديث، فهذا مما لا نرتضيه ولا نعتقده. وقد رُدَّ عليه كثيرا، وكلام أهل الحديث في أهل الرأي لا يُقبل إلا مفسرا مبرهنا عليه لشدة ما كان بين الفريقين من خصومات.
وعلى فرض أن أبا حنيفة مختلف فيه فلا أدري ما وجه مقارنة هذا الأثر الذي ذكرناه مع أثر عمر بن عبد العزيز المسلسل بالمجاهيل والضعفاء، وفوق ذلك فإنه لم يُنقل بنصه بل نقله المحرمون للحلق محرَّفاً مبتورا عن سياقه؟!!! فهل يستويان؟!
ذكرتُ وجهاً للاتصال وآخر للانقطاع. فلا يلزم من ذلك أن يفسِد هذا الوجهُ -إن لم يتجه- ذلك الوجهَ.
ثم إن المقصود هنا أنه في معنى الاستثناء المنقطع وهو ما كانت "إلا" فيه بمعنى: "لكنْ" وذلك للاستدراك ودفع التوهم، ومن ذلك قول الله تعالى: { ما أنزَلنا عليك القرآنَ لِتشقى، إلا تَذكرَةً لِمن يخشى } أي: لكنْ أنزلناه تذكرةً لمن يخشى. ولعل الأمثلة التي وضعتُها مع تنصيص عدد من العلماء على كونها من المنقطع تغني عن إطالة الخوض في مثل ذلك.
شيخنا الفاضل المبتدئ في علم اللغة والنحو يعرف معنى الاستثناء المنقطع، وما هي أمثلته، وليس الخلاف في هذا
الخلاف معكم هو كيف حملتم قولهم: "كنا نعفي اللحى إلا في حج أو عمرة" على الاستثناء المنقطع. وما تفضلتم به أن المعنى هو"كنا نعفيها دون أخذ إلا في الحج فكنا نأخذ منها"، لا دخل له في معنى الانقطاع البتة، بل هو متصل لأن المستثنى فيه هو جزء من المستثنى.
ثم هو فوق ذلك لا يدل على منافاة الإعفاء للأخذ الذي هو سبب الإيراد والمحاورة من حيث الأساس بل يؤكده، فينقلب حجة عليكم لا لكم، لأن ظاهره المنافاة بين "الأخذ" و"الإعفاء" ولا يفهم غير ذلك إلا من ضعفت سليقته العربية.
وبعض الناس يحب النقل ويطمئن إليه أكثر من تقرير الأدلة لغلبة تقليد الفضلاء والقدماء على الخلق؛ ولذا فهذه بعض نقول تدل على المنافاة اللغوية بين "الإعفاء" و"الأخذ" عن جماعة من أهل العلم.
1) قال النووي: "فَحَصَلَ خَمْسُ رِوَايَاتٍ أَعْفُوا وَأَوْفُوا وَأَرْخُوا وَأَرْجُوا وَوَفِّرُوا وَمَعْنَاهَا كُلُّهَا تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَلْفَاظُهُ"
2) وقَالَ الطَّبَرِيّ: "فَإِن قلت: مَا وَجه قَوْله: اعْفُوا اللحى؟ وَقد علمت أَن الإعفاء الْإِكْثَار وَأَن من النَّاس من إِذا ترك شعر لحيته اتبَاعا مِنْهُ لظَاهِر قَوْله: اعْفُوا اللحى، فيتفاحش طولا وعرضاً ويسمج حَتَّى يصير للنَّاس حَدِيثا ومثلاً، قيل: قد ثبتَتْ الْحجَّة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على خُصُوص هَذَا الْخَبَر [أي تخصيصه. قلت ـ أيمن ـ: لعله يقصد خبر عمر بن هارون المرفوع وهو ضعيف جدا أو موضوع] وَأَن اللِّحْيَة مَحْظُور إعفاؤها، وواجب قصها على اخْتِلَاف من السّلف فِي قدرذَلِك وَحدِّه"
3) وقال صاحب تحفة الأحوذي:
"وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ يُؤْخَذُ الزائد واستدل بآثار بن عُمَرَ وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الْإِعْفَاءِ الْمَرْفُوعَةِ الصَّحِيحَةِ تَنْفِي هَذِهِ الْآثَارَ فَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الصَّحِيحَةِ"
4) وقال ابن عثيمين في شرح الأربعين:
"وأما إجازة الفقهاء-رحمهم الله - قص ما زاد على القبضة واستدلالهم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، فهذا رأي لكنه مخالف لظاهر الحديث.
وابن عمر رضي الله عنهما ليس يقص ما زاد على القبضة في كل السنة، إنما يفعل ذلك إذا حج أو اعتمر فقط، وهذا فرق بين ما شغف به بعض الناس وقالوا: إن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أخذ ما زاد على القبضة.
وكأنه - والله أعلم - رأى أن هذا من كمال التقصير أو الحلق.
ومع ذلك فرأيه رضي الله عنه غير صواب، فالصواب فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
والعجب أن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى حديث الأمر بإعفاء اللحية وهو يفعله، لكن نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما عنده من العبادة ما فات كثيراً من الناس إلا أنه تأوَّل، والمتأوِّل مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر"
5) وذكر ابن قدامة وغير واحد من الحنابلة أنه "يُستحب إعفاء اللحية ويحرم حلقها". وقصدهم في استحباب الإعفاء الترك دون قص، وهذا دال أيضا على منافاة الإعفاء للأخذ والقص، كما قلنا.
وأخيرا يبدو لي أن الجدال في هذه المسألة وصل إلى طريق مسدود ومماحكات في الألفاظ ونشر للكلام في قضايا استطرادية ولوازم بعيدة.
ولا بأس أن نختلف إلى هذا الحد ثم ندع أهل النظر والإنصاف من القراء كل بحسب ما يمليه عليه فقهه وضميره لا ما نشأ عليه وسبق إلى علمه وقاله مشايخه وأهل بلده.
والله أعلم.
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

فهذا ظاهر بارك الله فيكم أنكم تخلطون بين تعليل الحكم الواحد بعلتين وبين تعليله بعلة مركبة من وصفين وهو ما قصدته بالالتباس الذي دخل عليكم. وأعتذر إن كنت مخطئا في فهم كلامكم.
لا زلت على الذي نصصتُ عليه، ووضعتَه -بارك الله فيك - ضمن اقتباساتك في المشاركة الأخيرة.

ففرقٌ بين ما فهمتَه شيخي الكريم وما أردتُّه من الكلام. ولا أدري ما الذي جر إلى سوء الفهم هذا هل هو كلامي غير الواضح أو تعجلكم في الرد من غير تدبر للقول أو هما معا؟
هو الثاني بلا شك، فالضعف والجهل وقلة التدبر صفات تلازمني، أسأل الله العفو والعافية، وأن يصلح لي شأني كله.

لا أنكر حجية الإجماع جملة ولا حتى السكوتي ولكني أنزلها منزلتها في الظن،
وعليه: فلا يوجد إجماع قطعي البتة!! وهذا ما لا يمكن أن أرتضيه.

ثم إنهم نقلوا كلام ابن حزم بالمعنى وبعضهم يحرِّف فيه. فما قال ابن حزم مراتب الإجماع (ص: 157)كالآتي:
"وَاتَّفَقُوا أَن حلق جَمِيع اللِّحْيَة مثلَة لَا تجوز"
وظاهر هذا أن من حلق بعض اللحية أو كثيرا منها ـ كما يفعله كثيرون ـ لا يدخل في الاتِّفاق المذكور. وأكثر من تكلموا في حلق اللحية لم يفرقوا بين حلقها جملة وحلق بعضها بل حرموا الجميع، ومع ذلك استدلوا للمسألة بالإجماع الذي ذكره ابن حزم؟!. وقد رأيت منهم من نقل قول ابن حزم فأسقط منه لفظ "جميع"، وهذا تحريف لا يحل. وبعضهم ينقل بالمعنى بحسب ما فهمه
وهذا ما أقرره من أول الحوار: أن التحريم في الحلق (إزالة جميعها)، وأما الأخذ منها فليس في حكم حلق جميعها، وعليه مشهور المذاهب الأربعة.
وهنا تؤكدون على كلمة (جميع) وهي التي التزمتُها في حكاية الإجماع في كل ما قررتُ،
وأما ما ملتم إليه من قلب التاء ياءً فيكفي في الإجابة عنه أنه يحتاج إلى برهنة وإثبات.

ويُردّ على ذلك بأن السياق الأقرب أولى بالاعتبار.
إنما يكون أقرب لو ثبت أنها بالياء، وأما والحال على خلاف ذلك فالتخطئة خلاف الأصل وتحتاج إلى دليل.

أولا: هناك فرق بين قولنا "كثيرا منهم" وبين قولك "جمهورهم" يا شيخي الفاضل. فلا تقوِّلني ما لم أقل، ولا تلزمني بأشياء تفهمها لا يدل عليها الكلام.
أوافقك -سددني الله وإياك- على أن هناك فرقاً بين اللفظتين، ولكنَّ إيراد لفظ جابر: كنا نعفي .. إلا في حج أو عمرة.
ما الذي تفيده (كُنَّا) في كلام الصحابة الكرام ؟


وأن أكثر من ورد عنه الأخذ فذلك في النسك خاصة
هنا مسألة: هل كل مَن أخذ من لحيته في النسك لم يكن يرى جواز ذلك في غير النسك؟ هذا لا أظنه يمكن الجزم به ولا ادعاؤه.. فلا تستغرب أني لا أعول على ذلك كثيراً.
نعم، بعضهم تأول { ثم ليقضوا تفثهم } على الأخذ من ذلك، ولكنّه يصلح دليلاً لجواز الأخذ مطلقاً؛ إذ لما جاز هنا جاز هناك، ولعل هذا هو سبب ما ظننتَ من اضطراب فيما قلتُ.


لا أدري بما ضعفت أثر إبراهيم وهو مسلسل بالأئمة إلا أن تكون ممن يضعفون أبا حنيفة رحمه الله تعالى، أو حمادا الإمام، تبعا لبعض أهل الحديث، فهذا مما لا نرتضيه ولا نعتقده. وقد رُدَّ عليه كثيرا، وكلام أهل الحديث في أهل الرأي لا يقبل إلا مفسرا مبرهنا عليه لشدة ما كان بين الفريقين من خصومات.
إذا لم نقبل كلام أهل الحديث في صنعتهم فمن الذين سنرجع إليهم، والإمامة في القراءة أو الفقه أو الوعظ شيء، وضبط الراوي شيء آخر، ثم هو مفسَّرٌ مبرهَنٌ، ومن نازع في ضعف الإمام أبي حنيفة فكلامه في غاية الوهاء.

وأما نقولكم الأخيرة -جزاكم الله خيراً- فأعرفها جيداً، ولم أقل بأن ذلك لا خلاف فيه، بل أقر أن من العلماء من فسر الإعفاء بعدم أخذ شيء منها، ولكني أختار هنا ما يخالفه..

ويبقى أن الصحابة عندما أعفوا لحاهم كانوا قد امتثلوا الأمر النبوي، ولا يمكن أن يقال بأن أمره صلى الله عليه وسلم خاص بزمانهم وما شابهه، كما لا يمكن أن يقال إنه كان على سبيل موافقة العوائد وأن لا علاقة له بالتشريع كما يدعي بعض الجهلة متناسين أنه منسوب إلى الفطرة ومأمور به على لسان الشارع.

وأحب أن أعود لكلام النووي -رحمه الله تعالى- حيث ادعيتم أنه يرى أن الأمر بالإعفاء إنما هو للندب عنده وأن الحلق عنده مكروه،
فقلتم: ( وعلى أية حال كان قصدنا هنا بيان أن من قال بكراهة الحلق، كالنووي) وهذا في نظري لا يمكن الجزم به.

ومما يعتمد عليه في ذلك ما قال في شرح مسلم: وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها، وهو معنى أوفوا اللحى في الرواية الأخرى، وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك، وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض؛ إحداها: خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد، الثانية: خضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا لاتباع السنة، الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام أنه من المشايخ، الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة، الخامسة: نتف الشيب السادسة تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن، السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذار من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، الثامنة: تسريحها تصنعا لأجل الناس، التاسعة: تركها شعثة ملبدة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب، الحادية عشر: عقدها وضفرها، الثانية عشر: حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها والله أعلم. أهـ
قلت: ليس في هذا أنه يرى أن حلقها لا يحرم، فقد ذكر هنا الخضاب بالسواد ضمن الخصال المكروهة وهو ينص على تحريمه.
قال في شرح مسلم: ويحرم خضابه بالسواد على الأصح، وقيل يكره كراهة تنزيه، والمختار التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم واجتنبوا السواد هذا مذهبنا. أهـ
وقال في شرح المهذب: اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب هو مكروه: وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه: والصحيح بل الصواب أنه حرام. أهـ

ثم هو لا يستبعد تحريم نتف الشيب وقد ذكره ضمن الخصال المكروهة أعلاه..
قال في شرح المهذب: يكره نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة) حديث حسن، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد حسنة. قال الترمذي حديث حسن. هكذا قال أصحابنا: يكره، صرح به الغزالي كما سبق والبغوي وآخرون، ولو قيل: يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد. أهـ وهو دليل على أن ذكر الكراهة أعلاه ليس يراد به التنصيص على ما لا يأثم فاعله مما يطلَب تركه.

ثم إن النووي يرى كراهة أن تؤخذ شعيرات من اللحية، فما بالكم بالحلق؟!
يقول في شرح مسلم: والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً. أهـ
ويقول في شرح المهذب: قال الغزالي في الإحياء: اختلف السلف فيما طال من اللحية؛ فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة: فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي وابن سيرين.
وكرهه الحسن وقتادة، وقالوا: يتركها عافية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وأعفوا اللحى ). قال الغزالي: والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة. هذا كلام الغزالي، والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً بل يتركها على حالها كيف كانت؛ للحديث الصحيح: ( وأعفوا اللحى ). أهـ
هذا كلام النووي، وهو يرى كراهة أخذ شيء من اللحية؛ لأنه يرى أن الإعفاء هنا هو عدم الأخذ مطلقاً.. وبجميع ما سبق فلا يمكن تحقق نسبة القول بكراهة حلق جميع اللحية -دون تحريم- إلى الإمام النووي. والله الموفق.

ويقول د. أحمد المقرمي من الشافعية: أما الحلق فليس في المذهب منه شيء حسب علمي القاصر المتواضع. أهـ
 
التعديل الأخير:

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

وفي مقابلة النقول بالنقول:

في بيان معنى الإعفاء، وأن مطلق الأخذ لا ينافيه:

في "البحر الرائق" (3/12): (قال أصحابنا : الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر).


قال ابن الهمام في "فتح القدير" (2/270) : (يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم ... فيقع بذلك الجمع بين الروايات).

وقال القرطبي في "المفهِم" (1/512) : (ولا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قص الكثير منها , فأما أخذ ما تطاير منها وما يشوه ويدعو إلى الشهرة طولا وعرضا فحسن عند مالك وغيره من السلف)

وقال الخلال في كتاب "الوقوف والترجل" (ص129) : (أخبرني حرب قال : سئل أحمد عن الأخذ من اللحية ؟

قال : إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة ، وكأنه ذهب إليه،

قلت: ما الإعفاء؟ قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كأن هذا عنده الإعفاء).
 

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

لا زلت على الذي نصصتُ عليه، ووضعتَه -بارك الله فيك - ضمن اقتباساتك في المشاركة الأخيرة.
أي أن مخالفة المشركين بعض علة!!
إذا أصررت على هذا فينبغي ـ بارك الله فيكم ـ أن تسلِّم بزوال الحكم لزوال علته أو جزئها كما قرره الأصوليون ونقلتَه من كلامهم.
وعلى ذلك ينتفي حكم وجوب الإعفاء حيث لا توجد المخالفة، وبهذا تلتقون ـ بارك الله فيكم ـ مع من يقولون بأن هذا الحكم كان معللا بمخالفة المشركين عندما كانت دولة الإسلام ناشئة وتكاد تكون قاصرة على العرب الذين من عادتهم توفير اللحى. أما اليوم فقد انتشر الحلق بين المسلمين وانتشر توفير اللحى بين كثير من المشركين فلم تعد العلة وهي المخالفة والتميز متحققة بالإعفاء أو الحلق، فصار الأمر كلبس البنطال وربطة العنق لما انتشرت بين المسلمين انتفى عن لبسها حكم الكراهة كما يقوله الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى ومما قال: (الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/ 29): التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر بناء على لباسه فهذا حرام.أهـ.
وكذلك يلزمكم أيضا بارك الله فيكم ما قاله ابن تيمية رحمه الله، من:
"أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار [وهذا غير حاصل الآن فلا جهاد ولا جزية والمسلمون في آخر الركب ومن أهون الأمم حالا]، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب [وهو حال أكثر دول الإسلام اليوم]؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة".أهـ اقتضاء الصراط المستقيم وما بين المعقوفتين من تعلقاتي.
وهذا ما أقرره من أول الحوار: أن التحريم في الحلق (إزالة جميعها)، وأما الأخذ منها فليس في حكم حلق جميعها، وعليه مشهور المذاهب الأربعة.
وهنا تؤكدون على كلمة (جميع) وهي التي التزمتُها في حكاية الإجماع في كل ما قررتُ
شيخنا الفاضل؟ المفهوم المخالف لـ "حلق جميع اللحية مُثلة لا تجوز" هو "حلق بعض اللحية ليس مثلة فيجوز". وهو المفهوم المخالف للقيد "جميع". ومما يُستغرب حملكم مفهوم القيد على جواز الأخذ من اللحية أو قصها، فهذا مما لم يتعرَّض له نص ابن حزم لا بمنطوقه ولا بمفهومه.
وأما ما ملتم إليه من قلب التاء ياءً فيكفي في الإجابة عنه أنه يحتاج إلى برهنة وإثبات.
اليقين في هذا متعذر إلا أن نقف على ما كتبه ابن حزم بخطه، والقرائن التي ذكرناها تثير ظنا أو شكا في كتابة النص وفهمه. والاحتمال القريب مسقط للاستدلال.
أوافقك -سددني الله وإياك- على أن هناك فرقاً بين اللفظتين، ولكنَّ إيراد لفظ جابر: كنا نعفي .. إلا في حج أو عمرة.
ما الذي تفيده (كُنَّا) في كلام الصحابة الكرام ؟
تفيد ـ كما تفضلتم سابقا ـ أن جمعا منهم كانوا يعفون طوال السنة إلا في الحج والعمرة. هذا هو الظاهر. وتقرير هذا ليس انتقاصا فيهم رضوان الله عليهم، لأنهم تأولوا الأمر أو حملوه على الندب كما تأولوا كثيرا من الأوامر والنواهي الأخرى. ألم يقل جابر في شأن نكاح المتعة: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق ، الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر فى شأن عمرو بن حريث". (رواه مسلم). فهل هذا يعني أن أكثرهم أو جمهورهم كان يفعل المتعة إلى عهد عمر رضي الله عنه؟!
هنا مسألة: هل كل مَن أخذ من لحيته في النسك لم يكن يرى جواز ذلك في غير النسك؟ هذا لا أظنه يمكن الجزم به ولا ادعاؤه.. فلا تستغرب أني لا أعول على ذلك كثيراً.
إذا كان محمل الأمر على الندب، كا رجحناه، جاز الأخذ في النسك وفي غير النسك، وإذا كان محمله على الوجوب لم يجز الأخذ في النسك ولا في غير النسك.
أما ما كان من الصحابة بالفعل فالظاهر هو أنهم كانوا يأخذون منها في النسك خاصة دون باقي السنة. وقوله "كنا نعفي اللحى إلا في حج أو عمرة" دليلٌ يكاد يكون قاطعا في هذا المعنى. وقد روى ابن عجلان عن نافع أن ابن عمر أيضا كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة. ولولا أنهم رضوان الله عليهم كانوا يرخون لحاهم في غير الحج والعمرة ثم يأخذون منها في الحج والعمرة لما صار هناك فرق بين حالهم في النسك وباقي الأوقات. وهذا مصادم للنص المذكور قطعا، لأن النص يفرق بين حال النسك وغيره عندهم. وأنتم ـ بارك الله فيكم ـ تزعمون من غير نقلٍ معتمد أن حال أكثرهم في النسك وفي غيره سواء.
إذا لم نقبل كلام أهل الحديث في صنعتهم فمن الذين سنرجع إليهم، والإمامة في القراءة أو الفقه أو الوعظ شيء، وضبط الراوي شيء آخر، ثم هو مفسَّرٌ مبرهَنٌ، ومن نازع في ضعف الإمام أبي حنيفة فكلامه في غاية الوهاء.
يظل أبو حنيفة رحمه الله تعالى مختلفا فيه بين أهل الحديث قديما وحديثا. وفي رسالة علمية خاصة بالإمام في أم القرى انتهى الباحث بعد سبر مروياته إلى أنه في درجة الصدوق.
وقد كثر الخوض قديما وحديثا في شأن أبي حنيفة من غير طائل ولا نتيجة.
ومن الغريب أن من يضعفون أبا حنيفة من المعاصرين لا يقبلون أقوال أهل الحديث فيه التي نسبوه فيها إلى البدعة والكذب والتجهم والشر والجهل...الخ، ويحملونها على عداوة الأقران والتحامل والحسد والإغراق في الرأي والتعنت والتعصب ونحو ذلك، بينما يقبلون في نفس الوقت أقوالهم فيه أنه ليس ثقة في الحديث. وهذا تناقض، لأن من تحامل على الرجل فغمزه في دينه وخلقه وأمانته ليس ببعيد عنه أن يغمز به في الرواية فهذا أسهل وأهون من ذلك بكثير.
والمنهج الصواب هنا أن تُستقرأ روايات أبي حنيفة جميعها ويعاد سبرها وينظر إلى حجم ما أخطأ فيه بالمقارنة مع مجمل ما رواه، وإلا بقينا في داوامة المتعصبين له والمتعصبين عليه. على أن ما أوردناه عنه هو أثر يرويه عن أكثر من لازمه من شيوخه وهو حماد ثم عن إبراهيم. وأبو حنيفة ثم حماد هم من أدرى الناس بإبراهيم، فهو إمامهم والمقدم عندهم ولا يكادون يخرجون عن رأيه، فإذا ضعف أبو حنيفة في الحديث عن رسول الله تعالى فينبغي أن لا ينجر هذا إلى تضعيفه في نقل المسائل عن شيخه وشيخ شيخه وإلا كان الرجل في حكم الساقط المتروك الكذاب، وهذا ما لا يرتضيه أحد من المعاصرين من أهل الحديث حتى هؤلاء الذين حكموا بضعفه.

وأما نقولكم الأخيرة -جزاكم الله خيراً- فأعرفها جيداً، ولم أقل بأن ذلك لا خلاف فيه، بل أقر أن من العلماء من فسر الإعفاء بعدم أخذ شيء منها، ولكني أختار هنا ما يخالفه..
لا بد من دليل لما تختار. وكل ما تفضلت به لا يدفع في صرائح أقوال أهل اللغة وصرائح الآثار التي ميزت بين الإعفاء والأخذ، وبين الإعفاء والقص.

ويبقى أن الصحابة عندما أعفوا لحاهم كانوا قد امتثلوا الأمر النبوي، ولا يمكن أن يقال بأن أمره صلى الله عليه وسلم خاص بزمانهم وما شابهه، كما لا يمكن أن يقال إنه كان على سبيل موافقة العوائد وأن لا علاقة له بالتشريع كما يدعي بعض الجهلة متناسين أنه منسوب إلى الفطرة ومأمور به على لسان الشارع.
ممن قال أنه على سبيل العوائد علماء كبار كجاد الحق وشلتوت وغيرهم، ويكاد يكون هذا هو رأي أكثر مشيخة الأزهر ولا يصح أن يقال في هؤلاء جهلة. بل لهم وجهة نظر معقولة وهو أن الأمر ـ كما هو ظاهر النص ـ معلل بالمخالفة فهو يدور معها وجودا وعدما. أما كون الإعفاء من سنن الفطرة فهذا مما ينازعون فيه لا سيما وقد أعلَّ كبار الحفاظ حديث مسلم الذي ذكر في إعفاء اللحية خصلة من سنن الفطرة. ولازم تعليل الأمر بعلة واحدة مستقلة هي المخالفة للمشركين ـ كما استظهره ابن تيمية رحمه الله ـ يقتضي صواب ما قالوه.

وأحب أن أعود لكلام النووي -رحمه الله تعالى- حيث ادعيتم أنه يرى أن الأمر بالإعفاء إنما هو للندب عنده وأن الحلق عنده مكروه، فقلتم: ( وعلى أية حال كان قصدنا هنا بيان أن من قال بكراهة الحلق، كالنووي) وهذا في نظري لا يمكن الجزم به.

ومما يعتمد عليه في ذلك ما قال في شرح مسلم: وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها، وهو معنى أوفوا اللحى في الرواية الأخرى، وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك، وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض؛ إحداها: خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد، الثانية: خضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا لاتباع السنة، الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام أنه من المشايخ، الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة، الخامسة: نتف الشيب السادسة تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن، السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذار من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك، الثامنة: تسريحها تصنعا لأجل الناس، التاسعة: تركها شعثة ملبدة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب، الحادية عشر: عقدها وضفرها، الثانية عشر: حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها والله أعلم. أهـ
قلت: ليس في هذا أنه يرى أن حلقها لا يحرم، فقد ذكر هنا الخضاب بالسواد ضمن الخصال المكروهة وهو ينص على تحريمه.
قال في شرح مسلم: ويحرم خضابه بالسواد على الأصح، وقيل يكره كراهة تنزيه، والمختار التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم واجتنبوا السواد هذا مذهبنا. أهـ
وقال في شرح المهذب: اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب هو مكروه: وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه: والصحيح بل الصواب أنه حرام. أهـ

ثم هو لا يستبعد تحريم نتف الشيب وقد ذكره ضمن الخصال المكروهة أعلاه..
قال في شرح المهذب: يكره نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة) حديث حسن، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد حسنة. قال الترمذي حديث حسن. هكذا قال أصحابنا: يكره، صرح به الغزالي كما سبق والبغوي وآخرون، ولو قيل: يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد. أهـ وهو دليل على أن ذكر الكراهة أعلاه ليس يراد به التنصيص على ما لا يأثم فاعله مما يطلَب تركه.

ثم إن النووي يرى كراهة أن تؤخذ شعيرات من اللحية، فما بالكم بالحلق؟!
يقول في شرح مسلم: والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً. أهـ
ويقول في شرح المهذب: قال الغزالي في الإحياء: اختلف السلف فيما طال من اللحية؛ فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة: فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي وابن سيرين.
وكرهه الحسن وقتادة، وقالوا: يتركها عافية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وأعفوا اللحى ). قال الغزالي: والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة. هذا كلام الغزالي، والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقاً بل يتركها على حالها كيف كانت؛ للحديث الصحيح: ( وأعفوا اللحى ). أهـ
هذا كلام النووي، وهو يرى كراهة أخذ شيء من اللحية؛ لأنه يرى أن الإعفاء هنا هو عدم الأخذ مطلقاً.. وبجميع ما سبق فلا يمكن تحقق نسبة القول بكراهة حلق جميع اللحية -دون تحريم- إلى الإمام النووي. والله الموفق.
أخي الكريم الظاهر من إطلاق الكراهة في كلام المتأخرين هو الكراهة التنزيهية أما في كلام السلف والأئمة المتقدمين كالشافعي فالكراهة مشتركة بين التنزيه والتحريم. ويكفي في نسبة القول إلى النووي التعلق بظاهر قوله. وقد نسب ذلك إليه أدرى الناس بأقواله ابن حجر والرملي. وهذا هو المعتمد عند متأخري المذهب.
وأحب التنبيه إلى أمر جدلي هنا وهو أن إبداء الاحتمال في القول أو الدليل من غير شفع ذلك بقرائن تدل عليه لا يكفي وحده في مصادمة الظاهر، إذ ما من ظاهر إلا وهو محتمل. إذا أردت أن تسقط الدليل فعليك بإيراد احتمال قوي بذاته أو قرائنه بحيث يعادل الظاهر أو يفوقه وإلا فلا عبرة به.
ويقول د. أحمد المقرمي من الشافعية: أما الحلق فليس في المذهب منه شيء حسب علمي القاصر المتواضع. أهـ
الرجل يقول حسب علمه القاصر المتواضع، وأنت تريد أن تجعل من قوله بيانا لواقع مذهب الشافعية؟؟!!!. كيف وقد صرح عمدتا المتأخرين: الهيثمي والرملي بالكراهة وقد نقلنا المعتمد في المذهب سابقا فليُرجع إليه.
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

أي أن مخالفة المشركين بعض علة!!
إذا أصررت على هذا فينبغي ـ بارك الله فيكم ـ أن تسلِّم بزوال الحكم لزوال علته أو جزئها كما قرره الأصوليون ونقلتَه من كلامهم.
وعلى ذلك ينتفي حكم وجوب الإعفاء حيث لا توجد المخالفة، وبهذا تلتقون ـ بارك الله فيكم ـ مع من يقولون بأن هذا الحكم كان معللا بمخالفة المشركين عندما كانت دولة الإسلام ناشئة وتكاد تكون قاصرة على العرب الذين من عادتهم توفير اللحى. أما اليوم فقد انتشر الحلق بين المسلمين وانتشر توفير اللحى بين كثير من المشركين فلم تعد العلة وهي المخالفة والتميز متحققة بالإعفاء أو الحلق، فصار الأمر كلبس البنطال وربطة العنق لما انتشرت بين المسلمين انتفى عن لبسها حكم الكراهة كما يقوله الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى ومما قال: (الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/ 29): التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر بناء على لباسه فهذا حرام.أهـ.
قصدتُ بالتركيب في كلامي: التركيب من علل مستقلة، بخلاف ما بنيتم عليه إلزامكم.



كذلك يلزمكم أيضا بارك الله فيكم ما قاله ابن تيمية رحمه الله، من:
"أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار [وهذا غير حاصل الآن فلا جهاد ولا جزية والمسلمون في آخر الركب ومن أهون الأمم حالا]، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب [وهو حال أكثر دول الإسلام اليوم]؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة".أهـ اقتضاء الصراط المستقيم وما بين المعقوفتين من تعلقاتي.
يكفيني قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- : "لما عليه في ذلك من الضرر".
وإذا كان ثَمَّ ضررٌ فلا خلاف بيننا في جواز حلقه لحيته، وهذا في حكم الضرورات فلا حاجة لإيراده هنا.



شيخنا الفاضل؟ المفهوم المخالف لـ "حلق جميع اللحية مُثلة لا تجوز" هو "حلق بعض اللحية ليس مثلة فيجوز". وهو المفهوم المخالف للقيد "جميع". ومما يُستغرب حملكم مفهوم القيد على جواز الأخذ من اللحية أو قصها، فهذا مما لم يتعرَّض له نص ابن حزم لا بمنطوقه ولا بمفهومه.
أقول: منطوق كلامه= تحريم حلق جميع اللحية هو اتفاق
ومفهومه= ليس في تحريم حلق بعضها اتفاق
لا ما فهمتموه من أني أدعي أنه يجوز ذلك.


اليقين في هذا متعذر إلا أن نقف على ما كتبه ابن حزم بخطه، والقرائن التي ذكرناها تثير ظنا أو شكا في كتابة النص وفهمه. والاحتمال القريب مسقط للاستدلال.
هذا الاحتمال معارض بنص مكتوب ينبغي أن يكون احتمال صحته أقوى، فكيف يسقط احتمالٌ كهذا استدلالاً بالأقوى؟!

تفيد ـ كما تفضلتم سابقا ـ أن جمعا منهم كانوا يعفون طوال السنة إلا في الحج والعمرة. هذا هو الظاهر. وتقرير هذا ليس انتقاصا فيهم رضوان الله عليهم، لأنهم تأولوا الأمر أو حملوه على الندب كما تأولوا كثيرا من الأوامر والنواهي الأخرى. ألم يقل جابر في شأن نكاح المتعة: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق ، الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر فى شأن عمرو بن حريث". (رواه مسلم). فهل هذا يعني أن أكثرهم أو جمهورهم كان يفعل المتعة إلى عهد عمر رضي الله عنه؟!
هذا المثال لا يتحد في الصورة مع مثالنا؛ فالمعنى هنا: إن أكثر من استمتع كان يستمتع بالقبضة من الطعام الأيامَ .. ، أو فلتقل: جمهور من استمتع كان يستمتع بالقبضة الأيامَ ..


إذا كان محمل الأمر على الندب، كا رجحناه، جاز الأخذ في النسك وفي غير النسك، وإذا كان محمله على الوجوب لم يجز الأخذ في النسك ولا في غير النسك.
أما ما كان من الصحابة بالفعل فالظاهر هو أنهم كانوا يأخذون منها في النسك خاصة دون باقي السنة.
وعليه: فلا اضطراب فيما قلتُه، وبهذا التنوع يعرَف محمل ما ظننتموه اضطراباً.


لا بد من دليل لما تختار. وكل ما تفضلت به لا يدفع في صرائح أقوال أهل اللغة وصرائح الآثار التي ميزت بين الإعفاء والأخذ، وبين الإعفاء والقص.
1- قد نقلتُ عن جمع من أهل اللغة ما يفيد أن الإعفاء يأتي بمعنى التكثير والتوفير، وقد اعترفتم بخطأ اعتراضكم على كون ذلك لم يأتِ في اللغة.
2- ظاهر فعل كثير من الصحابة جواز الأخذ، والأصل وجوب الأمر بالإعفاء لا كونه مندوباً إليه فحسب.
وقد نقلتُ كلام ابن الهمام بأن هذا ما يجمَع به بين الروايات، وكلام ابن عبد البر من أن ابن عمر لم يخالف ما روى.
3- مشهور المذاهب وجمهور الفقهاء على جواز الأخذ -على اختلاف بينهم في تحديده- وتحريم الحلق.
هذا مجمل ما استدللتُ به.


أخي الكريم الظاهر من إطلاق الكراهة في كلام المتأخرين هو الكراهة التنزيهية أما في كلام السلف والأئمة المتقدمين كالشافعي فالكراهة مشتركة بين التنزيه والتحريم. ويكفي في نسبة القول إلى النووي التعلق بظاهر قوله. وقد نسب ذلك إليه أدرى الناس بأقواله ابن حجر والرملي. وهذا هو المعتمد عند متأخري المذهب.
وأحب التنبيه إلى أمر جدلي هنا وهو أن إبداء الاحتمال في القول أو الدليل من غير شفع ذلك بقرائن تدل عليه لا يكفي وحده في مصادمة الظاهر، إذ ما من ظاهر إلا وهو محتمل. إذا أردت أن تسقط الدليل فعليك بإيراد احتمال قوي بذاته أو قرائنه بحيث يعادل الظاهر أو يفوقه وإلا فلا عبرة به.
بعد هذا كله أطالَب بقرائن؟!!
وسألخص القرائن:
1- النووي -كما بينتُ- إنما ينقل عن غيره أن هذه الصفات مكروهة.
2- النووي في مواطن أخرى يبين أن بعض هذه المكروهات هي حرام عنده صراحةً! كالخضاب بالسواد، ولا يستبعِد تحريم نتف الشيب فهو لا يجزم بالكراهة التي تعتمد عليها في أول نقله.
3- النووي ينص على كراهة أخذ شيء يسير من اللحية (وهذا لا يكفي وحده، ولكنه مما قد يستأنس به مع ما قبله).


الرجل يقول حسب علمه القاصر المتواضع، وأنت تريد أن تجعل من قوله بيانا لواقع مذهب الشافعية؟؟!!!. كيف وقد صرح عمدتا المتأخرين: الهيثمي والرملي بالكراهة وقد نقلنا المعتمد في المذهب سابقا فليُرجع إليه.
وما من أحد يقرر شيئاً -بعد سبر وتحقيق وطول نظر- إلا وهو حسب علمه القاصر المتواضع، وما من بشر إلا وهو صاحب علم قاصر متواضع.
وكون الهيتمي والرملي عمدتا المتأخرين لا يعني أن ينسَب ذلك للإمام النووي دون تتبع؛ لأن من كبار أئمة الشافعية من اعترض على كلامهما، فكيف لنا أن ننسب قولاً للنووي دون تحقق؟!
والله يرعاكم
 
التعديل الأخير:

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

قصدتُ بالتركيب في كلامي: التركيب من علل مستقلة، بخلاف ما بنيتم عليه إلزامكم.
إذن نحن نتفق في هذه النقطة، واعذروني على سوء فهم مرادكم بارك الله فيكم.
يكفيني قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- : "لما عليه في ذلك من الضرر".
وإذا كان ثَمَّ ضررٌ فلا خلاف بيننا في جواز حلقه لحيته، وهذا في حكم الضرورات فلا حاجة لإيراده هنا.
هذا طيب، علما بأن كثير ممن لهم فتاوى في حلق اللحى لا يرخصون بحلق اللحية للضرر. وقد قرأت لبعضهم فتوى لسائل يسأل أنه إذا لم يحلق لحيته فسوف يطرد من عمله فأفتوه بالتحريم والبحث عن عمل جديد. ولا داعي للتذكير هنا أن الضرر ليس هو الضرورة وهذا لا يخفى عليكم. ثم إن في كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ضوابط أخرى غير دفع الضرر من أهمها قوله: "قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين"
أقول: منطوق كلامه= تحريم حلق جميع اللحية هو اتفاق
ومفهومه= ليس في تحريم حلق بعضها اتفاق
لا ما فهمتموه من أني أدعي أنه يجوز ذلك.
عذرا على سوء الفهم مرة أخرى.
إذن نتفق هنا أن كلام ابن حزم ـ لو سلَّمنا بصوابه ـ خاص بحلق جميع اللحية. وما وراء ذلك ليس فيه اتفاق. وهذا يشمل:
1. حلق بعض اللحية وترك بعضها.
2. الأخذ من اللحية قل أو كثر.
هذا الاحتمال معارض بنص مكتوب ينبغي أن يكون احتمال صحته أقوى، فكيف يسقط احتمالٌ كهذا استدلالاً بالأقوى؟!
لك أن تقول هذا لأن القرائن قد تثير ظنا ينافي الظاهر عند بعض الناس ولا تثيره عند آخرين. الظاهر أن كلمة "يجوز" في كلام ابن حزم بالياء لا بالتاء، واحتمال أن تكون بالتاء وارد لكثرة التصحيف وقوعا بالمخطوط والمطبوع، لكنك تراه احتمالا ضعيفا وأراه، بما أوردتُ من قرائن، قويا مقاربا. ولا حرج أن نختلف في هذا ونترك للقراء الحكم كل بحسب ما يراه.
هذا المثال لا يتحد في الصورة مع مثالنا؛ فالمعنى هنا: إن أكثر من استمتع كان يستمتع بالقبضة من الطعام الأيامَ .. ، أو فلتقل: جمهور من استمتع كان يستمتع بالقبضة الأيامَ ..
هذا التأويل لا يستقيم يا شيخنا لسببين:
أحدهما: أن فيه إضمارا "أكثر من استمتع كان يستمتع" والإضمار خلاف الأصل فيحتاج إلى دليل يحمل عليه وهو غير موجود.
والثاني: أن استمتاعهم المذكور ورد مُغَيَّاً بنهي عمر رضي الله عنه إياهم عن الاستمتاع. وقد لجأتم إلى حذف باقي الأثر حتى لا يظهر ضعف التأويل، وإلا فلو ذكرت باقي الأثر على تأويلكم فسيكون المعنى كالتالي: إن أكثر من استمتع كان يستمتع بالقبضة من الطعام الأيامَ حتى نهانا عمر عنه (أي الاستمتاع بالقبضة الأيام). وهذا معنى باطل اتفاقا، لأن مفاده أن عمر لم ينه عن الاستمتاع مطلقا بل نهى عن استمتاع مخصوص وهو ما يكون بالقبضة من الطعام أياما. ومن الثابت الذي يكاد يكون متواترا أن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة مطلقا. وهذا لا أظنكم تخالفون فيه.

وعليه: فلا اضطراب فيما قلتُه، وبهذا التنوع يعرَف محمل ما ظننتموه اضطراباً.
عذرا هنا فإني لم أفهم وجه كلامكم هذا.

1- قد نقلتُ عن جمع من أهل اللغة ما يفيد أن الإعفاء يأتي بمعنى التكثير والتوفير، وقد اعترفتم بخطأ اعتراضكم على كون ذلك لم يأتِ في اللغة.
2- ظاهر فعل كثير من الصحابة جواز الأخذ، والأصل وجوب الأمر بالإعفاء لا كونه مندوباً إليه فحسب.
وقد نقلتُ كلام ابن الهمام بأن هذا ما يجمَع به بين الروايات، وكلام ابن عبد البر من أن ابن عمر لم يخالف ما روى.
3- مشهور المذاهب وجمهور الفقهاء على جواز الأخذ -على اختلاف بينهم في تحديده- وتحريم الحلق.
هذا مجمل ما استدللتُ به.
هذا التلخيص جميل بارك الله فيكم.
وأزيده وضوحا وتلخيصا بالقول، وصححوني إن أخطأت، إنكم تقررون في هذه المسألة ما يلي:
1. تحريم حلق اللحية
2. جواز الأخذ منها لا مطلقا وإنما إلى حد لا يؤثر في كثرتها ووفرتها كالقبضة ونحوها
3. الدليل على تحريم الحلق هو الأحاديث الآمرة بالإعفاء. والأمر ظاهر في الوجوب
4. الدليل على جواز الأخذ فعل بعض الصحابة أو كثير منهم، وهو يُعد تفسيرا للإعفاء المذكور في الحديث.

دعني بعد هذا ألخص الآراء جميعها في المسألة:
المذاهب في هذه المسألة ما بين قدماء ومعاصرين تنحصر في أربع اتجاهات:
أحدها: تحريم الحلق والأخذ معا.
والثاني: تحريم الحلق وجواز الأخذ.
والثالث: كراهة الحلق والأخذ معا. وكلما زاد الأخذ اشتدت الكراهة
والرابع: إباحة الحلق والأخذ بحسب عرف البلد
وقد ملتم يا شيخنا الكريم إلى الرأي الثاني (تحريم الحلق وجواز الأخذ). وميلي أنا إنما هو إلى الرأي الثالث (كراهة الحلق والأخذ معا).
ومفصل الخلاف بيننا في الاستدلال هو:
أولا: حديث الإعفاء هل هو ظاهر في الوجوب أو مؤول بالندب؟
فأنتم تقولون بالأول وأنا أقول بالثاني. وقد شفعت قولي بقرائن أربعة، ولكنكم لم تروها كافية في صرف الأمر عن الوجوب.
ثانيا: تفسير الإعفاء في الحديث هل يتنافى مع الأخذ أو لا؟
فأنتم تقولون بأنه لا يتنافى:
أما من حيث اللغة فلأن الإعفاء يطلق في اللغة على مجرد التكثير كما قاله اللغويون. وأما من حيث النقل فلأن الصحابة كانوا يأخذون من لحاهم، ومنهم من روى حديث الإعفاء نفسه كأبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم.
أما أنا فرددتُ ـ وأردُّ ـ على ذلك بالقول:
أولا: من حيث اللغة: أن الإعفاء وإن دل على التكثير فإنه أظهر في الترك، ولو سلمنا أنه مشترك بين التكثير والترك فالأخذ من اللحية ينافي التكثير؛ لأن الأخذ والقص من اللحية فيه تقليل لا تكثير، وهذا ثابت بالحس، والحديث يأمر بالتكثير مطلقا.
وثانيا: من حيث النقل. من وجهين:
أحدهما: حديث أبي أمامة الباهلي وقد جاء فيه أن اليهود يقصون لحاهم فقال أعفوها وخالفوهم (بمعناه) وهو ظاهر في التنافي بين القص والإعفاء.
والثاني: قول جابر رضي الله عنه: كنا نعفي اللحى إلا في حج أو عمرة، وكذا قول نافع كان ابن عمر يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة، وهو ظاهر بل يكاد يكون قاطعا في أن فعل ابن عمر رضي الله عنه وغيره في الأخذ من لحاهم بما يزيد عن القبضة مناف للإعفاء في لغة السلف.
وعلى هذا جعلتُ فعل السلف بالأخذ قرينة على تأويل الأمر من الوجوب إلى الندب؛ لأن هذا أسلم وأسهل، لغة ونقلا، من تأويل الإعفاء بكونه لا يتنافى مع الأخذ (كما ملتم إليه تبعا لابن عبد البر وابن الهمام). هذا بغض النظر عن القرائن الأخرى الدالة على صرف الأمر إلى الندب من كون الإعفاء معللا بمخالفة المشركين، ومقترنا بالأمر بمخالفات أخرى لهم (كما في حديث أبي أمامة) هي على الندب في الأكثر، وبكونه من سنن الفطرة وهي في أكثرها مندوبة لا واجبة عند الجمهور.
وفوق هذا نقول: إن ظهور الأمر في الوجوب مختلف فيه وكثير من الأصوليين على أنه مشترك أو متوقف فيه تعتمد دلالته على القرينة. وحتى مع التسليم بمذهب الجمهور أن الأمر ظاهر في الوجوب فهو عندهم ظهور ضعيف كظهور العام في الاستغراق يُتَأوَّل بأدنى قرينة من نص أو قياس أو معنى. وكم من أمر أو نهي صرفه العلماء إلى الندب أو الكراهة بخيال قرينة أو حتى بدون قرينة ظاهرة محددة.
ولأجل هذا كله قلنا بأن الخلاف في حلق اللحية يسوغ والله أعلم، ولا حرج على المسلم أن يختار ما يناسبه من رأي في ذلك إذا اطمأن إليه قلبه. وحكم الورع في هذا لا يخفى.

بعد هذا كله أطالَب بقرائن؟!!
وسألخص القرائن:
1- النووي -كما بيَّنتُ- إنما ينقل عن غيره أن هذه الصفات مكروهة.
2- النووي في مواطن أخرى يبين أن بعض هذه المكروهات هي حرام عنده صراحةً! كالخضاب بالسواد، ولا يستبعِد تحريم نتف الشيب فهو لا يجزم بالكراهة التي تعتمد عليها في أول نقله.
3- النووي ينص على كراهة أخذ شيء يسير من اللحية (وهذا لا يكفي وحده، ولكنه مما قد يستأنس به مع ما قبله).
تلخيص جميل كالذي قبله.
أما القرينة الأولى، فقد نقله مقرا له ساكتا عليه ولم يحك خلافه، فالظاهر أنه موافق عليه والكلام في الأصل للغزالي كما هو معلوم.
وأما القرينة الثانية فضعيفة جدا لأن حكم الاقتران إن سلمنا به يدور مع الأغلب لا مع الأقل، وأكثر الخصال المذكورة مكروهة لا محرمة، فلماذا جعلته يدور مع خصلة واحدة أو اثنتين وتركت سبع خصال.
وأما القرينة الثالثة، فقد اعترفتم بأنها لا تكفي، وأقول بل هي قرينة مضادة يمكن قلبُها عليكم، لأن النووي يرى بأن الإعفاء في الحديث إنما هو الترك مطلقا كما نقلناه عنه سابقا، ومع هذا أجاز الأخذ ويلزم من هذا أنه حمل الأمر النبوي على الندب لا على الوجوب. إذ لو كان يرى الأمر بالإعفاء (الذي هو الترك مطلقا) للوجوب لحرَّم الأخذ والحلق كليهما.

وما من أحد يقرر شيئاً -بعد سبر وتحقيق وطول نظر- إلا وهو حسب علمه القاصر المتواضع، وما من بشر إلا وهو صاحب علم قاصر متواضع.
وكون الهيتمي والرملي عمدتا المتأخرين لا يعني أن ينسَب ذلك للإمام النووي دون تتبع؛ لأن من كبار أئمة الشافعية من اعترض على كلامهما، فكيف لنا أن ننسب قولاً للنووي دون تحقق؟!
وما أدراك يا أخي الكريم أن الرجل قرر ما قرر بعد سبر وتحقيق وطول نظر؟ وما هي منزلة هذا الرجل في المذهب حتى نأخذ بحكمه الذي تفضلت به؟ وكيف يكون سابرا للمذهب وهو لا يدري ما هو القول في الكتب التي هي معتمد المتأخرين في المذهب؟ إذا أردنا أن نحسن الظن في قوله ـ وهذا هو الأصل ـ فنحمل كلامه على أن المذهب هو ما قرره الشافعي ولا يعتد بمن خالف نصه من الأصحاب فمن دونهم، فهذا صواب وقد قال ذلك الأذرعي من قبل كما نقلنا كلامه فكان الأولى أن تنقل كلام الآذرعي لا قول هذا الرجل كونه غير معروف في أهل المذهب.
وأما نسبة القول إلى النووي فيكفي الاعتماد في ذلك على ظاهر قوله، وهو ما جرى عليه أهل المذهب، ولم تأتوا، بارك الله فيكم، بشيء ذي بال ينقض هذا الظاهر.
وبارك الله فيكم.
 
إنضم
26 مارس 2009
المشاركات
753
الكنية
أبو عمر
التخصص
(LL.M) Master of Laws
المدينة
القريات
المذهب الفقهي
حنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

عرفنا رأي شيخنا أيمن في أن الخلاف في حلق اللحية خلاف سائغ فما هو رأي شيخنا باجنيد؟
 
إنضم
21 أغسطس 2009
المشاركات
213
التخصص
طويلب علم مبتديء
المدينة
الثغر الإسكندري
المذهب الفقهي
شافعي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

جزى الله الشيخين خير الجزاء على هذه المساجلة الماتعة الرائعة المليئة بالدرر واليواقيت وكذلك محاسن الأخلاق والأدب الجم
نقاش تعلمنا منه العلم والأدب شكر الله لكم
أسأل الله أن يبارك في شيخي ومعلمي ومن أحبه في الله كثيرا الشيخ أبي بكر باجنيد حفظه الله ونفع بعمله
كما أسأله جل في علاه أن يبارك في الشيخ أيمن علي حفظه الله والذي أود أيضا أن أخبره أني أحبه في الله
 

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

جزى الله الشيخين خير الجزاء على هذه المساجلة الماتعة الرائعة المليئة بالدرر واليواقيت وكذلك محاسن الأخلاق والأدب الجم
نقاش تعلمنا منه العلم والأدب شكر الله لكم
أسأل الله أن يبارك في شيخي ومعلمي ومن أحبه في الله كثيرا الشيخ أبي بكر باجنيد حفظه الله ونفع بعمله
كما أسأله جل في علاه أن يبارك في الشيخ أيمن علي حفظه الله والذي أود أيضا أن أخبره أني أحبه في الله
بارك الله فيك وأحبك الذي أحببتني له.
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

وقد لجأتم إلى حذف باقي الأثر حتى لا يظهر ضعف التأويل،
حفظكم الله، ما فعلتُ هذا إلا اختصاراً لا لهذا الغرض الذي لا أظن أنني كنتُ يوماً من أهل التدليس لصالح قول أو رأي أو شخص.

فسيكون المعنى كالتالي: إن أكثر من استمتع كان يستمتع بالقبضة من الطعام الأيامَ حتى نهانا عمر عنه (أي الاستمتاع بالقبضة الأيام). وهذا معنى باطل اتفاقا،
لا يلزم -جزاك الله خيراً- أن يكون المعنى بالصورة التي ذكرتم، وأنا أتحاشى أن يطول الجدل في مسائل متعلقة باللغة والجرح والتعديل ستأخذ وقتاً وتخرجنا عن صلب المقصود، لا عجزاً عن المناقشة فيها.

ولو سلمنا أنه مشترك بين التكثير والترك فالأخذ من اللحية ينافي التكثير؛ لأن الأخذ والقص من اللحية فيه تقليل لا تكثير، وهذا ثابت بالحس، والحديث يأمر بالتكثير مطلقا.
لم نقل إن ذات الأخذ هو التكثير والتوفير، وإنما التكثير والتوفير أن لا يجزها إلى حد لا تكون معه وفيرة..
ولأضرب على ذلك مثلاً: من ترك لحيته إلى سرته دون أن يقص منها شيئاً هو موفر لها، ولو قص منها ما استرسل من ذلك تحت صدره فهو موفر لها، لا بالأخذ، وإنما بكونه أبقى منها ما هو كثير وافر.

حديث أبي أمامة الباهلي وقد جاء فيه أن اليهود يقصون لحاهم فقال أعفوها وخالفوهم (بمعناه) وهو ظاهر في التنافي بين القص والإعفاء.
هذا محمول عندي على الجز والإنهاك
بدليل ما جاء من الأمر بقص الشارب في الشرع، وقد وردت الألفاظ فيه بالقص والجز والإنهاك.

وأما القرينة الثانية فضعيفة جدا لأن حكم الاقتران إن سلمنا به يدور مع الأغلب لا مع الأقل، وأكثر الخصال المذكورة مكروهة لا محرمة، فلماذا جعلته يدور مع خصلة واحدة أو اثنتين وتركت سبع خصال.
الصواب في دلالة الاقتران -والله أعلم- أنها ليست على رتبة واحدة، ولا أدري إن كنتم تقولون بوجوب الختان مع اقترانه بأربع خصال مسنونة (الاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) في حديث الصحيحين، ولا أظنكم تقولون بضعف القول بوجوبه كذلك..

وقد تجيب فتقول: إن الخصال المقترنة في حديث "الفطرة خمس" قد جُمِع بينها بلفظ "الفطرة"، فصار الاشتراك في هذا الإطلاق وحده، ثم إن الجمل هنا مستقلة.
قلت: هذا جواب صحيحٌ مليح، وما نطقتم به سديد فصيح، ولكنَّ قصد المتكلم ظاهرٌ في أنه لم يرد بالكراهة: كراهة التنزيه وحدها، وإنما الجمع بين ما كره تنزيهاً وتحريماً.
ولا يقال هنا: إن الأصل في كلامهم هو حمل الكراهة على التنزيهية؛ إذ أثبتُّ هنا بالمثال أنه لم يُرِد ذلك، فلا يصح أن يستدل بهذا النص من الإمام النووي على كراهة الخضاب بالسواد كراهة تنزيه لمجرد إطلاق الكراهة وقرنه بما هو مكروه تنزيهاً، فبطل الطرد الذي اعتمدتم عليه.

وأما القرينة الثالثة، فقد اعترفتم بأنها لا تكفي، وأقول بل هي قرينة مضادة يمكن قلبُها عليكم،
نعم، وأكرر الاعتراف بذلك، ولكنَّ القلب هنا ليس قوياً؛ لأن من عرف طريقة الإمام النووي -رحمه الله- في الاستدلال، فلا أظنه يجزم بأنه يرى مجرد كراهة الحلق. ولبيان هذا سيتطلب الأمر مني كتابةَ بحثٍ مطولٍ استقرائي لا أجد وقتاً ولا همةً لكتابته، وجزاكم الله خيراً على هذا المحاورة الماتعة والمناظرة النافعة.
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

جزى الله الشيخين خير الجزاء على هذه المساجلة الماتعة الرائعة المليئة بالدرر واليواقيت وكذلك محاسن الأخلاق والأدب الجم
نقاش تعلمنا منه العلم والأدب شكر الله لكم
أسأل الله أن يبارك في شيخي ومعلمي ومن أحبه في الله كثيرا الشيخ أبي بكر باجنيد حفظه الله ونفع بعمله
كما أسأله جل في علاه أن يبارك في الشيخ أيمن علي حفظه الله والذي أود أيضا أن أخبره أني أحبه في الله
وجزاك خيراً، وأحبك، وشكر لك أن كنتَ سبباً في هذه الإفادات والإضاءات..
وما أنا إلا كحامل التمر إلى هجر،
والله المستعان.

وألتمس العذر من الشيخ أيمن -وفقه الله- إن بدا مني ما يسوء، فالمناظرات لا تخلو من تعريض، فليعفُ مأجوراً وليصفح مشكوراً.
 

د. أيمن علي صالح

:: متخصص ::
إنضم
13 فبراير 2010
المشاركات
1,023
الكنية
أبو علي
التخصص
الفقه وأصوله
المدينة
عمان
المذهب الفقهي
الشافعي - بشكل عام
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

أنا الذي يلتمس العذر منكم يا شيخ أبو بكر، ولم أر منكم إلا كل جميل ومفيد.
لقد أفدتمونا جدا في هذه المباحثة، جزاكم الله خيرا، ولا بأس أن تنتهي مناقشاتنا إلى هذا الحد من عدم الاتفاق فما زال أهل العلم يخالف بعضهم بعضا.
وإلى لقاء علمي في موضوع آخر إن شاء الله تعالى.
 

أبوبكر بن سالم باجنيد

:: مشرف سابق ::
إنضم
13 يوليو 2009
المشاركات
2,540
التخصص
علوم
المدينة
جدة
المذهب الفقهي
الحنبلي
رد: هل يسوغ الخلاف في حكم إعفاء اللحية ؟؟

عرفنا رأي شيخنا أيمن في أن الخلاف في حلق اللحية خلاف سائغ فما هو رأي شيخنا باجنيد؟
ما خالف النص الصريح أو الإجماع المتحقق فليس القول به سائغاً.. والظاهر هنا -والله أعلم- أن الإجماع متحقق، وعليه فلا يسوغ القول بجواز حلق اللحية بالكلية.

ولكن القائل بذلك قد يكون معذوراً في نفس الأمر، فعدم تسويغ الخلاف لا يلزم منه تأثيم المخالف.

 
التعديل الأخير:
إنضم
17 مارس 2012
المشاركات
22
التخصص
دار علوم
المدينة
القاهرة
المذهب الفقهي
الشافعى
رد: هل الخلاف في حكم إعفاء اللحية يسوغ ؟؟

رد: هل الخلاف في حكم إعفاء اللحية يسوغ ؟؟

كود:
 كالأمر بالصلاة في النعال
جاءت القرينة بصرفه من الوجوب للأستحباب
.
كود:
: ثبوت الأخذ من اللحية من طولها وعرضها عن بعض الصحابة والسلف منهم ابن  عمر رضي الله عنه راوي حديث الإعفاء، وهذا مناف لظاهر الإعفاء المذكور في  الحديث فدل هذا على أنهم فهموا أن الأمر للندب لا الإيجاب، لأنه لو كان  للإيجاب لحرم الأخذ والقص والحلق سواء.
هذا موقوف على بن عمر
كود:
أن الأمر بإعفاء اللحية إنما يقع في باب المظاهر والتحسينيات والتكميليات وهذه الغالب فيها الندب والإرشاد لا الإيجاب
نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن القزع والتبرج ولعن المتنمصات وكلها أمور من المظاهر
 
أعلى